icon
التغطية الحية

رواية "دوار".. عن الواقع بالأبيض والأسود

2022.02.05 | 13:23 دمشق

dwar.jpg
+A
حجم الخط
-A

يصدر المطبوع الأول للكاتب الفلسطيني السوري أحمد عزام عن دار موزاييك بإحدى وثمانين ومئة صفحة من القطع المتوسط، تحت عنوان (دوار)، وإذ يبدو العنوان محدود الجاذبية وغير مثير للدهشة، لكنه يبلغ نقطة الاستقرار في نفس القارئ بعد الانتهاء من قراءة الرواية كاملة والعودة إلى نقطة الصفر في المسار الدائري الذي يرسمه الكاتب لشخصيته الروائية المتحركة أيضاً حول نفسها وفي نفسها بشكل دائري، ما يعطي للعنوان صدقية كانت على ما يبدو في نظر الكاتب أًولى من الجاذبية في عناوين أخرى كانت محتملة.

وحين نقترح طريقاً دائرية لمسير بطل الرواية، فيعزز افتراضنا غياب الفهرس والتقسيم لفصول أو أبواب كالحال المعتادة، حيث يكتفي العزام بأرقام تبدأ بالرقم (1) حين يفلح البطل في تجاوز الحدود السورية التركية، ويبحث عن مكان منخفض الكلفة للإقامة، وتنتهي بالرقم (22) إذ يجد البطل نفسه أمام الحدود من جديد، وبين هذين الرقمين يدور البطل في تجارب صعبة، وفي اعتراك جوّاني حول تجاربه العاطفية والفكرية والثورية، بما فيها مرحلة السجن. ذلك كله في طريقه، خلال عدة أيام عبر تركيا، إلى وجهته الأخيرة، وهي مركب صغير يشق عباب البحر نحو أوروبا؛ ألا يشبه ذلك دائرة الساعة في تقسيماتها ليوم كامل؟ أي لأربع وعشرين ساعة، والرقمان المغفلان ليسا إلا ساعة الثورة، وساعة السجن، وإذ لا يبدأ بهما الكاتب تسلسله، فلأنه يتنبأ بثورة جديدة بعد أن يفهم البطل تجربته ويستفيد من دروسها، وبذلك يغادر الدوار رأسه!

وللدوار في هذه الرواية أشكال، كدوار الفكرة الثورية، إذ يبحث فيها البطل، الذي سجن في بداية الثورة ليخرج من السجن فيرى جماعات شتى بأشكال شتى ورايات شتى، عن الخطأ الذي حصل ومن قام به ومتى قام به، إنه لا يستطيع تحمل هذه النتيجة بعد كل تلك التضحيات، ومن هذا الدوار يخرج موقفه من سلوك مجموعات من الناشطين ومسؤولي منظمات متعددة في مدينة غازي عنتاب التركية، حيث يصبح المعتقلون وضحايا الحرب مواد للعمل ونماذج للدراسة ليس إلا، يتنافس على جذبها منفذو المشاريع بهدف الحصول على الدعم المالي.. لا شيء أكثر. وكذلك الدوار العاطفي، إذ يترك حبيبته حماية لها في فترة سجنه، لكنها ترفض العودة إليه بعد نجاته كذلك، فتقتاده نفسه المتعبة إلى أفعال عاطفية وجسدية ما كان ليقدم عليها أبداً أو حتى ليعترف بها أمام أحد، كأنه يدور بين قناعاته ونقائضها، ويبقى الحب غير معرّف في نظره حتى آخر صورة يتركها في هاتفه المحمول لحبيبته وهي في حالة إيحاء جسدي صارخ.

كذلك يقف أحمد عزام على الشتات الأسري بعد الحرب من جهة، وعلى حال اللاجئ البائسة من جهة، ويربط ذلك بنوّاس مضطرب بين النزعة الإنسانية وبين العنصرية الممارسة بحق اللاجئين من قبل سكان البلد المضيف، فيبدأ بسلوك الممرضة المتأففة من الشيخ المريض الذي لا مرافق معه، وكذلك الممرض ذي الأصل العربي الذي يرعاه بشكل ما وينتقد سلوك اللاجئين العرب الذين تخلوا عن آبائهم وأمهاتهم، ثم ينتقل إلى موقف صاحب البقالة السوري الذي يرفض أن يدينه حبة واحدة من الفاكهة للشيخ المريض، وينتهي بسلوك جهاز الشرطة الذي انهال على البطل ضرباً لا رحمة فيه عندما ظنه سارقاً، ثم عاود الاعتذار منه بعد أن تفهم قصده وغايته.

أما عن الكاتب نفسه فتنم الرواية عن أشياء كثيرة، لعل أولها ما يشف عنه الإهداء الذي ينص:

"إلى

يوتوبوري

وإلى جميع المدن المالحة التي تعرف أسماءنا جيداً".

يوتوبوري المدينة السويدية التي تستضيف الكاتب لمدة سنتين، ومن خلال منحتها هذه استطاع طباعة ونشر روايته، هذه المدينة الجديدة على أحمد عزام استحقت شكره، في الوقت الذي نبذته (مدن الملح)، على توصيف عبد الرحمن منيف، إنه يبحث عن بقعة من الأرض تستقر تحت قدميه، وكأنه منذ نشأته يعاني دوار الأرض المتحركة التي لا تعطي أبناءها سلاماً ولا طمأنينة، فليست المدن التي مر عليها قبل يوتوبوري سوى بحر مالح يشبه البحر الذي قصده بطل روايته من أجل الوصول إلى أوروبا بقارب مطاطي، وهل تلك المدن إلا مدن الذاكرة الفلسطينية البعيدة، ومدن السجن والمجزرة السورية، ومدن اللجوء في تركيا؟ لكن العزّام يرجع ويذكر بعد صفحة من الإهداء ما قاله الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي:

"الدخول إليه صعب

الخروج منه صعب

البقاء فيه صعب..

وليس لك وطن سواه".

وهو بذلك يشبه أيضاً مصير بطل روايته الذي يُعاد، بعد كل ما عاناه، إلى نقطة البدء على الحدود السورية التركية، حيث البلاد غير معرّفة بالنسبة له بأعلام الدول الأجنبية العديدة والرايات الملونة الكثيرة التي ترفرف فوقها، لكنه يعرفها من الدخان والحرائق.

أحمد عزام في روايته ينظر بعين لا ترى الألوان، إنه يرى الأبيض والأسود فقط، وقد يحمل ذلك معنى الموقف الجذري الذي يتماشى مع شخصية بطل الرواية، وربما يحمل معه شخصية الكاتب نفسه، في حالة من الوفاء للكثير من الأصدقاء والرفاق الذين عايش وسمع تجاربهم المريرة أثناء سنوات الثورة، فهو يتحدث عن السجن في الوقت الذي لم يعش تلك التجربة، ويتحدث عن رحلة التهريب، وكذلك لم يعشها، كل ذلك يجعله يحاكم الأحداث بحدية وصفرية لا تقبل التنازل، ويجعله سوداوياً وقاسياً في تصويره لوقائع روايته في انعكاس حقيقي لتصوّره العميق عنها، إنه لا يريد أن يعاقب القارئ بقدر ما يفجر ألماً حبيساً في داخله أصلاً، ولا يريد أن يزوّر الواقع أو يعمّم أحكامه عليه بقدر ما يعبّر عن استيائه من عجزه عن فعل أي شيء إزاءه، ومن ذلك تنشطر الأحداث ما بين مسيرة البطل وما بين مسيرة الكاتب، وكأنه يريد القول: "بينما كان كل أولئك يعانون، كنا نعيش هانئين هنا"، فيصبح بنظره كل شيء محرماً حتى الحب والجسد والاحتفال.

أحمد عزام مواليد دمشق 1983، حاصل على شهادة قسم علم الاجتماع/ جامعة دمشق، كاتب وباحث اجتماعي لديه العديد من الدراسات الاجتماعية المنشورة في عدة دوريات ومجموعة من المقالات في مجالات مختلفة، كذلك له بعض الأعمال الدرامية، بالإضافة إلى فيلمين قصيرين من كتابته وإخراجه.

حاصل الآن على منحة ICORN في السويد، وهو عضو اتحاد الكتاب السويدي، وشارك في كتاب (حياة إبداعية) المترجم إلى اللغة السويدية مع مجموعة من الكتاب والشعراء العرب.