حين هرّبت إدلب رياض الترك من بلاد الديكتاتور

2024.01.03 | 06:49 دمشق

xcv
+A
حجم الخط
-A

في أواخر التسعينيات كنت شابا ولم أعرف من الحياة السياسية سوى الأب القائد والمعلم الأول والفلاح الأول، كان حينها آخر ما يسمى الاستفتاء الرئاسي لحافظ الأسد حيث نعيش مملكة الرعب فللجدران آذان كما علمنا أباؤنا.

أذكر ذات مرة سألت مدير المدرسة في العام 1997 وكنت في الصف التاسع سؤالا عن العراق، فتلعثم في الإجابة. علمت مساء من والدي أن المدير أبلغه بما تحدثت به وطلب منه أن يبلغني بتجنب الحديث في هكذا مواضيع داخل وخارج الصف.

توفي حافظ الأسد وتابعت تفاصيل الوفاة على شاشة قناة الجزيرة من منزل قريب لي، واتصلت الجزيرة حينها بمعارض سوري اسمه رياض الترك سألته عن وفاة حافظ الأسد فقال "لقد مات الديكتاتور". تسلم بشار السلطة عبر مسرحية تعديل الدستور في دقائق.

ومع استيلاء بشار على الحكم بدأت تظهر تيارات معارضة من منتدى الأتاسي إلى ربيع دمشق وظهرت فيها شخصيات وطنية لم نسمع بها إلا عبر وسائل الإعلام العربية أو الدولية ومن بينها رياض الترك. أغلقت تلك المنتديات ولوحق واعتُقل العاملون فيها بتهمه المس بهيبه الدولة وإضعاف الشعور القومي.

في تلك اللحظات كان منديلا سوريا رياض الترك الأب الروحي والمرجع لكل تلك الشخصيات الوطنية، ذاك الرجل الثمانيني الذي قارع الاستبداد والطغيان والحزب الواحد والقائد الواحد، واعتقل في سجون الشيشكلي وحزب البعث وحافظ الأسد وحده لأكثر من 17 عاما، ثم حكم عليه لمده سنتين ونصف في عهد بشار ولكن أطلق سراحه في العام 2002 نظرا لوضعه الصحي، قضى رياض الترك أكثر من 30 عاما داخل سجون النظام السوري الحالي والسابق لأنه كان صوتا ينادي بالديمقراطية والعدالة والحرية.

الراحل الترك الذي كان الأمين العام للحزب الشيوعي - المكتب السياسي لفترات طويلة وكان أبرز الموقعين على إعلان دمشق في عام 2005 مع شخصيات معارضة كانت تطالب بالتغيير الديمقراطي.

عند بداية الثورة السورية عام 2011 أعلن رياض الترك دعمه للحراك السلمي المدني، وللمجلس الوطني السوري الذي كان أول كيان سياسي ضم أطياف المعارضة السورية في عام 2011، وبث ذلك في مقطع فيديو قصير، وكان الترك قد صرّح في نهاية عام 2011 أن ثورتنا سلمية ترفض الطائفية والشعب السوري واحد لا يتنازل ولا يفاوض حول الهدف المتمثل بقلب نظام الحكم.

غاب فيما بعد الراحل رياض الترك عن المشهد وفرضت عليه الإقامة الجبرية في داخل منزله الدمشقي، ثم في صيف العام 2018 في الخامس والعشرين من شهر تموز أو أواخر تموز - فلم تعد تسعفنا الذاكرة - وفي الساعة 11:30 ليلا وردني اتصال من الصديق عبد الرزاق عوض مدير منظمة سيريا ريليف حاليا، وطلب إلي الحضور فورا ووحدي فهناك شخص مهم يجب أن أراه، وخلال دقائق كنت عنده حيث المزرعة الريفية الهادئة على أطراف إدلب، كان عبد الرزاق ووالده وشخص آخر طاعن بالسن يجلس على كرسي يتكئ على عكاز حديدي جلست بعد السلام، سألني عبد الرزاق ألم تعرف الرجل قلت له لم أذكره بل ربما كنت أراه وتغيرت ملامحه لكن لم أعد أتذكر من يكون، فقال إنه رياض الترك، وقلت متفاجئا رياض الترك إنه رجل عظيم، فوقفت مجددا وعدت للسلام عليه. كان كل شيء فيه مختلفا صوته وشكله بعد أن أخذت منه الحياة ونضاله عمره الطويل وشبابه.

حدثنا الخال حيث الاسم واللقب الذي يعرف به عن حياته وصراعه مع الأنظمة التي حكمت سوريا منذ مطلع شبابه أيام حكم الشيشكلي واعتقاله عام 1952 لأنه كان ضد سياسات الإقصاء والإلغاء والتهميش والانفراد بالسلطة والانقلابات العسكرية. وقضى معظم حياته مع اختلاف الأنظمة التي حكمت سوريا داخل السجن فترات وخارجها فترات أخرى.

وكذلك عن صراعه مع الحزب الشيوعي السوفييتي، وأن أحد قادة الحزب الشيوعي السوفييتي واسمه سوسلوف، طلب مرة من خالد بكداش قائلا له عندما تزورون موسكو لا نريد أن يكون رياض الترك بينكم، موضحا أن سبب الخلاف بينه وبين السوفييت هم يريدون الحزب موجها للأحزاب الشيوعية في كل العالم بينما كان يريد الترك أن يكون الحزب الشيوعي السوري حزبا وطنيا وقوميا لا يتلقى تعليماته من أحد.

ونحن نصغي باهتمام لحديث الترك، صمت قليلا وقال "ما أجمل هذا الهواء اللطيف وهذه البلاد... ألا تستحق الحرية والحياة؟"، لقد كان صوت الرياح التي تحمل نسمات باردة ولطيفة مع نهاية شهر تموز في ريف إدلب

وتحدث الراحل أبو هشام بصوته الهادئ عن صراعه مع حافظ الأسد طوال فترة حكمه وسجنه لأكثر من 17 عاما في سجون الأسد قسم كبير منها كان في زنزانة منفردة، نتيجة مواقفه ضد النظام السوري الذي ألغى الحياة السياسية وقضى على الأصوات والأحزاب المعارضة وعلى كل الحياة الديمقراطية وحوّل البلاد بأكملها إلى مزرعة له ولحزب البعث.

ونحن نصغي باهتمام لحديث الترك، صمت قليلا وقال "ما أجمل هذا الهواء اللطيف وهذه البلاد... ألا تستحق الحرية والحياة؟"، لقد كان صوت الرياح التي تحمل نسمات باردة ولطيفة مع نهاية شهر تموز في ريف إدلب.

ثم تحدث لنا الخال أبو هشام عن بشار المريض نفسيا، قائلا إن طبيبا مختصا بعلم النفس هو من بيت الأتاسي (على ما أذكر أنه قال لؤي الأتاسي) قال للترك بأنه كان يشرف شخصيا على علاج بشار الأسد من مرض نفسي وأنه أرسل إلى لندن من أجل العلاج وليس من أجل الدراسة، وروى لنا الترك مراحل نضال منتدى الأتاسي وإعلان دمشق وإغلاقهما من قبل النظام وملاحقة من فيها وأن كل تلك اللقاءات كانت تعقد من منزله في دمشق.

سألته وعبد الرزاق بماذا تنصحنا نحن الشباب واليوم روسيا تقاتل إلى جانب نظام الأسد والمشهد قاتم بأكمله وفشل المعارضة كبير وكثير، فرد رياض الترك مشددا على قناعته بأن النظام إلى زوال وروسيا سترحل من البلاد، مستشهدا ببطولات أبناء درعا، وقال: "ألم يدخلها النظام وروسيا ومع ذلك لم تهدأ المظاهرات وكذلك هجوم الثوار على مراكز ومعاقل وحواجز النظام فيها... شعب قدم كل تلك التضحيات لا بد أن يكون النصر حليفه".

أربع ساعات مضت في الاستماع والاستمتاع بحديث مناضل عنيد وفذ عن مسيرته النضالية ونظرته للواقع السوري ونصائحه لنا نحن الشباب.

يرحل رياض الترك تاركا أثرا كبيرا لمن عاصره وعايشه وسيرة عطرة كتبت عنه في لحظات الرحيل الأولى مواقع عربية ودولية ومراكز أبحاث عالمية

سألت عبد الرزاق حينها كيف وصل من دمشق قال لي: خرج سرا بمساعدة بعض الشباب من منزله وعبر إلى نقطة أخرى عبر أحد أقنية الري ثم ركب في سيارة جاءت به إلى حلب ثم في سيارة أخرى للتمويه نقل من حلب إلى قلعة المضيق في حماة حيث انتظرته عند المعبر الفاصل بين المعارضة والنظام أي معبر قلعة المضيق، وعند وصوله إلى معبر المعارضة ذهبت به إلى المنزل فورا، كان متعبا جدا وقمت فورا بإدخاله الحمام وبقيت أكثر من ساعة وأنا أحممه نظرا لثيابه المتسخة وحتى يرتاح جسمه بالماء الساخن. غدا صباحا سأذهب به إلى معبر باب الهوى حيث تنتظر ابنته في الجانب التركي وستذهب به فورا إلى باريس.

في صباح اليوم التالي بعد أن دخل الأراضي التركية اتصلت بالراحل ميشيل كيلو وجورج صبرة أعلمتهم بأن الأستاذ رياض الترك كان في إدلب ودخل تركيا منذ قليل في طريقه إلى باريس، أصابت الاثنين الدهشة والاستغراب، قلت إنني كنت معه ليلا لأكثر من أربع ساعات في مزرعة لصديق في ريف ادلب ومنذ قليل عبر إلى تركيا عبر معبر باب الهوى حيث تنتظره ابنته نسرين حيث سيسافران إلى باريس. اتصلوا بها بعد نصف ساعة اتصل بي الراحل ميشيل كيلو وأكد فعلا ما قلت له وأن رياض الترك الآن مع ابنته نسرين.

بعد خمس سنوات من اللقاء مع منديلا سوريا وأربعة وتسعون عاما من الحياة قضى أغلبها في النضال السلمي ضد أعتى الأنظمة قتلا واستبدادا وظلما، يرحل رياض الترك تاركا أثرا كبيرا لمن عاصره وعايشه وسيرة عطرة كتبت عنه في لحظات الرحيل الأولى مواقع عربية ودولية ومراكز أبحاث عالمية.

للراحل الرحمة ولأهله ومحبيه خالص العزاء والمواساة.