icon
التغطية الحية

سردية (أبو عدّاي) | قصة

2023.05.15 | 13:59 دمشق

قصة
+A
حجم الخط
-A

"ليس أمامنا مكان يؤوينا سوى منزل (دحّام) في المزة الشرقية، فهو يقع وسط منطقة السفارات ومنازل وبنايات المدعومين، ولذلك لن يشكّ أحّد بوجودنا هناك. يعني كما يقول المثل: الحرامي يختبئ فوق سطح المخفر!".

تلك كانت نصيحة "صلاح" على (الموبايل) بعد علمه بفراري الناجح من دير الزور في أثناء حملة التفتيش عن أسماء المطلوبين؛ وكنا، صلاح وأنا، من بين الأسماء المسجلة في رأس القائمة.

جرى ذلك بالتزامن مع الاقتحام الأول لـ (حماة الديار)، صيف 2011.. وصلت بعد 14 ساعة من ذلك الاقتحام إلى دمشق بهوية صديق يشبهني، وبـ بنطالي وقميصي وحذائي الرياضي المنهك. أما صلاح، فكان قد غادر الدير قبل يومين من توغّل الآليات والعساكر في الحارات والأحياء، ليقينه التام بأن الأخيرين سيقتحمون المدينة من كل بدّ، ولن توقفهم بنادق الصيد و(البومبكشنات) و(المولوتوف) والخمسين متطوعاً في الجيش الحر بحي "الجورة" عند مدخل الدير الغربي. وهذا ما حصل بالضبط.

قبل إنهاء المكالمة، سألت عن حال دحّام ومنزله، فأكّد لي بأن (أبو عدّاي)، وهو لقب دحام، صديق طفولته وجاره الحبّاب؛ ومن الثوار الملتزمين والأوادم، وشاب واعٍ ومثقف وطالب في جامعة دمشق، بالإضافة إلى أنه حريص جداً على سلامتنا.. ثم أنه مُصرّ على مجيئي والتعرف إليّ عن قرب، والاحتماء داخل بيته، فهو "له الفخر في استضافتنا لأنه وبيته تحت خدمة الثوّار"؛ هكذا نقل لي صلاح كلام (أبو عدّاي).

كنت أثق كثيراً بآراء صلاح وتحليلاته السياسية والعسكرية الميدانية، لا سيما بعد إثباته ضحالة وسذاجة توقعاتي حين تحقّقت نبوءته الأخيرة باختراق جيش النظام مركز الدير، وفراره المبكّر قبل إحكام قبضته على مداخل الحارات ومخارجها والتفتيش عن المطلوبين؛ فسافر مرتاحاً برفقة إخوته الثلاثة، بكامل حاجياتهم، بعكس ما حدث معي حين صعدت من خلال "مَنْــوَر" البيت إلى السطح، وقضيت أكثر من 5 ساعات وأنا أتسلّق الحيطان وأزحف فوق أرصفة الحارات و"أتمرمط" بين عربات سوق الهال، وصولاً إلى (كراج البولمان) لأدفع في نهاية المطاف ثلاثة أضعاف ما دفع صلاح للحجز إلى دمشق!

****

ما علينا.. أنهيت الاتصال مع صلاح بعد اتفاقنا على اللقاء في اليوم التالي من (النزوح) ومن ثم اللوذ ببيت (أبو عدّاي).

وبالفعل، التقيت صلاحاً في الزمن المحدد بالقرب من مبنى "صحيفة البعث" (وزارة الإعلام) المطلّ على أوتوستراد المزة؛ وكنت قد وصلته بعد نحو ساعتين من السير على الأقدام من مكتب صديقي المحامي "بهاء الساير" الذي نمت فيه ليلة وصولي دمشق، وكان يقع في الشارع المقابل لمقرّ "البحوث العلمية" في حي برزة.. نفس المقر الذي قصفه الأميركان ذات مرة.

خلال مسيري القسري، هرباً من الحواجز الأمنية التي تتصيّد ركاب السيارات الخاصة والتكاسي العمومية في الشوارع، متوجهاً نحو "البعث" للقاء صلاح، تقصّدت المرور بحيّ المزرعة، حيث بيتنا، لعلّ الصدفة تقف بصفّي هذه المرة وتجعلني ألمح أحّد أطفال أخواتي اللواتي نزحن إليه مؤخراً، يلعبون قرب المدخل، لأحتضنهم وأُقبّلهم قبل متابعة سيري، من دون إثارة انتباه "نوري" المُخبِـر الأعرج، صاحب "الكشك" المرخّص من فرع مخابرات "الفيحاء". إلا أن دعائي لم يستجب، كالعادة، لأضطر للعودة مجدداً إلى شارع "الثورة" بعد اكتشافي وجود حاجزٍ جديد للجيش العربي السوري المغوار وحامي الديار عند باب بنايتنا بالضبط.

في الطريق، وعند بداية أوتوستراد المزة بالقرب من كلية الآداب التي تخرجت منها قبل عقد من الزمن، شعرت برائحة كريهة تحاصر منخاري.. ظننت بادئ الأمر أنها رائحة تعرّق جسدي، لكنها كانت أشدّ وقعاً على حاسة الشمّ. استنتجت لاحقاً بأنها رائحة جواربي التي اخترقت جلد الحذاء وراحت تفوح شاقولياً نتيجة قوانين التبخّر والحرارة والغازات الخفيفة الصاعدة.. وقوانين فيزيائية أخرى راحت تنكز مخيلتي وتنسيني عناء الطريق رغم كرهي المتجذّر للفيزياء ونيوتن وأرخميدس.. وأدونيس!

 تقابلنا، وتعانقنا كعناق كاسترو وجيفارا بعد انتصار ثورتهم الكوبيّة، مع حفظ الفارق بالطبع بين الثورتين وبين المكانين.. وبالتأكيد بين الشخصيات أيضاً.

توجهنا نحو بيت ملاذنا (أبو عدّاي)، عبر الحارات الخلفية التي بلغناها بعد تجاوزنا لبنايات المزة "المروحية"، بطريقة المحقّق كونان، خوفاً من أجهزة الأمن التي نتحسّس وجودها في كل متر مربع يحيط بخطواتنا.

ولم تمضِ أكثر من ربع ساعة حتى توقفنا أمام جدار قديم يرتفع عن الرصيف مقدار مترين ونصف المتر، ويمتد قرابة خمسة أمتار. كان الجدار يتوسط بنايتين حديثتين، تتكونان من عشرة طوابق وربما أكثر، وفي وسطه تماماً يوجد باب مصنوع من الحديد الرقيق (الصاج)، تقشّر طلاؤه الأبيض المُصفّر مع الزمن، بفعل الحرارة والأمطار.. وعوامل الفيزياء عينها التي أكرهها، لتغطيه بقعٌ حمراء سبّبها الصدأ.

لاحظ صلاح استغراب نظراتي بعد توقفنا عند الباب، فابتسم بسخرية وسألني: ما بك؟

فأجبته متسائلاً: هل سندخل إلى "كراج" أم حديقة، أم ماذا يوجد وراء هذا الحائط بالضبط؟!

ضحك صلاح ثم اقترب مني هامساً: هذا هو الوِكر السرّي الذي كلمتك عنه.. وكر (أبو عداي) الحبيب.

لم يكن يوجد جرس، فطرق صلاح الباب طرقتين قويتين سريعتين، اهتز على إثرهما الحائط مع الباب، أما الطرقة الثالثة، فكانت كفيلة بفتحه على مصراعيه.

- "اتفضّل يا حبيب".. قالها صلاح وهو يمد يده نحو الداخل، ثم أردف: "لكن انتبه وأنت تنزل الدرج".

خطوت ببطء متجاوزاً الباب، وكان الداخل مظلماً بداية الأمر إلا أن الصورة بدأت تتكشّف شيئاً فشيئاً بعد اتساع بؤبؤ عيني ليتأقلم مع ضوء المكان –عدنا إلى الفيزياء لعنها الله- ثم نزلت ثلاث درجات بحذر شديد إلى أن وصلت الأرض.

خلال نزولي الدرجات، وقبل أن تطأ قدماي الأرض، كنت أسمع أصوات الترحيب والتهليل من الداخل: "يا أهلاً وسهلاً.. الحمد لله على السلامة.. حلّت البركة.. يا حيّاك الله...".

****

جالت عيني في المكان لأفاجأ بوجود “عبود” و"قدّور" و“رزّوق” إخوة صلاح، جميعهم مطلوبون أيضاً للمخابرات في الدير، بتهمة التظاهر والتحريض عليه.. نفس جرمي الذي أُضيفَ إليه في نشرة المطاليب: "وصديق الفنانين!".. أعرف جيداً بأنكم متعجبون من هذا الجرم، وأنا مثلكم، فلهذه اللحظة، وبعد انقضاء 12 سنة، ما زلت أبحث في كتب القوانين الجزائية من دون نتيجة.

عانقت الثلاثة وجلست أنا وصلاح على الأريكة المقابلة لأريكة إخوته، ثم تابعت استكشاف المكان.

المنزل كان عبارة عن غرفةٍ بداخل غرفة أخرى.. نعم، هو هكذا بالضبط، ولا أستطيع وصفه إلا بهذه الصورة: غرفة صغيرة نجلس فيها، فُتح في أعلى حائطها الأيمن شبّاك صغير مربع الشكل للتهوية، وعند حائطها الأيسر باب يُدخِل إلى مطبخٍ صغير، وفي صدر الغرفة باب آخر للعبور إلى الغرفة الثانية التي يوجد على حائطها الأيسر أيضاً باب صغير يؤدي إلى الحمام. كل تلك التفاصيل ضمن مستطيل مساحته لا تتجاوز 50 متراً، بحسب قوانين الهندسة والرياضيات هذه المرة.

الغرفة الداخلية احتوت سريراً وأريكة عريضة، بينهما سجادة تشبه سجادة بيت جدي، رحمه الله، التي بقيت ممدودة منذ اليوم الأول لزواجه من جدتي، رحمها الله، وظلّت ممدودة إلى يوم الاقتحام الثاني للدير حين تم "تعفيشها" (يعني بعد قرابة 73 سنة من مدّها).

المهم، على السجادة إسفنجة كانت مخصصة لنوم صلاح، الذي يزن ما يزيد على 110 كيلو غرامات.

ألحّ عليّ الشباب بالدخول إلى الغرفة والنوم على السرير، لأرتاح قليلاً ريثما يأتي مضيفنا (أبو عدّاي) "الغالي".. لكني استبقت الحدث ورحت أشرح لهم سبب الرائحة "القاتولية" التي "عبقت" واحتلت الغرفة بمجرد مضي دقيقة وبعض الثواني على جلوسي، بالرغم من عدم خلعي للحذاء!

تقبّل الشباب الموضوع بصدر رحب -وأساساً لا خيار أمامهم سوى ذلك. ثم أرشدوني إلى الحمام وراحوا يناولوني ثياباً نظيفة من خلف الباب، وناولتهم بدوري ثيابي وجواربي بعد أن حشرتها بكيسيّ بلاستيك وربطتهما، ثم أوصيتهم برميها داخل أبعد حاوية بالحارة.

****

خرجت من الحمام، نظيفاً لامعاً عَطِراً، وصلاح مستلق على إسفنجته يدخّن سيجارة (حمرا طويلة) ويقلّب صفحة (الفيس بوك) على هاتفه ذي الشاشة الصغيرة الملتصق بطرف أنفه وكأنه يأكله.

- ما الأخبار؟

- نعيماً "احميد".. اتركنا من الأخبار الآن وحاول أن تنام لترتاح قليلاً.

استلقيت على السرير. وبرغم توفّر جميع الشروط الفيزيائية –تبّاً- المناسبة لمعادلة النوم، من حمّام دافئ، واسترخاء على سرير رفّاس له صرير، وضوء غرفةٍ محروق؛ إلا أنني بقيت مستيقظاً أفكّر بتفاصيل ما تخبّئه الساعات والأيام القادمة.

وأنا على هذه الحال، وإذ بصوت باب البيت يُفتح ويُغلق. وبحسب تحيّات الشباب في الغرفة الخارجية عرفت أن الداخل هو (أبو عداي) "السبع".

رفع صلاح رأسه، وبسبب الظلام راح يقرّبه ببطء نحو عينيّ لينظر إن كانتا مفتوحتين أم غلبهما النوم؛ فقفزت عن السرير قفزةً اهتزّ على إثرها كرش صاحبي وجعلته يلعن الساعة التي جمعتنا بمظاهرة شارع "التكايا" بالدير.

- دعنا ننهض لأسلّم على "السبع" (أبو عدّاي).. ويجب أن نتحدّث بخصوص بعض الأمور. قلت لصلاح.

 دخلنا، أو خرجنا -لا يهم- إلى غرفة الشباب؛ ومباشرة هَـمّ عبود ليعرفني على (أبو عدّاي) "المخلّص"، فقاطعه الأخير قائلاً: ولو.. وهل هناك من لا يعرف أبو حميد (اسم الدلع الخاص بي).. يا حلّت علينا البركة.

كان (أبو عداي) شاباً متوسط الطول، نحيل الجسد، بملامح وجه ناعمة وعينين خضراء واسعتين، وذقن كثيفة، مائلة للاحمرار.

مدّ يده وضمّني بشدّة وهو يهلّل ويرحّب ويبارك، بصورةٍ أشعرتني وكأني "هوشي منه".

شكرت (أبو عدّاي) على الاستقبال الحنون والحار ثم حلفت عليه أن يجلس مكان رزّوق، الذي أخلى ساحة جلوسه على الأريكة فور انتهائنا من طقس الترحيب المبالغ به لدرجة (التجحيف)، إلا أن صوت الباب الخارجي وهو يُفتح بطرقة عنيفة كتلك التي فعلها صلاح لحظة قدومنا، جعلتني أتسمّر وأنظر برعب صوب الخيال الواقف أعلى الدرج..

تبادر لي فور خلع الباب أن أقفز صوب فتحة التهوية الصغيرة.. كما فعلت حين هربت من عساكر الاقتحام عن طريق (مَـنْوَر) بيت الدير قبل يومين..

- "رأيت هذا الكيس عند الباب، فقلت لنفسي بأنه لك بالتأكيد".

رمى الرجل كيساً صغيراً صوب (أبو عدّاي) ثم انصرف بعد أن أعاد الباب إلى مكانه.

- "عادي.. لا تهتموا.. إنه جاري (أبو علّاوي)، زوج أم علّاوي التي استأجرتُ منها المنزل"، قال لنا (أبو عداي) ثم راح يقصّ علينا تاريخ أبي علّاوي مذ كان مساعداً في الجيش، وكيف استطاع الأخير (تشليح) البيت من صاحبه الأصلي سنة 1980 كونه يخضع لقانون الإيجار القديم، وتهديد صاحبه بالانتماء إلى (الإخوان)، ثم كيف اقتطع من حديقة البيت الخلفية مساحة 50 متراً مربعاً ليقيم عليها المكان الذي كنا نجلس فيه تلك اللحظة، ليستفيد من نقود تأجيره.

بعد انتهاء (أبو عدّاي) من سرده التاريخي "المشوّق" تقاسمنا، نحن الستة، الأريكتين، وكان نصيبي الجلوس إلى يمين صلاح الذي احتل وسط المكان. وبعد أن ضاق نفسي وتقلّصت أضلعي رحت أسأل (أبو عداي)  عن تفاصيل المنزل، والحارة، والحديقة القريبة، والبقاليات، بالإضافة طبعاً إلى قصة الباب الذي يُفتح بخبطة يد، إلى أن بادرني صلاح قائلاً: "أبو حميد، أنت هنا أكبرنا سنّاً وعلماً، لذلك أملِ علينا ما تراه مناسباً، لأننا يجب أن نكون حذرين.. وعلى ما يبدو شغلتنا مطوّلة".

كان صلاح يتحدث ملتفتاً نحوي.. فالتصق الفَصّ القفوي لجمجمتي بالحائط؛ وقبل أن يُكمل فَعْسي نهضت وجلست على عتبة الدرج. وعندما حاول قدّور النهوض لأجلس مكانه، صحت بالجميع: أنا مرتاح.. تقصّدت الجلوس هنا كي أراكم جميعاً، والآن استمعوا إلي...".

 رحت بعدها أشرح لهم الوضع الأمني والمعيشي المحيط بالمنزل، وأوزّع عليهم الوظائف والمهام والتدابير الوقائية والأمنية داخل المنزل وخارجه.

كان الخمسة ينصتون لتعليماتي بشغف وصمت، وهم يهزون رؤوسهم للأعلى والأسفل.. وكنت أملي عليهم التعليمات كـ (آل باتشينو) في فيلم (العراب 2).

****

كلّفتُ عبود، الأصغر بيننا، بعملية شراء الدخان والخضروات من البقالية التي يديرها رجل عجوز عند طرف الحديقة. أما رزوق و قدّور فيتناوبان على شراء الخبز صباحاً من الفرن الآلي، الواقع في طرف الحي، والمطلّ على المحلّق الجنوبي ومطار المزة العسكري. في حين يشرف (أبو عدّاي) على جلي الصحون مساء كل يوم كونه يقضي معظم أوقاته مع زملائه في الجامعة والتسكّع في المدينة الجامعية.

أما أنا فكانت وظيفتي الطبخ وتحضير الطعام. وارتأيت أن يبقى صلاح جالساً أو ممدداً في الغرفة، يتابع أخبار الدير والثورة، ويتواصل مع الشباب الطيبة، والالتزام بالمنزل قدر الإمكان لأنه، الصلاة على النبي، صيدة كبيرة جداً.. وثابتة!

أما بالنسبة للباب الذي لا يوجد له سوى مفتاح واحد عند (أبو عداي) "الحريص"، وهو من الأنواع التي لا يمكن نسخها، أقصد المفتاح، والقفل مثبّت بلحام على الباب، ما يحول دون إمكانية فكّه وتغييره؛ لذا، وطالما أن البيت لن يفرغ أبداً، وسيكون واحد منا بداخله على أقل تقدير، فقد أطلعت "الرفاق" على خطّة (اثنين، اثنين، واحد) التي اتّبعها (ليون) مع (ماتيلدا) في فيلم "القاتل المأجور"، وهذه الخطة تنصّ على أن يتم طرق الباب طرقتين سريعتين، وتتبعهما اثنتان مثلهما، ثم طرقة واحدة.. وبذلك لن يتم فتح الباب مطلقاً لأي كائن غيرنا نحن الستة.

بعد الانتهاء من توزيع المهام والورديات والتعليمات، سألت (أبو عداي) إن كانت لديه "كمّاشة" فأجاب أن نعم. وبعد أن أحضرها لي صعدتّ الدرج وقمت بِلَيّ (شنكل) الباب العلوي والسفلي، وحشرت قلمين بجانبهما لتثبيت الباب تثبيتاً مُبرماً غير قابل للطيّ أو "الدفش".

هبط المساء على المنزل، المظلم أصلاً إلا من فتحة التهوية أعلى الحائط، والتي تسدّها بناية شاهقة أيضاً؛ فحضّرت لرفاق الدرب الثوري طعام العشاء (مفرّكة بطاطا وبيض) وضعتُ فوقها بقايا أوراق بقدونس ذابلة يزيد عمرها على أسبوعين ونيّف كما هو واضح من نسبة اصفرارها، اكتشفتها بأسفل البراد، فأعطت "المنسف" مسحة فنيّة قلّ نظيرها.

وما هي إلا لقمتين والثالثة، حتى حمدنا الله وشكرناه على نعمته، وتحسّبنا وحوقلنا، ودعونا بالخير لصاحب المنزل (أبو عداي).

****

بعد العشاء الوفير، استنهضت همم الشباب لتنظيف وتعزيل المنزل مع منتفعاته؛ فانطلقوا يكنسون ويمسحون كالأُسُد الثائرة. وخلال أقل من ثلاث ساعات –فقط- كنّا قد "أوشكنا" على الانتهاء من التعزيل، والنتيجة كانت ما يقرب من 4 كيلو غرامات زبالة تم انتشالها من خلف البراد فقط، ونحو 2،5 كيلو من أسفل المجلى وفرن الغاز، ومثلها من تحت السرير.

استسلمنا جميعنا للتعب والنعاس عند الساعة الثانية ليلاً، وغططنا في نوم عميق نحلم بغدٍ مشرق آمن وبعيد عن أعين المخابرات والنظام والشبيحة والموالين والرماديين.. نحلم بوطنٍ جميل مزهر نظيف مثل بيت (أبو عداي) بعد التعزيلة.. نحلم بمدنٍ وبيوت عامرة وهانئة وهادئة بدل هذا الفضاء الممتلئ بشخير صلاح وصرير السرير.

صباحاً، كانت رائحة الخبز الساخن الذي جلبه رزوق من الفرن تسرح في كل أرجاء المنزل، ما دفع صلاح للزحف مغمض العينين نحو غرفة الجلوس حيث نشره رزوق، فلحقته لألتقط رغيفاً ساخناً لذيذاً، شطرته بسعادة لا توصف إلى نصفين، وكأني أشطر صورة للقائد المؤسس (أبو باسل).

قفز البقية عن مراقدهم وشاركونا الشطر والمضغ والسعادة. شعرت بأن تعاليم وتوجيهات البارحة قد أتت أُكلها، فها هو رزوق قد نفّذ أولى المهام، وبمجرد أن نظرت نحو عبود حتى ترك من يده كسرة الخبز وصعد الدرج خارجاً ليشتري الدخان والخضار.

وحين عاد عبود، طرق الباب حسب خطة (2-2-1) فابتسمنا جميعنا ونظرنا نحو بعضنا مع هزة بالرأس، وأدركنا أن الأمور تسير بشكل حسن.

دخلت المطبخ وقمت بتحضير طعام الفطور -مفرّكة بطاطا وبيض أيضاً، ولكن هذه المرة بدون البقدونس الذابل، وبدون غيره، فقط بطاطا وبيض.. وبالطبع ضاعفت الكمية هذه المرة.

وأيضاً، ما هي إلا لقمتين والثالثة، حتى حمدنا الله وشكرناه على نعمه التي لا تحصى وسط تساؤلنا عن سبب نفاد كميّة "المفرّكة" رغم مضاعفتها، وسرعان ما توصّلنا إلى الإجابة.. فصلاح كان يقسم الرغيف إلى نصفين، كل نصف بلقمة. تحسبنا الله مرة أخرى ثم انقضضنا على بقية أرغفة الخبز الطازج لإسكات معداتنا.

عند الساعة العاشرة، خرج (أبو عدّاي) متجهاً إلى جامعته التي لم يبدأ الدوام فيها أصلاً، فنحن في منتصف العطلة الصيفية.. وربما توجّه صوب المدينة الجامعية التي لا يسكن فيها بتلك الفترة من السنة إلا عناصر أمن الجامعة أو الطلبة المنبوذين.

خرج قدّور بعده بقليل، لاستلام حوالة مالية من مكتب "القدموس"، وبقينا نحن الأربعة في المنزل.

استلقى عبود على الأريكة، أما صلاح وأنا فتوجهنا نحو مخدعينا، لنكمل طقس النوم بعد وجبة الخبز الحاف.

****

غفونا بسرعة عجيبة، وبعمق شديد. رأيت وقتها عشرات المنامات المختلطة والمتشابكة.. المنام الأخير كان مرفقاً بصوت طرقٍ مزعج يتكرر كل لحظة، ثم اشتد صوت الطرق على دماغي وهو يصيح: اثنتان-اثنتان-واحد. اثنتان-اثنتان-واحد.

لم أعد أحتمل الطرق فأجبرت نفسي على الاستيقاظ. فتحت عينيّ ورحت أنظر صوب باب الغرفة.. نعم، إنه ليس حلماً.. هذا صوت الباب الخارجي يُطرق حسب الخطة.

صحت منادياً عبود الذي تركته مستلقياً في غرفة الجلوس، إلا أنه كان نائماً بعمق هو الآخر. وعند النداء الثاني ردّ قائلاً: "خير أبو حميد.. ماذا تريد؟".

أخبرته بأن الباب يُطرق حسب طريقتنا، ولربما كان قدور، أو رزوق الذي خرج أيضاً خلال نومنا. وما إن أنهيت كلامي حتى طرق الباب مرة أخرى.

نهض عبود بعد تأكّده من صحة الصوت، فصعد الدرج ثم فتح الباب..

- "أهلاً وسهلاً"، قال عبود ثم تبعه صوت الشخص الواقف خلف الباب: "أهلاً بك أخي. أوصلني (أبو عدّاي) إلى طرف الحارة وأرشدني إلى المنزل، وهو ذهب لشراء بعض الحاجات من الكشك وسيأتي بعد قليل".

- "تفضّل"، ردّ عبود.

أثناء ذلك أفاق صلاح من نومه وهو يتلفّت يمنة ويسرة.. سألني ماذا يجري؟ فأجبته أن شخصاً أرسله (أبو عداي) إلى هنا، ويبدو أنه مقرّب جداً منه أو ربما يكون من "ربعنا الثوار"، لأنه كان يطرق الباب بحسب خطتنا، وبالتأكيد (أبو عدّاي) هو الذي أبلغه بالطريقة.

راح الرجل الضيف يتحدث مع عبود شارحاً له بأنه من أبناء الدير، وأنه تركها لظروف قاهرة وبأن (أبو عداي) توجّه نحوه وهو جالس على كرسي بوسط الحديقة القريبة بعد معرفته بأنه من الدير، وطلب منه التوجّه إلى المنزل، بعد إبلاغه أن يطرق الباب بالطريقة إياها.

****

طيلة الحديث وصلاح ينصت بدقّة متناهية إلى الصوت. فجأة، التفت نحوي هامساً: "يا رجل أنا سمعان هذا الصوت في السابق لكني لا أذكر صاحبه! ثم.. كيف يفعل ذلك (أبو عدّاي) بدون إخبارنا؟!".

بعدها، مدّ صلاح رأسه ببطء وحذر شديدين صوب أسفل الباب ليلقي نظرة على ضيف الغفلة. وما أن لمح شكله حتى رجع مسرعاً والتصق بسريري.

 لن أنسى مشهد شفاه صلاح وهي ترتجف رعباً.. بل كانت كل خلية من خلايا جسده تهتزّ حتى كاد السرير أن يمشي.

أمسكت وجهه براحتيّ يدي وصرت أمسح عليه بخوف لئلا يصدر صوتاً.. سألته "ما بك يا رجل؟ من هذا الرجل؟!".

 وعبثاً كان يحاول إجابتي.. أسنانه صارت تصطّك كلما حاول التكلّم.. عيناه جحظتا.. أصابعه انغرزت بذراعي. وبدون أي تفكير صحت بأعلى صوتي: "عبود.. من الموجود معك بالغرفة؟ هيا بسرعة أجبني!".

أجابني عبود من مكانه: "إنه ضيف على (أبو عدّا....)".

قاطعته مباشرة: "يلعن أبوك على أبو عداي.. خلال دقيقة لا أريد أن أرى أحداً هنا. سيأتيني ضيوف بعد قليل".

ولم تمضِ سوى ثوان معدودة حتى كان الرجل قد قفز من مكانه وخرج من الباب دون أن ينبس ببنت شفة.

دخل علينا عبود ونحن بهذه الصورة. طلبت منه إحضار كأس ماء لصلاح مع منشفة مبللة.. وبعد أن سقيته ومسحت وجهه بالماء كررت عليه السؤال.

أجاب صلاح: "هذا معروف بالدير، اسمه "أبو عمشة"، وهو سائق تكسي عمومي.. نفس السائق الذي سلّمني لفرع الأمن العسكري بعد المظاهرة!".

- "ضبوا أغراضكم بسرعة"، قلت لعبود وطلبت منه الاتصال بأخويه وإبلاغهم بعدم الحضور إلى المنزل.

وخلال خمس دقائق كان عبود قد جمع كافة الأغراض والحقائب، وتحوّل صلاح من هيئة الكركدن إلى نحلة طنانة وهو يلمّ ويجمع حاجياته.

ولدى توجهنا نحو الدرج للصعود وإذ بـ (أبو عداي) "حامي الديار الشامية الآمنة" يدخل علينا من الباب مبتسماً بادئ الأمر إلى أن رأى المشهد، ففتح فمه كالمسطول واصفرّ وجهه كالمجلوط.

- "خير يا شباب؟!".

وكالرجل العنكبوت، مدّ صلاح يده نحو (أبو عداي) وجرّه من خاصرته، وبلمح البصر صار بداخل المطبخ.

قفزنا ثلاثتنا إلى خارج دار (أبو عداي)، وبأول سيارة ركبناها قلت للسائق: "على برزة.. البحوث العلمية يستر عرضك!".

****

هامش: كانت أقلّ من 24 ساعة أمضيتها في بيت (أبو عداي). علمنا لاحقاً بأن المخابرات كبست عليه بعد مغادرتنا بنحو ساعة، ولم تجد سوى (أبو عدّاي) يتناول مفركة بطاطا، فاستضافته لمدة شهر وأربعة أيام.

 

 

كلمات مفتاحية