حين يكون الحبُّ قضية

2019.11.28 | 15:26 دمشق

rsalt_aly_sydt.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعلّ كتاب (رسالة إلى سيدة) للناقد الكبير المرحوم يوسف سامي اليوسف (1938 – 2013)، هو آخر كتاب يدفع به إلى النشر، بعد كتابه (تلك الأيام) الذي صدر الجزء الرابع منه عام 2011 ، وما يعزّز هذا الظن هو إشارة المؤلف نفسه في نهاية الكتاب، إلى أنه أنتج مضمون كتابه في الفترة الزمنية الواقعة ما بين (آذار 2011 – وكانون الثاني 2012)، أمّا الفترة الممتدة ما بين 2012 ، و2013، وهي سنة صدور الكتاب، فهي المدّة التي شهدت نزوح المرحوم اليوسف من مخيم اليرموك بدمشق، إلى الشمال اللبناني، ومن المُستبعد أن يكون قد أصدر الكاتب فيها أيّ كتاب، نظراً للأزمة الصحية التي كان يكابدها.

لم يشأ اليوسف أن يُدرج كتابه الأخير في عداد أيّ جنس أدبي بعينه، بل دعاه (نص)، اعتقاداً منه بأن (النص الأدبي... لا يقبل التصنيف في أي جنس من الأجناس الأدبية التقليدية، كالرواية أو القصة أو المسرحية أو القصيدة، وذلك لأنه جنس لا يدخل في أي باب من الأبواب المألوفة) ص 5، علماً أن اليوسف لا ينفي أن نصه الجديد، ربما انطوى على بعض مزايا الرواية حيناً، والشعر حيناً آخر، ولكن على الرغم من ذلك، فإنه بقي مصرّاً على أن يكون مُنتَجه الإبداعي هذا خارج عباءة هذين المصطلحين، فهل يجسّد هذا الإصرار إنكاراً ضمنياً أو غير مباشر، لأشكال الرواية الحديثة التي تتداخل فيها الأجناس الأدبية، وتحاول الابتعاد عن هيبة القوام التقليدي لفن الرواية؟.

وأيّاً كان الجواب الذي يمكن استنباطه، فإن المسعى الجوهري للكاتب من وراء رسالته، لا يهدف سوى إلى (إنتاج نص أدبي ممتع وصالح للقراءة بالدرجة الأولى) ص 6 .

تنهض (رسالة إلى سيدة) من حيث المضمون، على قصة حب عذري عاشها الكاتب مع فتاة في سنيّ شبابه، ثم افترق العاشقان دون أن يتزوّجا، ولم يلتقيا بعد افتراقهما سوى مرة واحدة، وذلك بعد تسع سنوات من مغادرة الفتاة مدينة دمشق.

وعلى الرغم من وجود أصل واقعي لهذه الحكاية، إلّا أن الكاتب لا يخفي مسعاه نحو الانتقال مما هو واقعي ومحسوس، إلى المجرّد، بل يؤكّد اليوسف صراحةً على أن تلك (التجربة الغرامية ليست سوى الهيكل العظمي لهذه الرسالة التي يتدخّل فيها الخيال كثيراً، بل كثيراً جداً) ص6 ، طالما أن إنتاج نصوص أدبية مفعمة بالمتعة، لهْو مقرون على الدوام بعملية خلقٍ إبداعية تستلهم الواقع ولكن لا تعيده اجتراراً.

 تنهض (رسالة إلى سيدة) من حيث المضمون، على قصة حب عذري عاشها الكاتب مع فتاة في سنيّ شبابه، ثم افترق العاشقان دون أن يتزوّجا

لم تخمد جذوة ذلك الحب السحيق، بابتعاد كلا العاشقين عن الآخر، بل ازداد اشتعالها توهّجاً، وبات ابتعاد الحبيبة – بكيانها الفيزيائي – يزيدها حضوراً بل ورسوخاً في وجدانه، كما أصبح هذا الحضور المتجذّر في نفس العاشق هو الناظم الفعلي لنشاط روحه وفكره معاً، إلى درجة يذهب فيها الكاتب إلى أن الحبّ هو الشرط الأوحد الحامل لإنسانيته، وجدوى استمراره في الحياة، وعطائه وإبداعه، وبهذا يؤكد الكاتب انحيازه وولاءه المطلق للحب، كهويّة وانتماء، متماهيا مع ابن عربي في قوله:

أدين بدين الحبّ أنّى توجهت        ركائبه، فالحب ديني وإيماني

ثنائية (الحضور والغياب) التي تكاد تكون ناموس العشق لدى المتصوفة، ليست هي الشاغل والمؤسِّس لنشاط الوجدان، بل إن النفس الإنسانية – وفقاً لليوسف – لا تعدو كونها محكومةً بجملة من المثنويات (اللطافة والجلافة – المتعة والعذاب – اليأس والأمل ...)، ولعلّ امتثال الكاتب كان صريحاً جداً في قوله: ( ولقد برّح بي غيابكِ وأضناني وحوّل حياتي إلى عذاب مقيم، ولكن هل تصدقين أن عذابك هو العذوبة إياها، أيتها المرأة التي أفضلها على نساء العالمين أجمعين، تخيّلي حتى عذابك عذبٌ، فكيف يمكن لحضورك أن يكون) ص51، وكأن لسان حال الكاتب يردّد ما قاله الشريف الرضي ذات يوم:

أنتِ النعيم لقلبي والعذاب له             فما أمرّك في قلبي وأحلاكِ

وكذلك ما قاله بدوي الجبل أيضاً:

ولا تحرميني جذوةً بعد جذوةٍ         فما اخضلّ هذا القلب حتى تلهّبا

ولعلّ هذه الدرجة من الشغف، وهذا النزوع الروحي الجارف نحو المرأة، بعيداً عن هواجس الجنس المقرون بطاقة الجسد، وفقاً لليوسف، وكذلك هذا السعي الحثيث لاستلهام المرأة – إبداعياً وفكرياً – موازاة مع رغبة في جعْلها مثالاً يتجاوز ماهيّته الواقعية، ما هذا في واقع الحال سوى إعلان شديد النصاعة على أن الحبّ لدى يوسف سامي اليوسف ليس حالة حياتية عرضية أو مؤقتة، بل هو قضية ذات معين قيمي، ومنها يستمد المعايير الناظمة لسلوكه الإنساني.

ومما لا شك فيه، أنّ النزوع القويّ لدى الكاتب نحو تجريد المرأة من واقعيتها، هو نزوع بحدّ ذاته نحو (المثال) الذي يصعب العبور إليه إلّا عبر العالم (الجواني) للمرء، أي شعوره الذي ما من قيمة في هذا الكون المنظور سواه، ص 32 .

ولعلّ الدارس لنتاج اليوسف النقدي والفكري، لن يصعب عليه التماس مثاليته الفلسفية التي تستغرق معظم مساحة تفكيره، إلى درجة جعلت العديد من أصدقاء الكاتب يطلقون عليه لقب ( هيغل العرب)، كما لن يصعب على الدارس أن يجد اليوسف يستمدّ معاييره النقدية – في نقد الشعر خاصة -  القائمة على ( نشاط المزاج)، من الفحوى الصوفي لدى ابن الفارض ودانتي معاً، بل يمكن الذهاب إلى أن يوسف سامي اليوسف لا يستمد من التراث الصوفي أدواته النقدية فحسب، بل سعى إلى بناء نظرية في الأدب تنهض على الفلسفة الصوفية، وخاصة في أربعة كتب له تتجه  الاتجاه ذاته (ما الشعر العظيم – مقالات في الشعر الجاهلي – القيمة والمعيار – الخيال والحرية)، ولعل هذه النتيجة تحيلنا إلى السؤال الأهم: ما الدافع الذي حفّز الناقد يوسف اليوسف إلى تكرار أفكاره ورؤاه في عمل إبداعي جديد، هو ( رسالة إلى سيدة) ، طالما أنها كانت مبثوثة في معظم أعماله أو نتاجه النقدي؟ ودون أي محاولة للاستنتاج أو الاستنباط ، يأتي جواب الكاتب نفسه في غاية النصاعة والوضوح: ( فمما لا يفوتك يا امرأة من سلام وسكينة أنني لا أريد التفكير أو التفلسف، بل الكشف والرؤيا ومقاربة الأشياء بوعي الثمالة، لا بوعي الدلالة) ص 15 .

رغبة الناقد يوسف اليوسف في تجسيد أفكاره إبداعياً، وليس كممارسة نقدية أو تنظيرية فحسب، أي نزوعه أن يكون صوفياً بحق وليس متصوّفاً، ومثالياً صرفاً، وليس لاهثاً وراء المثال، أقول: هذا الصنيع لدى اليوسف له ما يشابهه ، أو قد سبقه زمنياً، وأعني الرواية الغرامية ( آلام فارتر) للفيلسوف والأديب الألماني ( غوته – 1749 – 1832 ) الذي جسّد في روايته الأسس الفلسفية للاتجاه الرومانسي في الأدب، كما جسّد نزوعه الفلسفي الصوفي كردٍّ على النزعة العقلية في الفلسفة، وقد تركت رواية ( آلام فارتر) أثراً كبيراً ليس على الرواية الأوروبية فحسب، بل على الشعر أيضاً، وخاصة لدى الشعراء الرومانسيين الإنكليز. كما تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى كتاب (رسائل الأحزان) لمصطفى صادق الرافعي (1880 – 1937 ) الذي أراد من خلال خطابه الموجه للمرأة المعشوقة أن يرسم ملامح فلسفة خاصة في الحب، متماهية مع الدين والعقيدة، وملامسةً لأدق المشاعر والأحاسيس تجاه الأنثى بآن معاً.

يوسف سامي اليوسف هو ابن جيل نكبة فلسطين 1948 ، بل إن وعيه لتلك النكبة هو ما جعل منه ناقدا كبيراً ومثقفاً من الطراز الرفيع الذي يندر وجوده في هذا العصر، عصر انحسار الضمير، وطغيان التوحّش، أمّا رحيله بعد نزوحه من مخيّم اليرموك في دمشق، إلى الشمال اللبناني، فقد كان مأساة ثانية، ربما توازي بفداحتها ما حلّ بالمخيم من خراب ودمار نتيجة العدوان الأسدي وحلفائه، فهل سيعي السوريون والفلسطينيون هذه المأساة أيضاً؟.

هامش

رسالة إلى سيدة – منشورات دار كنعان – دمشق – 2013