icon
التغطية الحية

"رقصة السماح".. من تكايا حلب إلى المسارح

2023.05.18 | 15:56 دمشق

حلب
تلفزيون سوريا ـ بثينة الخليل
+A
حجم الخط
-A

تعبر الشعوب عن نفسها وعن روحها وثقافتها عبر الرقص، حتى بات معتاداً تسمية الأمم برقصاتها، فالبرازيل هي بلاد رقصة السامبا، والأرجنتين بلاد التانغو، وكوبا بلاد السالسا، وأوكرانيا بلاد الباليه، وتركيا بلاد المولوية.. وحلب بلد رقصة السماح.

رقصة السماح.. ظهور ثابتة لا تنحني

السماح رقصة شرقية، تتميز عن جميع الرقصات في العالم، بالتعبير بحركة الأيدي أكثر من حركة الجسد، فالراقصون في رقصة السماح ظهورهم ثابتة، لا ينحنون، ولا يقفزون، ولا يركضون، خطواتهم صغيرة، ومتأنية، تبدو أحياناً كأنها مشي، لكنها انسيابية ومتواصلة. ولا يلمس أحد منهم الآخر. والراقصات محتشمات إلى أقصى درجات الحشمة، لا يظهر منهن إلا الوجه، وأحيانا العيون فقط. فالرأس مغطى، والثياب طويلة حتى الكعبين، وتستر كل الجسد، وتتكون من طبقتين أو أكثر.

سبب ذلك أن أصول رقص السماح صوفية، فقد كان رقصاً يرافق الإنشاد الديني في جلسات الذكر (تسبيح وتعظيم الخالق)، ثم تطور ليصبح مرافقاً للغناء الوقور (القدود الحلبية والموشحات) والعزف على الآلات الموسيقية الباعثة على التأمل والتفكر (مثل الناي والقانون والعود..) لا المحرضة على الشهوات والغرائز واستعراض المفاتن الحسية (مثل الإيقاعات السريعة والصاخبة والقوية..).

قال الأديب الموسوعي المعلم بطرس البستاني في معجم محيط المحيط : "إنه رقص للمشايخ، يستعملونه في العبادات، ويؤدى في تشكيلات ونغمات وإيقاعات وخطوات متعددة، على شكل وصلات تغنى فيها الموشحات والقدود".

خطوة جريئة في الدين

ورقص السماح الذي يبدو اليوم محافظاً لدرجة كبيرة، كان يعتبر في الماضي خطوة بالغة الجرأة، دفعت رجال دين لتحريمه واعتباره خرقاِ خطيراً لأصول الدين. رقص السماح هو أجرأ محاولة لإدخال الرقص إلى طقوس العبادة في الإسلام.

ويشكل الإيقاع عنصراً أساسياً في رقص السماح، ففي بداياته، كان يترافق بالإنشاد والذكر مع الإيقاع فقط، سواء كان تصفيقاً باليدين، أو طرقاً على الدفوف، ثم صار يترافق بموسيقا ذات إيقاع واضح، يعتمد عليه الراقصون في حركاتهم، سواء حركات الأيدي أو الأرجل.

ويقال إن كلمة "السماح" جاءت من طلب الإذن أو الإجازة أو السماح من الشيخ الموجود في جلسات الذكر والمديح الديني، المسمى شيخ "الحضرة" ببدء الرقص. فقد كان درويش (زاهد صوفي) ينزل الى الحضرة (الساحة، أو وسط الحلقة)، يطلب الإذن من شيخ الذكر، الذي يرد بقوله "السماح.. السماح"، فيقف الدويش على سجادة حمراء ويبدأ حركاته المتمثلة بتموجات الذراعين والكفين والأصابع، كالتي كان يعتمدها جلال الدين الرومي في مدرسته المسماة "المولوية" بحركاتها الدورانية، ثم يبدأ رقص الحاضرين.

ويرى مؤرخ حلب خير الدين الأسدي غير ذلك، يرى أن سبب تسمية هذا الرقص بالسماح، هو اعتماده على آلات الإيقاع (الدفوف) وهي الآلات الموسيقية الوحيدة المسموح بها في الشرع الإسلامي (في غالب الاجتهادات والفتاوى). يقول الأسدي في كتابه موسوعة حلب: "لعل سبب التسمية أن السماح رقص اإقاعي ديني، وأدوات الإيقاع مسموح بها عرفا وعادة وشرعا".

رقصة شعبية حلبية بامتياز

ولا شك أن رقص السماح نشأ بحلقات الذكر الديني، و بحلب، المدينة التي ولد الفن فيها في التكايا والزوايا، نشأ منذ زمن الشيخ عقيل المنبجي في القرن السابع الهجري (قبل أكثر من  700عام). وبحسب الدكتور شهاب الدين فرفور: "أنه لا يوجد الآن في التاريخ والوثائق ما يثبت وجود رقص السماح قبل الشيخ عقيل المنبجي، الذي تفوق على زرياب وعلى الأندلسيين".

وإذا كان رقص السماح قد بدأ في الأوساط الصوفية، يرافق الذكر والدفوف، فإنه تطور بعد ذلك كثيراً، فقد طوره إلى شكله الذي نعرفه حالياً الشيخ أحمد عقيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، ثم نقله مؤسس المسرح أبو خليل القباني من حلقات الذكر في حلب إلى مسارح دمشق. وأحدث الملحن الحلبي عمر البطش وتلاميذه الحلبيون عبد القادر حجار وحسن بصّال والدمشقيون عدنان وزهير المنيني وعمر العقاد، ثورة في رقص السماح، فبات مرفقا بالموسيقى، وشعر الغزل، وتشارك فيه النساء.

الصورة الحديثة لرقص السماح

حب وعشق عمر البطش للسماح جعله يخلصه من الرتابة ومن الشوائب التي طرأت عليه بمرور الزمن، فغدت حركات الأيدي والأرجل تنطبق مع إيقاعات الموشحات، فيختص كل إيقاع إما بحركات الأيدي وإما بحركات الأرجل أو بالاثنتين معاً.

وحقق عمر البطش وبتشجيع من الزعيم فخري البارودي نقلة نوعية في هذا الفن عام 1934، حين استدعت المربية "بيهم الجزائري" مديرة معاهد "دوحة الأدب" "البطش" لتعليم طالبات المعهد هذا الرقص، فشكل فرقة من الطالبات ودربهن على فنونها ليخرجهن في حفل أقيم لأول مرة على مدرج جامعة دمشق عام  1947 ينشدن موشح "املأ لي الأقداح صرفاً" ويرقصن على أنغامها.

ومع مرور الوقت ادخلت تغيرات عل هذا الفن ليكون أكثر مواكبة للعصر، منها تحديث ثياب الراقصين لتصبح أقرب للزي الأندلسي، إضافة لانقسام السماح إلى "السماح الديني" و "السماح المسرحي" و "السماح الشعبي".