دور استراتيجي متآكل بالمنطقة.. هل تدخل سوريا في التركيب الجديد للنظام الإقليمي؟

2024.06.09 | 06:35 دمشق

بشار
+A
حجم الخط
-A

لفتني في الزيارة المنفردة للتعزية بالرئيس الإيراني ووزير خارجيته ومرافقيه لرئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران، قول المرشد الأعلى علي خامنئي بأن هوية سوريا الحقيقية هي "أن تكون قلعة صمود ومقاومة، وبأنّ المقاومة تشكّل هوية سوريا الممتازة وأنّ الموقع الخاص لسوريا في المنطقة يعود إلى هذه الهوية"، متَّهماً الغرب وذيوله في المنطقة بالسعي لإسقاط النظام السوري من خلال إشعال حرب ضده، وإقصاء دمشق من المعادلات الإقليمية بحسب تعبيره، داعياً الأسد لمزيد من التعاون لتجاوز الظروف الناتجة عن الضغوط السياسية والاقتصادية الأميركية والأوروبية على طهران ودمشق. فذهاب الأسد إلى طهران أخيراً، وتذكير المرشد الأعلى بأنّ سوريا صارت لها خصوصية وتميّز وهويّة جديدة باعتناقها المقاومة، وتوطيد وحدتها الوطنية وارتفاع مقاديرها في المنطقة والعالم له حسابات وكلام آخر لا بدَّ منه.

كثيرة هي الأضاليل والسرديات حول عنوان المقاومة الذي شكل هوية سوريا، فسوريا عربية الهويّة والانتماء منذ أكثر من مئة عامٍ، والقوميون العرب يعتبرون دمشق عاصمة الأُمويين، وهي الدولة القومية العربية الأولى في التاريخ، أمّا سوريا، فهي التي قاتلت منذ أربعينيات القرن الماضي، لاستعادة فلسطين العربية شأن الدول العربية الأُخرى.

والمعروف أنّ الأسد ليس لديه علم بالصراع في غزة، فهو ليس جزءاً من ما يسمَّى بــ"وحدة الساحات"، بسبب إنذار الإسرائيليين والأميركيين له بأنّهم لن يقبلوا انحيازه، رغم الغارات الجوية بداخل سوريا كلّ أسبوعٍ وفي كل يوم تقريباً، وقتل العشرات من القادة العسكريين الإيرانيين الكبار وقُتل سوريين عسكريين ومدنيين، فالأسد يشعر بتعاسة كبيرة من هذه التبعية العمياء التي جرَّ نفسه إليها، وحتى في الجولان المحتلّ، فالذين يطلقون النار على المحتلّين هم  حزب الله ومن جنوبي لبنان، بينما هو لا يزال وفيّاً لاتفاقية فصل القوّات بعد حرب 1973.

حبل التوازنات الدولية

إذن، هذا ما دأبت على سرديته النُّظم الحاكمة ضمن إطار الاستبداد الديني والقومي، التي لا تُعلي أيَّ شأن لكرامة الإنسان والمواطن على هذه الأرض، فيكفيها الصيغة المؤدلجة والخطابات المنتفخة في التحرير وتعزيز جبهات الصمود والتصدّي، في حين ملايين النازحين واللاجئين السوريين تتلاطمهم أمواج مصالح الدول، وتُغذِّي بياناتهم السياسية في حقوق الإنسان، ويتضور الشعب السوري في الداخل جوعاً وعطشاً وحرماناً، لكن دولته موضوعة في أعلى الهرم لقائمة التصدي للمشاريع الأميركية والإسرائيلية، التي تريد تفتيت دول المنطقة إلى كيانات ومذاهب وطوائف، في حين سوريا بقيت بفضل الحليف الإيراني موحدة لا مجزَّأة في شمالها ولا في شرقها ولا في جنوبها، ومنطق تعزيز الخطاب السيادي الوطني العلماني في الدولة وسيادة القانون والتمييز الطائفي والعرقي غير موجود أصلاً... فتلك سرديات يُريد من خلالها النظام السوري، اللّعب على حبل التوازنات الدولية الجديدة، متناسياً بأنها مهنة باتت قديمة وممجوجة، وبأن أوراق القوة التي كانت في السابق في يده، أصبحت اليوم أوراقاً بيد الآخرين يُلعب بها ضد سوريا ونظامها المتهالك.

لقد جادل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، بأنّ هناك نزاعاً لا يقبل التسوية بين إملاءات السياسة والإملاءات الأخلاقيّة، فرجل السياسة ينبغي عليه أن يكون مُجبراً أخلاقيّاً، بفعل التزامه دعوته، وأن يشيع أرفع المطالب الأخلاقيّة، مادام جوهر القيادة السياسيّة في الأزمنة الصعبة هو استعداد القائد، لأن يعرّض نفسه للخطر من أجل الجماعة، فهو تمييز واضح بين أخلاقيّة الإيمان الراسخ، أو القناعة الراسخة، وبين أخلاقيّة المسؤوليّة لدى السياسيّ. وهو تمييز في تسيير الشأن العامّ، بهذا المعنى يتّضح الواقع المأساوي في سوريا.

نحن اليوم في مرحلة إعادة النظر في كلّ موازين القوى في المنطقة، موت رئيسي لا يبدو أنه يسهّل المهمّة، ووزير خارجيته، كان أفضل رجل لتطبيع العلاقات مع دول المنطقة، للانتقال إلى مرحلة إيران القوميّة وليس إيران الإمبرياليّة والتوسعية، ورغم ذلك، لا تستطيع دولة رأس الممانعة في ضرب المشروع الأميركي وتطرح نفسها بديلاً عن مشاريع الاستعمار، أن تقيم العزاء وتوزِّع الملامات والعتب على أميركا، لأنها منعت عبر عقوباتها من تطوير أسطول الطيران لدى إيران، ممَّا تسبَّب بمقتل رئيس الدولة ووزير خارجيتها، فأي سرديات يُراد إقناع العالم فيها، بعد سلسلة الهزائم، وأمام بحر التراجعات العسكرية في وجه الضربات الأميركية والإسرائيلية، التي تطول في كل يوم الأراضي السورية والميليشيات الجاثمة على أرضها.

أما بشأن ما يجري في سوريا فلن تتغير نحو الأفضل، إلاَّ من خلال عملية سياسية حقيقية، والحاجة إلى إرادة سياسية ومساهمة وإشراك لكل أطياف المجتمع السورية، وأصحاب المصلحة الدوليين الرئيسيين، بوضع حل مناسب يُعيد الإستقرار لهذا البلد وشعبه وناسه، الذي لا يزال عالقاً في أزمة عميقة، تزداد تفسُّخاً مع غياب مسار سياسي واضح لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وهو ما يشكل مخاطر رهيبة على السوريين والمجتمع الدولي الأوسع.

ويمكن القول، إن دوافع رئيسية حثت العديد من الجهات الدولية لإعادة الاتصالات مع الأسد، تتراوح بين الاحتياجات الأمنية وخاصة التمادي في صناعة وتصدير الكابتاغون، والرغبة في احتواء أزمة الهجرة غير الشرعية إلى دول الجوار وأوروبا، والمتغيرات السياسية التي دفعت دولاً عديدة لمراجعة سياساتها تجاه المِلف السوري، وخاصة من قبل السعودية لتصفير مشكلاتها مع دول المنطقة، بعد أن أنهت الرياض قطيعتها الديبلوماسية مع طهران، والتوصل إلى تسوية سياسية نهائية للحرب اليمنية، وامتدت هذه السياسة إلى سوريا فتطورت الاتصالات السعودية مع الأسد لإظهار جدية على تغيير الموقف.وكل ذلك أتى بسبب ازدياد المخاوف الدولية وفي الإقليم من تمدُّد حرب غزة إليها، فحتى روسيا زادت من ضبط موازينها بالاتفاق مع السعودية والإمارات لمنع تمدد أضرار حرب غزة إلى سوريا، خاصة أن ما شجع هذا الانفتاح، هو وقوف النظام السوري موقف المتفرج من الحرب التي تشنها إسرائيل على شعب غزة، وضمان النظام لعدم استخدام الأراضي السورية للتصعيد ضد إسرائيل، وهو إن حصل فهو وفق الإرادة الإيرانية حيث لا ترغب طهران في التأثير على مسار تطبيع علاقات الأسد مع المجتمع الدولي.

عقدة الانتقال السياسي

فما تسعى إليه المملكة العربية السعودية على مستوى الشرق الأوسط بعد الاتفاق الأمني مع واشنطن، هو إعادة تركيب نظام إقليمي جديد، ولا بدّ لهذا النظام الإقليمي الجديد أن يرتكز على مقوّمات سياسية، دفاعية، اقتصادية، واجتماعية، وهذا لا يتحقّق إلاَّ من خلال تكامل إقليمي في الرؤى والسياسات، ويقوم على مبدأ تكافؤ الشراكات مع الغرب ومع الشرق ومع دول المنطقة أيضاً، ولهذا يعيش النظام السوري حالة من النشوة في ظل الاتصالات الدولية الأخيرة معه، ويأمل أن يستطيع إقناع الدول بحل سياسي يقوم بتفصيله وفق رغباته، ليكون بديلاً عن الانتقال السياسي، لكنه يدرك بأن شمالي سوريا، وشمال شرقيها هما عقدتان كبيرتان، نظراً لوجود مكونات وأحزاب تقدم نفسها بديلة لمؤسساته، وتحظى برعاية دولية، حيث تنتشر القوات التركية في الشمال، بالمقابل تحتفظ القوات الأميركية بقواعدها في مناطق تنظيم قسد شمال شرقي البلاد، ومن دون حل هاتين العقدتين سيبقى النظام عاجزاً عن استعادة كاملة لسلطته وعلاقاته الدولية.

لم تولد خطة بايدن من فراغ، فهي تقدم فرصة لتل أبيب، للخروج من حرب تنهي شهرها الثامن، وتعطي في المقابل فرصة لـ"حماس" والفصائل الحليفة للبقاء والتفاوض، كما تتيح لإيران كوصية على غزة، بأن تنظم انتخاباتها الرئاسية بهدوء، وفي الأثناء ينصرف بايدن إلى التحضيرات النهائية لمعركته من أجل الرئاسة الخريف المقبل. ولذلك فقد تكون صفقة بايدن فرصة، لإنزال الجميع عن شجرة تحقيق الإنجازات العالية، حيث يقدم بايدن هذه الصفقة مع الاتفاق الأمني والمملكة العربية السعودية ليقدمه للداخل الأميركي، فيستر عيوب واشنطن بعد افتضاحها من جراء دعمها عسكرياً للمجازر الإسرائيلية، بحق شعب غزة، وتعريتها أمام الجنائية الدولية، ويكسب مع ذلك الصوت اليهودي بمنع عزلة إسرئيل، ليتفرغ الديمقراطيون للانتخابات الرئاسية بعد أقل من خمسة أشهر، والتي يراهن نتنياهو على تمديد حربه في المنطقة لحين حصول الانتخابات، علَّها تأتي بحليفه وصديقه ترامب، فيعاد خلط الأوراق الدولية والإقليمية من جديد.