حين تصبح السياسة سفسطة..

2023.11.15 | 05:56 دمشق

حين تصبح السياسة سفسطة..
+A
حجم الخط
-A

حين تصبح السياسة سفسطة، وثرثرة بلا معنى، يُمكننا أن نسمع رئيساً مثل بشار الأسد، عاجزاً عن فعل أي شيء في دولته بعد أن دمرها بيديه وحماقاته، وبعد أن سلّم كل أمورها لأطراف خارجية، يتحدث عن تغيير معادلات صراع عالمي تتداخل فيه قوى عظمى، لكن يمكن الجزم بأنه ما من سياسي أو مهتم بالسياسة في هذا العالم، يأخذ ما يقوله بشار الأسد في وسائل الإعلام أو في المؤتمرات على محمل الجد، فهذا الرئيس الغارق في وهم فهم السياسة على أنها مجرد سفسطة، وإنشاء لغوي وبيانات، لم يستطع حتى اللحظة، ورغم مرور ثلاث وعشرين سنة على احتلاله عنوة لمنصب رئاسة سوريا، أن يدرك أن السياسة أولاً هي واقع، وقوة متعددة الأوجه في ركيزتها الأساسية، وأن ما تبقى منها هو استثمار في هذه القوة والوقائع.

طوال ما يزيد على عقدين من رئاسته لسوريا، اشتغل بشار الأسد في السياسة والعلاقات الدولية على تبذير الرصيد الذي كانت تملكه سوريا، والذي عزّز حضورها الإقليمي والدولي، وكان مصدره الأهم هو الموقع الجيوسياسي لسوريا، يضاف إليه قدرات الشعب السوري العسكرية والاقتصادية وغير ذلك، لكنه وبغباء سياسي شديد، وبرؤية لا تعرف التخطيط الاستراتيجي، ولا تشابكات وتعقيدات العلاقات السياسية في جغرافيا بالغة الأهمية، ولا علاقات المصالح المعقدة، راح يبذر هذا الرصيد، لتنتهي سوريا إلى وضع راهن جعل من قرارها، بلا أي أهمية في المنطقة، وبلا أي حضور وفاعلية، وها هي محتلة، ومدمّرة ومستباحة، ولم يعد للسوريين جميعاً أي دور في تحديد مصيرها ومصيرهم.

بعد عجز إيران عن حسم معركة عائلة الأسد ضد الشعب السوري، تدخلت روسيا، وأصبح القرار السوري مرتهناً لطرفين خارجيين، وفقدت سوريا أي قدرة على اتخاذ سياساتها الخاصة التي تخدم مصالحها

الخطيئة الكبرى التي مارسها بشار الأسد بحق سوريا، وكان ذلك قبل انفجار ثورتها بسنوات، إنما كانت في رهن قرارها كاملاً لإيران أولاً، الأمر الذي أضعف سوريا، وأفقدها أهم أسلحتها الاستراتيجية، وأقصد موقعها الجغرافي، فالساحل الشرقي للمتوسط يحتل وعبر التاريخ أهمية بالغة في صراعات الإمبراطوريات والقوى الكبرى، هذه الأهمية بنى عليها حافظ الأسد معظم سياساته الخارجية، واستثمر فيها جيداً في لعبه على التناقضات العالمية، واحتفاظه بعلاقات جيدة مع جهات متناقضة ومتصارعة.

بعد عجز إيران عن حسم معركة عائلة الأسد ضد الشعب السوري، تدخلت روسيا، وأصبح القرار السوري مرتهناً لطرفين خارجيين، وفقدت سوريا أي قدرة على اتخاذ سياساتها الخاصة التي تخدم مصالحها، وأصبحت السياسة السورية على الصعيد الدولي مجرد ورقة بيد الآخرين، يتصرفون بها كما تقتضي مصالحهم، لا كما تقتضيه مصلحة السوريين.

إذا بفقدان سوريا لكامل عناصر قوتها، وباستحواذ روسيا وإيران على سيادتها وقرارها، لم يعد للصوت السوري أي أهمية سياسية، وعندما حاولت أطراف عربية إخراج سوريا من الهيمنة الخارجية اصطدمت بعجز بشار الأسد عن اتخاذ أي قرار بهذا الخصوص، لو افترضنا أنه يريد ذلك، وأصبح القرار السوري مجرد أداة، تعكس ما تريده مصالح إيران وروسيا. 

لم تستولِ إيران وروسيا على القرار السوري وحضورها في السياسة الدولية فقط، بل ذهبت أيضاً إلى تقاسم أهمية موقعها الجغرافي، وتقاسم إمكانات وثروات سوريا، لا بل تقاسمتا أيضاً السيطرة على المواقع الأهم في قرارات الدولة السورية المتعلقة بالداخل السوري، وبالشعب السوري، وهكذا أصبحت السياسة الخارجية لسوريا وثرواتها الاقتصادية، وإدارة دولتها، مكرّسة لمصالحهما، أما ما تبقى من الاقتصاد السوري، ومن الدولة السورية فقد ترك لعائلة الأسد أن تنهب وتخرب فيه، مقابل ضمان بقاء هذه العائلة في موقع السلطة. 

في القمة العربية السابقة، والتي كانت أول قمة تحضرها سوريا بعد الثورة السورية، كان الموقف السوري مجرد ناقل لما يريد الروس قوله، فتحدث عن نهاية القطبية الأحادية، وأعلن وقوفه ضد الغرب وأميركا، متبنياً الخطاب الروسي كاملاً، وفي القمة العربية الإسلامية التي عقدت مؤخراً، كان الهدف الإيراني المتمثّل في إيقاف التقارب السعودي الإسرائيلي، هو الموقف الوحيد الذي تضمنه حديث بشار الأسد.

بغض النظر عن الموقف السياسي من الصراع الدائر في أوكرانيا، وبغض النظر عن الموقف السياسي من مسار التطبيع مع إسرائيل، لا بد للسوريين أن يتساءلوا عن مصلحة سوريا في حالتها الراهنة، وفي دمارها، ومعاقبتها، وانهيار اقتصادها في أن تقف في الصف المعادي للغرب وأميركا، أو أن تنتقد السياسة السعودية، وهل تحتمل ظروف سوريا الراهنة أن تذهب إلى اصطفافات دولية لا تخدمها، بل تخدم مصالح الآخرين؟

يتحدث بشار الأسد في القمة الأخيرة عن ضرورة تغيير المعادلات، وهو الذي لم يترك لسوريا أي إمكانية لفعل أي شيء، وجعل من سوريا التي كان لها وزنها وحضورها الإقليمي، بلا أي وزن أو أهمية

في كل الإطلالات الإعلامية لبشار الأسد، يُمكن بسهولة أن نقرأ تغييب الواقع السوري، وتجاهله، وتجاهل المأساة التي تفتك بسوريا، والتي تهدد صيغة وجودها، والغريب أن كل الوقائع التي تفتك اليوم في الشعب السوري، والتي سببها النظام في سوريا، وفعلها بيديه، وبكامل الإصرار يتجاهلها هذا النظام، بينما يتم رصدها تماماً في صراعات أخرى، فيتحدث بشار الأسد عن تفوق الصهيونية على نفسها في الهمجية، وهي دولة محتلة، وعنصرية، تمارس همجيتها بحق شعب آخر، بينما يتجاهل تفوقه على الصهيونية في الهمجية والوحشية ضد شعبه، وما فعله بالسوريين لم يعد خافياً على أحد.

يتحدث بشار الأسد في القمة الأخيرة عن ضرورة تغيير المعادلات، وهو الذي لم يترك لسوريا أي إمكانية لفعل أي شيء، وجعل من سوريا التي كان لها وزنها وحضورها الإقليمي، بلا أي وزن أو أهمية، ويتحدث عن عدم جدوى البيانات وإطلاق المواقف فقط، وهو الذي لم يعد يملك حتى إمكانية إصدار البيانات، فهو مرغم على التحدّث، واتخاذ المواقف كما يملى عليه.

لعل القيمة الوحيدة التي تعنيها هذه القمم، أو اللقاءات لبشار الأسد، إنما تكمن فقط في أنها تذكر الآخرين بأنه لا يزال رئيسا لدولة، أما في معادلة تغيير المعادلات، والانتقال إلى وجه آخر من أوجه الصراع الدائر في العالم كله، والذي يفتح على احتمالات تغييرات عميقة، فإن خير ما يمثل بشار الأسد، ورؤيته السياسية، وكل سنوات حكمه التي قاربت ربع قرن، هو حفرة التضامن التي كان المواطنون السوريون والفلسطينيون يدفعون إليها معصوبي الأعين، ومقيّدين، وعلى حافتها يُطلق النار عليهم حاقد أسدي، فيسقطون جثثا نازفة مكدّسة ومنسية.