روسيا والغرب.. والشتاء الوجودي القادم

2022.09.27 | 07:31 دمشق

روسيا والغرب.. والشتاء الوجودي القادم
+A
حجم الخط
-A

كشف المستشار الألماني "أولاف شولتس" عبر حسابه على تويتر في (13) من الشهر الجاري عن مكالمة هاتفيّة جرت بينه وبين الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" استغرقت (90) دقيقة. وعلّق المستشار: (يجب على روسيا سحب قواتها من أوكرانيا والاعتراف بالسيادة الأوكرانيّة وسلامة أراضيها.. خلاف ذلك، فإن الحل الدبلوماسي لا يمكن تصوره).

من المؤكّد أنّ (90) دقيقة وقت طويل نسبيّا.. والمتابعون لتغريدات المستشار، حتّى الألمان منهم، لا يمكنهم الاطلاع على مخزون الطّاقة في ألمانيا للتأكّد مما إذا كان المخزون أفضل من العام الماضي بالفعل، وأنّ منشآت تخزين الغاز ممتلئة بأكثر من 80%، كما لا يمكن الوثوق من مدى التعاون المشترك بين فرنسا وألمانيا في مجال الطّاقة خاصّة إذا اختلف موقف أحد الحليفين مع الآخر تجاه الحرب الروسيّة وسط الشتاء القادم.

من جانبه اعتبر المستشار الألماني أن هدف "بوتين" من وقف إمدادات الغاز إلى أوروبا: (زعزعة استقرار الديمقراطيات الأوروبية - و- لن نكون قادرين نحن الأوروبيين على نقف مع بعضنا بعضاً بشكل وثيق ومتضامن) على حد قول المستشار.

الحكومة الألمانيّة، مثل غيرها من الحكومات الأوروبيّة، تغالب الزمن، قبل دخول فصل الشتاء، لمعالجة أثر انقطاع الغاز الروسي

ألمانيا دولة ذات أهميّة بالغة للغرب وللروس. إذ تقوم النظريّة الامبراطوريّة الروسيّة لدى "ألكسندر دوغين" على محور يمتد من: طوكيو إلى موسكو فبرلين. في حين اعتبر الاستراتيجي الأميركي "هنتغتون" ألمانيا المركز الجاذب لبقيّة الدول الأوروبيّة.

الحكومة الألمانيّة، مثل غيرها من الحكومات الأوروبيّة، تغالب الزمن، قبل دخول فصل الشتاء، لمعالجة أثر انقطاع الغاز الروسي والحد من تداعيات ارتفاع أسعار الطاقة عبر تأمين فرص العمل والدعم المالي للشعب الألماني، إضافة إلى تشجيع الاستثمار في الطاقة البديلة، وهناك "حديث" عن إمكانية الاستعانة بمفاعلين نوويّين لتوليد الكهرباء. وتأتي زيارة المستشار الألماني إلى السعودية والإمارات وقطر في الإطار ذاته.

أما روسيا، وإثر تعرض جيشها في أوكرانيا لخسائر فادحة، فقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التعبئة العسكريّة الجزئيّة، ما يعني حشد نحو (300) ألف جندي روسي.. وهو ما اعتبره المستشار الألماني (عملاً يائساً).

إلّا أنّ روسيا بدأت منذ يوم الجمعة إجراء عمليّة استفتاء في مناطق (دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا) الأوكرانية بشأن الانضمام إلى الاتحاد الروسي، ومن المنتظر إعلان نجاح الاستفتاء بالطبع!.

وخلال جلسة الهيئة العامة للأمم المتحدة، الأخيرة، ظهر الرئيس الأوكراني عبر تسجيل صوتي يطالب بمحاسبة روسيا، وبمنعها من استخدام حق النقض "الفيتو". في حين حملت كلمة وزير الخارجيّة الروسي "لافروف" اتهامات تتجاوز "زيلينسكي" وأوكرانيا، واعتبر لافروف أنّ الدعم العسكري الغربي للجيش الأوكراني: (يستهدف روسيا)، وأن أوكرانيا: (تُستخدم كصرح للتصدي لروسيا ولن نسمح بذلك). على حد قول لافروف.

أمّا الرئيس الأميركي "بايدن" فقد بدا، خلال كلمته في الجلسة ذاتها، بملامح جادّة وهو يصف حرباً روسيّة: (تتعلق بإنهاء حق أوكرانيا بالوجود كدولة وكشعب) على حدّ قوله. وحذّر بايدن بأنّ (بوتين هدد أوروبا نوويّا..).

كما تحدّث بايدن عن أهميّة الالتزام بالمبادئ الأساسيّة للأمم المتّحدة واعتبر أنّ روسيا انتهكت تلك المبادئ وأضاف: (كلنا مستعدون للدفاع عن هذه المبادئ).

ربّما يمكن قراءة التضامن الغربي من خلال "الحديث بصيغة الجمع" لدى المسؤولين الغربيين عموما وخاصّة ذلك التوافق بين تصريحات بايدن والمستشار الألماني.

إذ من شأن التوافق بين بايدن وبين شولتس أن يبعث برسائل طمأنة إلى الدّاخل الألماني كما يمكن أن يبعث مزيدا من الطمأنينة لدى الشركاء الأوروبيين.

إلّا أنّ تجاوز أهداف الحرب الأوكرانية حدود أوكرانيا يبدو واضحاً أيضاً في الخطاب السياسي الأوروبي والروسي على حدّ سواء.

وقد كان وزير الخارجيّة السابق "كيسنجر" قبل أشهر قليلة، قد حذّر الأوروبيين ممّا سماه: "الانغماس في مزاج اللحظة" ونصح المسؤولين الأوكرانيين بقبول التخلّي عن أجزاء من أوكرانيا لروسيا لإيقاف الحرب.

ولعلّ مبعث مخاوف كيسنجر من أنّ استئناف الحرب من شأنه أن يضرر بـ (توازن القوى) ويدفع بروسيا إلى التحالف مع الصين، فيجعل الصين على حدود أوروبا.

لكن ماذا لو لم تتمكّن روسيا من استمالة حليف كالصين، هل ستستخدم سلاحاً نوويّاً؟!

على أيّة حال فالدول التي لا ترى مصلحة لها في إيقاف الحرب عند هذا المستوى ستقول مثل قول الزير: "اليمامة تريد أباها حيّا" والمسؤولون الغربيون يفعلون ذلك تقريباً حتّى الآن. إذ يعلّقون على مسألة إيقاف الحرب بأنها من شأن الحكومة الأوكرانيّة وحدها!

وفي حين لا يخفي المسؤولون الروس إمكانيّة استخدام السلاح النّووي في حالات من بينها خطر يمس وجود الدّولة الروسيّة فإنّ الحديث عن الحرب الوجوديّة يمارسه السياسيّون الروس والغربيّون في الوقت ذاته.

إلا أنّ السياسيّين الأوروبيّين يتحدّثون عن خطر وجودي يمس الشعب الأوكراني وعن ضغط روسي يمس اقتصاديات وديمقراطيّات بلدانهم. بينما ذكر "بايدن" خلال كلمته أمام الجمعيّة العامة عن التهديد الروسي على وجود أوكرانيا "دولة وشعباً"، لكنّه أشار أيضا إلى خطر نووي يهدد أوروبا ذاتها!.

ولعلّ أبرز ما ورد على لسان مندوبة بريطانيا لجلسة الهيئة العامة، إضافة إلى إعلان المسؤولة البريطانيّة عن استمرار دعم بريطانيا للجيش الأوكراني بسلاح نوعي.. قولها: (سننتقل إلى مستقبل على أساس الطاقة المتجدّدة والطّاقة النّوويّة مع ضمان أن الغاز يُستخدم خلال هذه النّقلة من مصادر موثوقة..).

إذاً فروسيا أمام تحدٍّ لاستمراريّة دورها العالمي يتمثّل في نقطتين جوهريّتين:

الأولى: دخول أوكرانيا في حلف الناتو حيث ستصبح روسيا في مرمى أسلحة استراتيجيّة للناتو تشلّ إمكانيّات روسيا النّوويّة.

الثانية: إمكانيّة استغناء أوروبا بالفعل عن الغاز الروسي، ما يجعل من الاقتصاد الروسي الذي يقوم أساساً على تصدير الغاز والأسلحة.. دون أفق.

يعتقد هنتغتون في كتابه: "صدام الحضارات" أنّ الشخصيّة الأوراسيّة طوال تاريخها كانت تخوض حروباً وجوديّة، فالسهول الفقيرة الممتدّة لا تمنح القدرة على المناورة أو التفاوض. بينما أتاحت التضاريس المتنوّعة مقدرة لدى الشخصيّة الأوروبية على تحمّل عواقب نصف خسارة واعتبارها نصف فوز، دون الاضطرار إلى الدخول في معركة فناء!

ورغم التعالي الثقافوي إذا جاز التعبير لهنتغتون، ربّما لم يُعجب عدوٌ بأفكار عدوّه، بل وأخذ على عاتقة مهمّة تطبيقها، كما يفعل المفكر الروسي "ألكسندر دوغين" أو "عقل بوتين".. فلا يكاد يخلو مقال أو لقاء له إلا ويشير فيه إلى الطبيعة غير الديمقراطيّة للشخصيّة الروسيّة وإلى حربها الوجوديّة.

الشتاء الوجودي ذاته يلوح لبوتين، وسيختبر بوتين خلاله تأثير سلاح الجوع والبرد على قناعات الأوروبيين

من المرجّح أن يشهد العالم شتاءً وجوديّا قادماً، طرفاه النّاتو الذي يمتلك إمكانية عسكريّة لخوض الحرب حتّى نهايتها، ولديه أزمة في الحصول على الطّاقة مع خاصرة شعبيّة لم تختبر قيمها الدّيمقراطيّة أمام البرد والجوع والخوف منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. إضافة إلى ترقّب حذر للحكومات الأوروبيّة تجاه الموقف الألماني بالذّات، لا البريطاني ولا الأميركي.

بالمقابل فإن الشتاء الوجودي ذاته يلوح لبوتين، وسيختبر بوتين خلاله تأثير سلاح الجوع والبرد على قناعات الأوروبيين، وسيختبر أسلحة تقليديّة على أجساد الأوكرانيين، كما سيختبر قبضته الأمنيّة وخطابه الإمبراطوري على الشعب الروسي.

أمّا نحن - السوريين- فلا نزال نخوض حربنا الوجوديّة ضد بوتين وحلفائه منذ 2011.