icon
التغطية الحية

رواية "أبيض قان": حلم التغيير يلتقي بـ غودو الذي ما نزال ننتظره

2024.02.05 | 00:53 دمشق

لاا
+A
حجم الخط
-A

على مسافة قريبة من فرع مخابرات "الخطيب"، وتحديداً في أحد البيوت الدمشقية التي لم أكن أعرف من يقطنها، كنت على موعد في نهايات عام 2012 مع دورة للإسعافات الأولية، إذ اشتد أوار الحرب وقتئذ، وصار الجميع يفكر بطريقة قد ينقذ فيها أرواح مَن حولَه ساعة السعير.

تفاصيل تلك المرحلة، بكل ذكرياتها، هاجت في خاطري مجدداً وأنا أقرأ قصة "سناء" بطلة رواية "أبيض قان" للكاتب السوري غيث حمّور، لدرجة جعلتني أتماهى معها، ليس لأنها درست مثلي الأدب الإنكليزي، ولا لأنها تشبهني في عنادها وإصرارها على عدم الرحيل بعيداً عن الخطر... بل لأني، وكثيرات غيري، كنا عرضة للمصير ذاته حال وقوعنا في قبضة "نظام الأسد" الذي لا يرحم أحداً.

يقدم المؤلف شخصية بطلته كعنصر فاعل في الأحداث، ويبتعد كل البعد عن تأطيرها ضمن حالة "الضحية" التي يفرضها المجتمع على أي معتقلة، فنجد سناء مقدامة حازمة تخطط وتنفذ وتناور وهي تتفادى المرور على الحواجز الأمنية، كما نراها تساير القيم المجتمعية بعض الشيء وذلك لأن عينها على هدف أكبر وأسمى، ونجدها تصرخ في وجه الضابط بفرع الخطيب وهي تصف النظام بكل ما يليق به من حقارة، على الرغم من عدم اقتناعي بالمخرج الذي اختلقه المؤلف لإنقاذ بطلته من حالة الخطر التي داهمتها بعد تلك المكاشفة.

اعتمدت الرواية على حبكة بسيطة تتصاعد منطقياً بأحداث متلاحمة، نصل معها إلى ذروات عديدة تقابلها حالات هبوط في الخط الدرامي يعكس انعدام الأمل في التوصل إلى أي حل

تتطور هذه الشخصية مع تطور الأحداث، فنجدها قد تحولت إلى براغماتية عندما تصبح ملك يمين أحد القادة (الدواعش)، وانتهازية وهي تتبرع بأعضاء العم مصطفى في أحد المشافي التركية. بيد أنها تعود لسابق عهدها في البذل والتضحية عندما تنقذ الطفل ميار في خضم البحر وتؤثره على نفسها، تماماً كما فعل "جاك" مع "روز" في فيلم "تيتانك، باستثناء أن سناء تبذل من الجهد والإصرار ما يبقيها على قيد الحياة برفقة طفل. ولعل كل تلك التحولات التي طرأت على الشخصية تعكس محاولات السوري المريرة للبقاء في ظل حرب لم تبق ولم تذر.

***

يجري الكاتب على لسان بطلته ما يريد أن يقوله هو، إذ يختتم معظم الفصول بتعليق لسناء يشبه البوح على ما جرى من أحداث، من دون أن نعرف جمهورها، أو إن كانت تتحدث إلى نفسها أم تخاطب غيرها، أم تدون في مذكراتها، أم غير ذلك. إذ نجدها في أحد الفصول تقول:

"من نفس الطينة الدواعش وعناصر النظام والميليشيات، وكل هؤلاء الذين يحملون السلاح من أجل مكاسبهم الشخصية، ولخدمة الديكتاتورية البشعة والشمولية الوسخة، باسم الدين أو القومية أو العرق أو الطائفة يقتاتون على الضعيف ويسلبون منه كل شيء".

تعكس لغة الكاتب وأسلوبه في بناء عالمه الروائي خلفيته الإعلامية، فقد اعتمد في لغته أسلوباً إاخبارياً بسيطاً ومكثفاً، واستحضر أسماء المدن والمناطق وما تحمله بين طياتها من أبعاد مادية ومعنوية، ومن ذلك مثلاً وصفه للتبدلات التي طرأت على مدينة الرقة تحت حكم داعش، عندما كتب:

"صباحاً اقتيدت النساء السبع مكبلات بالحديد إلى حديقة الرشيد في وسط مدينة الرقة، الحديقة التي كانت قبلة العائلات والأطفال للتنزه والترفيه عن النفس قبل سيطرة التنظيم، تحولت إلى مكان للقصاص الرسمي في المدينة".

كما نجد المؤلف يتحدث بإسهاب مؤلم عن ظروف مخيمات النازحين، فيقول:

"الأمطار غمرت المخيم، صوت الهطول كان أشبه بالرصاص، الأرض مادت في المنطقة وتحولت إلى طين ووحل، سيول الماء حملت معها من داخل الخيام أغراضاً شخصية: ملابس، صحون، بيدونات، طناجر، مهد طفل فارغ يطفو على سطح المياه الموحلة".

ويبدو أن الكاتب هنا على الرغم من تصويره واقع المخيمات المزري بأمانة، أراه قد اختار أن يلقي ببطلته في أحد المخيمات هرباً من التشعب في الخوض بتفاصيل ظروف العيش في الشمال السوري الخاضع لحكم فصائل متعددة.

***

اعتمدت الرواية على حبكة بسيطة تتصاعد منطقياً بأحداث متلاحمة، نصل معها إلى ذروات عديدة تقابلها حالات هبوط في الخط الدرامي يعكس انعدام الأمل في التوصل إلى أي حل، والتخبط في أمواج العبثية. وأبلغ ما يعبر عن انسداد الأفق ما جرى على لسان سناء عندما قالت:

"جميعنا يعيش على أمل ما، أمل يأتي من غياهب هذه الحياة القاسية، هو يريد أن يكون الخبر ساراً، وأنا أريد أن يأتي بانفراجة ما، وكلانا على قناعة أن النتيجة لن تكون كما نأمل".

بيد أن غودو الذي يظهر من السراب في لحظات اليأس يعيد شيئاً من الأمل بالنجاة. إذ يربط مسار غودو، بعبثيته، أحداث الرواية من بدايتها حتى النهاية، فنجده يظهر مجسداً بشخصية "منصور" في اللحظات الحاسمة عندما تفقد البطلة كل ما يعينها على الاستمرار في الكفاح، لكنه يبقى غودو العبثي، وتبقى النهاية مفتوحة كما الظروف التي لم تصل إلى مرحلة الاستقرار بعد.

يعرض الكاتب في هذه الرواية تجربة النزوح السوري بكل تفاصيلها، ويحاول من دون أن يحقق كبير نجاح أن يصف الأذى النفسي الذي يعيشه النازح في ظل هذه الظروف، والألم الذي يعتصر قلبه وهو يحس أنه غريب في بلده، فيشجعه على غربة أشد وأبعد عل النجاة تكون بانتظاره.

فيما مضى، كنت أعتقد بأني على موعد مع غودو خلال متابعتي دروس الإسعافات الأولية العملية التي امتدت حتى أوائل عام 2013، إذ كان الأمل يحدوني بأن النظام سيسقط قريباً. وخلال مرحلة الانتظار المضنية تلك رحل من الأصدقاء من رحل، واعتقل من اعتقل، وتوفي من توفي... ثم هاجرت أنا، وبقيت على قيد الانتظار نفسه؛ أنادي غودو الذي لا يريد أن يأتي، فأقرر أن ألا أنتظره مرة أخرى بعد أن خذلني كما فعل مع غيري، ولهذا أتماهى مع شخصية سناء وهي ترتدي الأبيض من جديد لتعبر عن حلم شعب سيعود نقياً كسيرته الأولى يوماً ما، على الرغم من كل الدماء التي سفكت في حرب آثمة بددت بوقاحة كل آثار الحلم، في لحظة من اللحظات. لكن الأمل ترتسم معالمه من جديد، مع كل نجاح يحققه أي سوري في أي مكان، مع ولادة روائي سوري جديد في قلب العبثية الأدبية التي نعيشها في المهجر، خرج بهذه الرواية التي أراها ناجحة فنياً بكل المقاييس في مرحلة غلب عليها اليأس. لهذا، وبوجود عزيمة كهذه، ننتظر منه أن يبهرنا بجديده.