icon
التغطية الحية

زمن الاحتجاج والسياسة: من فكرة الثورة إلى ديمقراطية المخاطر في تونس

2024.03.18 | 07:19 دمشق

4rtg44
+A
حجم الخط
-A

بعد بضعة أشهر من الانقلاب السياسي في تونس الذي حصل في 25 تموز/ يوليو 2021، التقيت بعددٍ من الباحثات والباحثين التونسيين في مؤتمرٍ أكاديميٍّ في المغرب. وقد راعني حينها أن بعضهم، على الأقل، كان يؤيد، ضمنيًّا أو صراحة، ذلك الانقلاب. استغربت تأييدهم المذكور، لأنني كنت أنظر إلى المسألة على أنها خيارٌ بين الديمقراطية واللاديمقراطية ممثلةً بالديكتاتورية أو الاستبداد. لاحقًا، تبين لي أن الوضع أكثر تعقيدًا من ذلك التخيير المذكور، وأن المواقف المؤيدة المذكورة هي، بالدرجة الأولى، مواقف ضد القوى السياسية الحاكمة التي تم الانقلاب عليها، أكثر من كونها مواقفَ مؤيدةً للاستبداد أو مقتنعةً به ومسوِّغةً له. كما تبين لي أن تلك المواقف تعكس توجهًا شعبيًّا لدى عددٍ كبيرٍ من التونسيات والتونسيين، وثمة مؤشراتٌ على أنه كبيرٌ إلى درجة أنه يمكن أن يكون أغلبيةً.

نجد بعض هذه المؤشرات في كتاب "زمن الاحتجاج والسياسة – من فكرة الثورة إلى ديمقراطية المخاطر"، للباحث التونسي محمد العربي العياري، (برلين: المركز الديمقراطي العربي، 2024). فوفقًا لأرقام المؤشر العربي 2019-2020، التي تتضمنها بحوث هذا الكتاب، عن آراء التونسيات والتونسيين، اعتبر 63 بالمئة منهم أن الوضع السياسي في الفترة 2019-2020 سيئٌ و/ أو سيئٌ جدًّا؛ ورأى 85 بالمئة منهم أن وضعية الاقتصاد التونسي سيّئةٌ و/ أو سيّئةٌ جدًّا؛ وعبَّر 59% منهم عن اعتقادهم بخلو أداء مجلس نواب الشعب من الجدية و/ أو الجدوى؛ وصرح 64% منهم بعدم ثقتهم المطلقة و/ أو بعدم الثقة الى حد ما في الأحزاب السياسية، وتكامل ذلك مع تأكيد 60% منهم بأنهم مهتمون قليلًا و/ أو غير مُهتمين على الاطلاق بالشأن السياسي.

يحظى الوضع التونسي وتطوراته باهتمام كثيرين إذ يُنظَر إلى تونس على أنها استثناءٌ، فمنها انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي، وكانت إلى حدٍّ قريبٍ البلد الوحيد الذي أزهر فيه ذلك الربيع

ولفهم التأييد الصريح أو الضمني والجزئي الذي يبدو أن الانقلاب قد حظي به بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ عن طريق السكوت وعدم معارضته (بقوةٍ) من قبل تونسيين كثر، ينبغي الإشارة إلى أن المواقف السياسية للناخبين أو المواطنين تتأسس، في أحيانٍ كثيرةٍ، على ما ترغب عنه الإرادة أو ما لا تريده، بقدر تأسسها على ما ترغب فيه وتريده، وربما أكثر. وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى السكوت على الانقلاب أو المعارضة الناعمة له أو حتى بعض المواقف المؤيدة له على أنها تعبيرٌ عن السخط تجاه النخب السياسية الحاكمة في تونس منذ 2011 أكثر من كونه تعبيرًا عن القناعة بخطاب الانقلاب السياسي عليها في 25 تموز/ يوليو 2021. يضاف إلى ذلك، ينظر كثيرون إلى التأييد المذكور على أنه تأييدٌ مؤقتٌ ولمرحلة انتقالية قصيرةٍ (يفترض أن تنتهي مع إجراء الانتخابات الرئاسية القادمة)، وأنه حالةٌ طارئةٌ ضروريةٌ مرحليًّا فقط. في المقابل، يرتاب كثيرون في إمكانية تخلي القوى المهيمنة على السلطة حاليًّا عن تلك السلطة طوعًا أو بسهولةً. وقد لمست في مشاركتي في معرض الكتاب الأخير الذي أقيم في تونس العام الماضي تصاعد التذمر من السلطة السياسية الشعبوية الحالية، والتطلع إلى العودة إلى المسار الديمقراطي والتصميم على تحقيق تلك العودة في موعدٍ أقصاه هو الانتخابات الرئاسية القادمة.

***

الموقف المعرفي والمعياري (أو الأيديولوجي السياسي) الذي يتضمنه كتاب العيَّاري متوازنٌ، ويتجاوز رد الفعل المذكور، ويقدم نقدًا مزدوجًا للنخب السياسية التونسية وللتوجه الشعبوي الحاكم الذي انقلب عليها وعلى العملية الديمقراطية، في الوقت نفسه. ويشكل النقد المذكور، والتأسيس المعرفي له، المحور الأساسي أو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب. وقد أحسن العيَّاري في هذا التركيز على الفاعلين السياسيين، وليس على البنية أو التحليل البنيوي. فمن ناحيةٍ أولى، تبين معظم الدراسات والمقاربات البحثية التي تتناول قواعد وشروط نجاح عملية الانتقال الديمقراطي الدور المحوري الذي تنفرد النخب السياسية بالقيام به في "تدبير الانتقال الديمقراطي، ودعمه بما يستجيب لسيرورة البناء السياسي الجديد، والسياق الديمقراطي". ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، أظهر هذا التركيز الدور الأساسي وربما الحاسم للفاعلين السياسيين، في السياق التاريخي المدروس، في إيصال الأوضاع السياسية (والاقتصادية؟) في تونس إلى لحظة الانقلاب السياسي، ومن ثم ما تلاها من هيمنة الخطاب الشعبوي في المجال السياسي الرسمي. ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، إن إبراز الدور الكبير، والمهم، وربما الحاسم، للنخبة السياسية (التونسية) في المجال السياسي التونسي عمومًا، وفي فترة التحول الديمقراطي خصوصًا، يفضي إلى استبعاد أي تفسيرٍ ثقافويٍّ يحمل عموم الشعب أو ثقافته أو دينه واعتقاداته مسؤولية وجود الاستبداد أو الإخفاق، العرضي أو الأساسي، للتحول الديمقراطي. ومن ناحيةٍ رابعةٍ، يساعد التركيز المذكور على تجنب قراءة التاريخ واستشراف المستقبل بلغة الحتمية والضرورة الأحادية، ويبين أن ما حصل كان جائزًا، وليس ضروريًّا، بحيث أنه كان من الممكن ألا يحصل، وأن المستقبل مفتوحٌ على آفاقٍ وإمكانياتٍ أو احتمالاتٍ متنوعةٍ، وأن تحقق إحداها، أو عدم تحقق غيرها، يعتمد، إلى درجةٍ كبيرةٍ، وقد تكون حاسمةً، على سلوك الفاعلين السياسيين وخياراتهم.

ل67عتل7

انطلاقًا مما سبق، نفهم تشديد العياري على اتسام الانتقال الديمقراطي بسيرورةٍ معقّدةٍ، طويلة الأجل ومفتوحة النهايات، وإبرازه أن تلك "النهايات" لم تتجسد فقط في نجاح في إقامة النظام الديمقراطي وترسيخه فحسب، بل تضمنت، أيضًا، "ارتداداتٍ نحو أشكالٍ من السلطوية، تغذّت من إخفاقات النخب السياسية التي لم تُحسن تدبير شروط الانتقال كعدم تحقُّق الاجماع العام بين الفاعلين السياسيين، وتوظيف الديمقراطية لتحقيق أهدافٍ غير ديمقراطيةٍ ... ولم تنجح في رسم البدائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بسبب أزمات السياسة والحضور المفرط للأيديولوجيا، فاستمر غياب العدالة والخلل في تكافؤ الفرص، في ظل استمرار التوجهات والأوضاع الاقتصادية والتنموية ذاتها التي كانت قائمةً في حقبة ما قبل قيام الثورة التونسية".

يساعد كتاب العيَّاري على إدراك خصوصية مرحلة الانتقال الديمقراطي، والاختلافات الكبيرة والمهمة بين تلك المرحلة ومرحلة "النشوء أو القيام الأول للنظام الديمقراطي"، من جهةٍ، وحالة النظام الديمقراطي الراسخ، من جهةٍ أخرى. فمن ناحيةٍ أولى، ثبت، نظريًّا وعمليًّا، أنه قد يكون من غير الممكن، ولا الضروري أصلًا، أن تسير عملية الانتقال الديمقراطي على غرار عمليات نشوء الديمقراطيات التاريخية. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، الانتقال الديمقراطي هو مرحلةٌ تسبق قيام الديمقراطي، وهي تختلف، بالتالي، عن المرحلة التي يكون فيها النظام الديمقراطي راسخًا وقويًّا ويعمل بانتظامٍ. وانطلاقًا من الرؤية القائلة بوجوب أن تتضمن الديمقراطية اختلافاتٍ كبيرةً وأساسيةً بين أطراف العملية السياسية، يمكن القول بأن مرحلة الديمقراطية ينبغي أن تكون غير ديمقراطيةٍ من هذا المنظور، لأنه من الضروري، إلى درجةٍ قد تكون حاسمةً في أحيانٍ ليست قليلةً، أن تتضمن التوصل إلى توافقٍ واتفاقٍ بين النخب السياسية (والمدنية) على أسس أو مبادئ العملية السياسية والقواعد والمؤسسات الضابطة لتلك العملية. ولأسبابٍ كثيرةٍ، يبدو أن النخب التونسية قد أخفقت في الوصول إلى هذا التوافق أو الاتفاق، ولم تكن مستعدةً للوصول إليه أو مدركةً لأهميته، فامتدت صراعاتها الحزبية وتوجهاتها الأيديولوجية الضيقة، لتشمل حتى الأسس أو المبادئ والقواعد والمؤسسات المذكورة، التي بقيت موضع خلافٍ وتجاذبٍ حتى حصول الانقلاب السياسي الشعبوي عليها وعلى ديمقراطيتها الجنينية الهشة.

***

يتضمن الموقف الشعبوي تقسيمًا جذريًّا للأطراف السياسية إلى "نحن الشعب الصالح" و"هم النخبة الطالحة". وعلى الرغم من أن السياسة عمومًا، والعملية الديمقراطية خصوصًا، تسمح بالانقسامات الجذرية، بل تتطلبها أيضًا، لا يمكن النظر إلى الانقسام الذي يتضمنه ويحدثه الموقف الشعبوي على أنَّه موقفٌ ديمقراطيٌّ، لأنَّه مفرط في الجذرية إلى درجة نفي إمكانية الديمقراطية ذاتها، بوصفها ديمقراطيةً تمثيليةً، أي بوصفها عمليةً تحقق تمثيل نخبٍ سياسيةٍ للشعب أو الناخبين الذين يختارونهم في الانتخابات. ولا يهتم هذا الكتاب بالشعبوية بوصفها لحظةً انقلابيةً على التحول الديمقراطي فحسب، بل يهتم بها أيضًا بوصفها كانت محايثةً لعمليات الاستقطاب والتناحر التي كانت حاضرةً، لدرجةٍ أو لأخرى، في ممارسات النخب السياسية في مرحلة التحول الديمقراطي. وعلى هذا الأساس، يتم الوصل بين مرحلة الانتقال الديمقراطي، ولحظة الانقلاب الشعبوي، بالتأكيد أن الشعبويةً استثمرت إخفاق النخب السياسية في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وكانت نتيجةً له، ولم تكن مجرد سببٍ له. فالشعبوية استثمرت هذه الممكنات القوية الناتجة عن الاستقطاب الجذري والتناحر الحزبي والأيديولوجي، وعدم الاتفاق على أسس العملية الديمقراطية ومبادئها وقواعدها ومؤسساتها، مما جعل الصراع السياسي صراعًا إقصائيًّا على الديمقراطية والمكاسب الحزبية والأيديولوجية الضيقة أكثر من كونه صراعًا ديمقراطيًّا يعترف فيه كل طرف بأحقية وجود الآخر ومشروعية ذلك الوجود، ويأخذ ذلك في الحسبان في رؤيته وممارساته السياسية.

على الرغم من شيوع الاعتقاد لدى عددٍ (كبيرٍ) من التونسيين والتونسيات الذين قابلتهم والذين أعربوا عن تأييدهم أو تفهمهم للانقلاب الشعبوي بوصفه خطوةً ضروريةً في عملية التحول الديمقراطي، ومجرد مرحلةٍ مؤقتةٍ ستعيد عجلات قطار التحول الديمقراطي إلى مساره الصحيح، يبدو لكثيرين أن ذلك الانقلاب خطوةٌ نحو العودة إلى المسار الاستبدادي، والقضاء على أكبر قدرٍ ممكنٍ من مكتسبات عملية التحول الديمقراطي. ويبدو أن كلا الاحتمالين قائمان، والترجيح العملي لأحدهما، واستبعاد أو إقصاء الآخر، مرهونٌ، بالدرجة الأولى، بمواقف النخب السياسية والفاعلة، عمومًا، وبمدى نجاحها في الاستناد إلى حراكٍ شعبيٍّ مدنيٍّ قويٍّ، خصوصًا. ومن الضروري الإشارة، في هذا الخصوص، إلى أن الانقلاب الشعبوي لم يفضِ، حتى الآن على الأقل، إلى الوصول بالبلاد إلى الحالة الاستبدادية التي كانت سائدةً في تونس أو في غيرها قبل قيام ثورات الربيع العربي، على الرغم من وجود بعض المؤشرات السلبية (جدًّا) في هذا الخصوص. ومن هذه المؤشرات تراجع تونس إلى المركز 121 من ضمن 180 دولة في الترتيب السنوي لحرية الصحافة بعد أن كانت في المركز 94 سنة 2022 وفي المركز 72 سنة 2019، مع العلم أنها كانت تحتل مركز الصدارة العربية في هذا الترتيب. على الرغم من كل ذلك، يبقى الوضع التونسي، من الناحية السياسية ومن ناحية الحريات السياسية والمدنية، وحضور النقد في المجال السياسي والعام، أفضل، أو أقل سوءًا، بكثيرٍ، من الوضع في (معظم) الدول العربية الأخرى.

أما بالنسبة إلى الترجيح النظري أو المعرفي لأحد الاحتمالين المذكورين فينبغي أن يستند إلى دراسة المعطيات والأبحاث المتوافرة عن الأوضاع في تونس. وتتضمن نصوص هذا الكتاب بعض أهم المعطيات والأبحاث التي ينبغي الاطلاع عليها في هذا الخصوص. وعلى الرغم من أن العيَّاري يرى، في مقدمة هذا الكتاب، أن كتابه ينوس بين تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل، يمكن المحاجة أن الموقف المعرفي والمعياري (أو الأيديولوجي السياسي) المتوازن الذي يتضمنه هذا الكتاب لا يخضع، غالبًا، لذلك التوتر المُعتقد بين تفاؤل الإرادة المظنون وتشاؤم العقل المزعوم، أو لا يتأثر تأثرًا سلبيًّا به. وفي كل الأحوال، يمكن القول بأن البحث في مثل هذه المسائل والسياقات يحتاج إلى عقلٍ مريدٍ وإرادةٍ عاقلةٍ، بغض النظر عن تشاؤم أحدهما وتفاؤل الآخر، وبعيدًا عن الآثار السلبية للتوتر القائم بين الإرادة غير العاقلة والعقل غير المريد. وأحيانًا، يظهر التوتر المذكور، الذي تحدث عن العيَّاري، في بعض العبارات والأحكام الجازمة التي تبرز سلبيات آفاق الشعبوية الحالية وإيجابيات آفاق الديمقراطية التونسية، دون أن يكون هناك تسويغٌ معرفيٌّ كاملٌ لها. فعلى سبيل المثال، يؤكِّد العياري أنه بمقدور "الديمقراطية التونسية أن تُفكّر فيما بعد الشعبوية، باعتبار هذه الأخيرة، حالة طارئة"، مع أن احتمال ألا تكون طارئةً، كما يُظن ويؤمل، موجودٌ. وفي السياق ذاته، يرى أن "الديمقراطية التونسية جاهزة لتدارك عثراتها وتجاوز أزماتها"، مع أن القول بعدم جاهزيتها الكاملة له ما يسوِّغه ويدعمه، معرفيًّا وأيديولوجيًّا، نظريًّا وعمليًّا. كما يتضمن الكتاب القول بأن الانقلاب السياسي في 25 تموز/ يوليو 2021 قد "عصف بكامل مُكتسبات عشرية الانتقال الديمقراطي"، مع أنه يؤكد، في خاتمته، أن أهم مُنجزٍ للانتقال الديمقراطي في تونس هو إعادة ولادة الفرد من جديد وفك الجهل بالحقائق الداخلية لسيرورة السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع". ونعتقد أن ما يتضمنه هذا الكتاب، ومنها التأكيد الأخير، يبين أن الانقلاب السياسي المذكور لم يستطع القيام بالعصف المذكور لكامل مكتسبات عشرية الانتقال الديمقراطي، ولعل "ولادة الفرد" هي إحدى أهم المكتسبات أو المنجزات التي لم يطَلها العصف المذكور، حتى الآن على الأقل.

***

لأسبابٍ كثيرةٍ، معرفيةٍ وأيديولوجيةٍ، يحظى الوضع التونسي وتطوراته باهتمام كثيرين. فمن ناحيةٍ أولى، ينظر كثيرون إلى تونس على أنها استثناءٌ من بعض النواحي. فمنها انطلقت شرارة ثورات أو انتفاضات الربيع العربي، وقد كانت، إلى حدٍّ قريبٍ البلد الوحيد الذي يبدو أن ذلك الربيع قد بقي مزهرًا ولم يتحول إلى خريفٍ أو شتاءٍ قارسٍ. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يبدو الوضع التونسي أنموذجًا معبرًا عن الأوضاع في كثير من البلاد العربية، ففيها الصراع أو الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين واضح المعالم والتأثير، وجاذبًا للتشاحن الأيديولوجي وللتدارس المعرفي في الوقت نفسه. ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، توفر دراسة الأوضاع التونسية الفرصة للاغتناء بنظريات التحول الديمقراطي والدراسات الخاصة بالشعبوية وإغنائها في الوقت نفسه. وهذا ما فعله العيَّاري في أبحاث هذا الكتاب، الغني جدًّا، ولدرجةٍ مفرطةٍ أحيانًا، بالإحالات المهمة والمفيدة، على المفكرين والفلاسفة وتنظيراتهم واقتباس أقوالهم ومصطلحاتهم أو تعبيراتهم. ولا يكتفي الكتاب بالدراسات النظرية، على أهمية هذه الدراسات، بل يتضمن، أيضًا، دراساتٍ ميدانيةً، واستنادًا إلى استبياناتٍ ودراساتٍ ميدانيةٍ أخرى. وبذلك فهو يجمع بين عمومية التنظير أو الفكر النظري المجرد ذي الرؤية الكيفية والفكر العياني المحدد أو الدراسات الميدانية التوثيقية ذات المعطيات الكمية. كما أن هذا الكتاب يلتزم، عمومًا، بإحدى أهم متطلبات البحث المعرفي الرصين، والتي أجرؤ على الزعم بأنها مفتقدةٌ في الكثير من الدراسات والأبحاث المكتوبة باللغة العربية، والمتمثلة في محاولة المحاجة في خصوص الأطروحات المقدَّمة، مع الأخذ في الحسبان للحجج المضادة، والتعامل المعرفي المنصف معها.

أخيرًا، أود الإشارة إلى ميزةٍ من المزايا المهمة لهذا الكتاب، وهي تخصصه وتعمقه في الشأن التونسي وحده، من دون الاهتمام بالسياق العربي في هذا الشأن، أو إجراء أي مقارنات مع بقية دول الربيع العربي، على سبيل المثال. وبالتالي، فهذا الكتاب يستثير الفكر ويحفزُّه بقدر ما يشبعه، وربما أكثر، ويمكن أن يكون إحدى نقاط الانطلاق المهمة لإجراء الدراسات المقارنة أو الأوسع. لكن ما يخسره الكتاب من حيث الاتساع، يكسبه، بالتأكيد، من ناحية العمق والتعمق