icon
التغطية الحية

سردية "حَـلّـول" البراغماتي مِن راحة الموالِد إلى الباغوز | قصة

2024.06.09 | 09:02 دمشق

567567
+A
حجم الخط
-A

لوحٌ صغير من حلوى "الراحة" يُقدَّم للجالسين بعد طقسٍ من الإنشاد والتمايل والضرب على الدفّ، كان كفيلاً بتوجّه غالبية أطفال حيّنا إلى جامع "الفردوس" عقب صلاة العشاء من كل ليلة خميس، والمشاركة في طقوس "المولِد" الديني الذي اعتاد بعض أتباع الطرق الصوفية على إحيائه في مدينتي، دير الزور، خاصة في فصل الصيف الذي كانت ساعات ظهيرته تذكّرنا بنار جهنم، تقريباً.

كنتُ واحداً من "شلّة" أطفال اجتذبتهم نغمة وترانيم المنشدين، وقطعة "الراحة" المعجونة بالفستق الحلبي، وأحياناً بدون فستق حلبي، بل وبدون حتى راحة؛ على حسب الوضع المادي للمتبرّعين (المتصدّقين) بالسكاكر في تلك "الموالد". كان والدي –رحمه الله- من بين أولئك المتبرعين، رغم تعارضه ومتبرعين كُثر مع مفاهيم المتصوفين وموالِدهم.

في نهاية أحد الموالد الخميسية، تقدم الشيخ "حَـلّول" باتجاهنا حاملاً كيس الراحة. مدّ يده بداخل الكيس، وقبل أن يخرجها رمقنا بنظرة حسبناها الموت ثم صاح بوجهنا: "هذه المرة سأعطيكم الراحة ولكن لا أريد رؤية وجوهكم هنا في المرة القادمة.. هناك مساجد أخرى في الدير تقيم الموالد وتوزع قطعاً أكبر من هذه. أنصحكم بالذهاب إليها".

وزع حلّول علينا قطع الراحة ثم أردف:" هيا يا أولاد خذوها وانصرفوا". فما كان منّا إلا سحب القطع من يده والركض نحو باب الجامع. انتشلنا أحذيتنا ثم هربنا بأقصى سرعة خوفاً من دعوات ربما يطلقها علينا الشيخ فتحوّل الراحة إلى "سيانيد".

***

قبل حلول ذلك الصيف، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن حلّول المستَخدَم المسؤول عن الجامع، وكل ما نعرفه حينذاك أن الموظف المسؤول عن الجامع هو نفسه المؤذّن فيه، "أبو نوري"، صاحب أجمل صوت يردد الأذان في المنطقة والمعروف بطيبته وزهده. كانت تربط بين حلول والمؤذن صلة قرابة بعيدة، وبعد هروب حلّـول من منزل ذويه بسبب قسوة أبيه "السَكَرجي" -على ذمة أهل الحارة، قرر أبو نوري أن يكفل حلّول -كان عمره حينذاك يقارب الـ18 عاماً- ويعتني به. فأسكنه داره وراح يعامله مع زوجته "أم نوري" كواحد من أولادهما الخمسة.

وخلال الأعوام الثلاثة التالية التي قضاها حلّول في عهدة وحماية المؤذّن العجوز، كان مرافقاً ومساعداً للأخير في الجامع والبيت، وفي كل خطوة يخطوها أبو نوري، إلى أن توفي في أواخر الشتاء الأخير.

علمنا بعد ذلك أن حلّول أصبح المستخدم المسؤول عن الجامع بقرار من "مديرية الأوقاف" بعد توسّط خطيب وإمام الجامع "أبو مرعي الجادري"، كرمى لذكرى صديقه الراحل "أبو نوري".

ولأن حلول لا يجيد رفع الأذان، فقد خصصت الأوقاف مؤذناً جديداً للجامع بدل المرحوم "أبو نوري". ومنذ ذلك اليوم، أُلحِقت صفة "الشيخ" باسم حلّول تدريجياً، علماً بأنه لا علاقة له بالمشيخة بكل أشكالها وأصنافها؛ الدينية منها والعشائرية والعُمْرية، ولا حتى بشيخ المحشي!

***

بعد أن طردنا حلّول من الجامع، رحنا نسير نحو منزل صديقنا "علّاوي"، أحد أفراد الشلّة، ونحن "نشُطّ ونمُطّ" بالراحة بين أسناننا ونتساءل فيما بيننا عن السبب الذي دفع حلّول لطردنا. إلا أن انشغالنا بـ "عضّ" الراحة جعلنا نؤجل النقاش.

لدى وصولنا إلى منزل الصديق، تباحثنا الوضع كثيراً وفشلنا في إيجاد مبرر لفعلة حلّول "السودا"، ولكننا قررنا العودة إلى الجامع حين يقام مولد آخر، بهدف إزالة إشارة الاستفهام التي ظلّت تلازم رؤوسنا طيلة الأيام التي سبقت موعد المولد القادم.

في مساء الخميس التالي، وعندما كنت أهمّ للخروج من البيت لملاقاة أصحابي والتوجه إلى الجامع، سألني والدي إن كنت سأذهب إلى المولد أم لا، فأجبته بأن نعم. عندها ناولني خمسمئة ليرة وأوصاني بشراء صندوق من الراحة ووهبه إلى المسجد كي يتم توزيعها على المشاركين في "الفعالية". في تلك اللحظة، خطرت ببالي فكرةٌ حسبتُها الأكثر عبقرية في كل حياتي السابقة والمقبلة وما بينهما، حين قررت شراء 20 مصحفاً صغيراً بدل الراحة وإعطائها لـ حلّول، علّه يغيّر نظرته السلبية تجاه الشلّة.

وحين شاورت أفراد الشلة بفكرتي "السامية"، أبدوا إعجابهم بها وتأييدهم لتنفيذها، فتوجهنا نحو مكتبة تقع في شارع "التكايا" وسط المدينة، كنا نعلم بأنها تبيع المصاحف بمختلف أحجامها. اشتريت المصاحف ووضعتها في صندوق (كرتون)، ثم تناوبت وأصحابي على حملها إلى أن وصلنا جامع حلّول، أقصد "الفردوس".

فور دخولنا إلى مصلى الجامع لمَحَنا حلّول، فقام من مجلسه وتوجه إلينا مبتسماً على غير العادة، خاصة بعد أن شاهد الصندوق بين ذراعيّ، ثم رحّب بنا وهلّل بمجيئنا بعد أن تناول صندوق المصاحف ودعانا للجلوس بجانب المشاركين ضمن الحلقة الدائرية المزدوجة، والاستماع إلى الأناشيد الدينية.

جلسنا على سجادة الجامع بعد توسيع مساحة الحلقة، وخطوط ابتساماتنا تكاد تلامس شحمات آذاننا، ثم رحنا نتمايل يمنة ويسرة مع أصوات المنشدين... إلى أن أحسست بيد حلّول وهي تجرني من كتفي، فوقفت على الفور ورافقته -قسراً- إلى زاوية المسجد مبتعداً عن المجموعة. وعند صندوق المصاحف سألني حلّول: "ما هذا؟".

-"إنها مصاحف لتوزعها على الحاضرين"

-"من أين جئت بها؟"

-"من المكتبة"...

-"ألا تعرف بأن المصاحف لا تؤكل؟"

-"نعم أعرف.. ولكنها تُقرأ، وأجرها أكبر من أجر ألواح الراحة!"

-"وماذا تفعل كل هذه المصاحف في هذا الجامع؟"، سألني وهو يشير إلى المصاحف المصفوفة فوق الرفوف على جدران الجامع.

-"إنها ليست للمسجد.. قلت لك بأنها توزّع على هؤلاء الناس".

-"بكم اشتريتها؟"

-"لا يجوز هذا السؤال.. يجب أن تقول بكم استوهبتها"

-"انظر إلي جيداً.. أمامك خياران، إما أن ترجعها وتأتيني بنقودها، وإما أن تشتري بالنقود صندوقاً من الراحة وتأتي به إلى هنا.. فهمت!"

-"لماذا؟ لقد ظننت أنها أكثر فائدة وثواباً من قطع الحلوى".

أمسكني حلول من كتفي ثانية وقرّب فمه من أذني حتى كاد يدخلها، ثم همس: "ألم أوصيك بألا تأت إلى هنا مجدداً؟ اسحب أصحابك بكل هدوء وانقلع، هيّا.. فاليوم لا يوجد لدينا راحة ولا سمّ الهاري..".

عدت إلى حيث يجلس أصدقائي وهمست لهم بمغادرة المكان، ثم انسحبنا بخفّي حنين، ومن دون أن يسمح لي حلّول باسترجاع الصندوق!

***

مرّت أيام وشهور وسنون، علمت خلالها أن حلّول تمكّن من الحصول على شهادتي الصف التاسع والبكالوريا "الشرعية" -بقدرة قادر، وذلك بعد زواجه من ابنة خطيب وإمام المسجد الجديد القادم من ريف الحسكة، بديل الخطيب السابق "أبو مرعي" الذي اعتقل من قبل فرع الأمن العسكري على خلفية خطبة جمعة ألقاها في أواخر آذار 2011، وأعلن فيها وقوفه إلى جانب ثورة السوريين، بناء على تقرير أمني وصل إلى الفرع المذكور، يقول أهالي المنطقة أن كاتبه هو حلّول على حد زعمهم.

ونظراً لعضويته العاملة في "حزب البعث"، تسلّم حلول منصب مدير الأوقاف في المدينة بعد أسابيع قليلة من حادثة اعتقال "أبو مرعي"، ثم تمكّن بعد مدة وجيزة من افتتاح محلّ كبير لبيع السكاكر وقطع الراحة بأنواعها، قبل أن يختفي عن المشهد لبعض الوقت.

مضت نحو 9 سنوات قبل أن ألتقي مجدداً بصديقي العتيق "علّاوي" الذي تمكّن من العبور إلى تركيا منذ أشهر قليلة. وبعد أحاديث وذكريات وشجون، ورد اسم حلّول في السياق، فسألته إن كان على علم بأخباره.

ضحك علاوي طويلاً وأخذ يضرب كفيه ببعضهما من دون معرفتي سبب ذلك. وبعد أن تنهّد قليلاً، أجابني:

"بعد اختفاء حلول أواخر العام 2014، علمنا بأنه انضمّ إلى (داعش) في مدينة الرقة، وصار أحد أمراء التنظيم. بعد ذلك وصلتنا أخبار بأن الأميركان و(قسد) ألقوا عليه القبض في الباغوز، آخر معاقل التنظيم...".

  • "العما!"، صحتُ بعلاوي الذي أردف: "ثم وردت أخبار متقاطعة بأنه قُتل قبل نحو سنتين بالحسكة...".

قاطعته قائلاً: "أكيد بمخيم الهول أو سجن الصناعة.. أليس كذلك؟".

أجاب وهو يعيد ضحكته الأولى: "لا.. قُتل بكمين نفذته خلية من خلايا داعش بعناصر وقياديين بـ قسد".

قاطعته مجدداً: "كان مع أفراد الخلية إذن؟".

  •  "لا.. كان أحد قياديي قسد"!

وتشاركنا الضحكة سويّة...