حملات مكافحة الفساد في نظام الأسد

2019.11.17 | 17:06 دمشق

assad-viste-edlib22-10-2019_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتواتر من دمشق أخبار الضغط على بعض رجال المال المقربين من السلطة، والتدقيق في سجلات أبرز شركاتهم، والتحقيق مع مسؤولين حكوميين. بشار الأسد نفسه كرر كلمتَي «الفساد» و«فاسد» 35 مرة خلال مقابلته الأخيرة مع وسائل إعلام رسمية محلية قبل حوالي ثلاثة أسابيع، والتي دامت ساعة ونصفاً. مثل جمهوره، عدّ رئيس النظام أن ما «نهشه» الفاسدون من «الدولة» و«الوطن» في السنوات الأخيرة كان أكبر حتى مما فعله «الإرهابيون». وأردف قائلاً: «البلد لا تتحمل».

من لم يعد يتحمل، في الحقيقة، هم ثلاثة أطراف؛ الأسد نفسه مستعجلاً إمساك السلطة بيد من حديد من جديد، و«البلد» بالفعل، أي اقتصاد مناطق سيطرة النظام، والذي صارت معالم اهترائه وتعثره واضحة ومتكررة، وأخيراً أهل هذه البلد، سكان تلك المناطق.

في الواقع، كان لتسرّع النظام في إعلان انتصاره، هذه المرّة، مفاعيل سلبية لم تظهر مع كل مرّة زعم فيها سابقاً أن «الأزمة» قد انتهت بتعبيره الشهير «خلصت». ففي عقابيل سيطرته على درعا والجنوب، متوجاً سلسلة فتوحات دموية طالت بقعاً ثورية ذات أهمية ورمزية عاليتين، كحلب والغوطة وأرياف حمص؛ بدا الأمر لجمهوره، وخاصة لحاضنته المتعَبة، بوصفه إيذاناً بنهاية «الحرب» أخيراً. صحيح أن بؤرتين كبيرتين ظلتا خارج السيطرة، وهما إدلب والشمال حولها من جهة والمناطق الواقعة تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) من جهة أخرى؛ غير أن حل هذين الاستعصاءين بدا للجميع رهن «تفاهمات دولية» أكثر من كونه شأناً داخلياً يناط تحقيقه بالجيش «الباسل».

لم تكن حقبة الثمانينيات غائبة عن الذاكرة، عندما كوفئ من وقفوا مع النظام في أزمته، بمناصب وإقطاعات حكومية وتمييز عام

أنهت حاضنة النظام -ومؤيدوه- دورها أو تكاد، إذاً، وحان الوقت لتجني الثمرة؛ تمييزاً في العطايا والوظائف والحياة العامة، مشرعناً بقوانين خاصة لأهالي «الشهداء»، وكلهم ذوو «شهيد» أو أكثر. لم تكن حقبة الثمانينات غائبة عن الذاكرة، عندما كوفئ من وقفوا مع النظام في أزمته، بمناصب وإقطاعات حكومية وتمييز عام. غير أن نتائج ذهبية من هذا النوع سرعان ما تبين خطلها مع ضعف موارد البلاد وجفافها من طرف، ونتيجة العدد الهائل لقاعدة شركاء الأسد في نصره المزعوم من طرف آخر.

ليكن... لقد قدّم هؤلاء أبناءهم «فداء للوطن»، كما اعتادوا القول على التلفزيون وهم يستبطنون الطائفة أو التشبيح أو الحماقة أو الصدفة أو التجنيد الإلزامي، ومن حقهم على الأقل أن تعود «سوريا الجميلة» التي دافعوا عنها إلى سابق عهدها في حدود الحياة الدنيا؛ كفاية في رواتب موظفي الجيش والأمن والقطاع العام وقتلاهم ومتقاعديهم، وقدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية من غذاء وتعليم وسكن ومحروقات. لكن حتى هذه المتطلبات العادية لم تتوافر! ولا يبدو أنها في وارد التحقق على المدى المنظور! فأين يكمن الخطأ إذاً؟!

لا نعرف من أول من أطلق تعبير «دواعش الداخل» للدلالة على تجار الحرب وشركائهم من المسؤولين الفاسدين، ممن كانوا «ينهشون» ظهر البلد فيما هي تواجه بصدرها «المؤامرة الكونية»، غير أنه شاع بدرجة هائلة لدى جمهور النظام حتى غدا أحد المفاهيم المفتاحية التي تشكّل فضاءهم الحياتي في السنوات الأخيرة. ولطالما اعتُبر «دواعش الداخل» أخطر من الدواعش الحقيقيين ومن الثوار، نتيجة الأفكار الرائجة الراسخة التي تنحو إلى أن الخيانة من قلب البيت أمضى وأن ظلم ذوي القربى أشد... إلخ.

يلوب هذا الجمهور، إذاً، في ما يشبه حملة ملاحقة ساحرات قروسطية، في البحث عن هؤلاء، يتابع بشغف أي تسريبات، يتضوّر لتعليق مشانق! وقد كانت السنة الأخيرة فرصة مواتية لتفعيل مشاعره هذه.

 

هل ننتظر شيئاً جدياً من وراء ذلك؟ نعم ولا.

في مقابلته نفسها يشير بشار الأسد إلى أن الحملة بدأت من «المؤسسة العسكرية». وبالنظر إلى أن مسائل كهذه سرية الطابع فإننا لا نعرف عنها الكثير. كُلّفت لجنة بالتحقيق في مناقصات جرت في جهات إنشائية كبرى تابعة لجيش النظام لخدمة بنيته التحتية وأخرى لتزويده بالتعيينات (الإطعام)، كما ببعض التهم الموجهة إلى ضباط بتهريب مستلزمات الحياة إلى بعض مناطق الثوار التي كانت محاصرة، مقابل المال، وحتى ببيع الذخيرة. وقد أسفرت هذه الحملة عن اعتقال مئات الضباط وصف الضباط من مواقع مختلفة وإيداعهم في سجن صيدنايا، وإن في ظروف تختلف كلياً عن أوضاع سجناء الثورة هناك طبعاً.

شكّلت هذه القضية إرباكاً للباحثين المهووسين عن المحاسبة! فالفاسد النمطي لديهم وزير أو مدير عام مدني لإحدى شركات القطاع العام، يرتدي طقماً يبدو لهم أنيقاً وربطة عنق، بدين حكماً، سنّي على الأرجح، بعثي في الغالب، بعدما أصبح الحزب طريق الإخوان المسلمين للتسلل إلى السلطة كما يعتقد هؤلاء. أما أن تكون طلائع الفاسدين من لابسي البدلة العسكرية المنزهة، وبأغلبية علوية كما تدل حملات أهاليهم لإطلاق سراحهم، فهو ما لم يكن في الحسبان! خاصة بالنظر إلى أن إحدى الصور النمطية الأساسية لمكافحة الفساد المرجوة هي إبراز تناقض صورة مأدبة الوزير الباذخة مع حبّتي البطاطا الواصلتين إلى عسكري في الخندق يتصدى للإرهاب!

خفتت أصوات المطالبين بالإفراج عن «ضباط صيدنايا» بعد أن أثيرت حتى في «مجلس الشعب» من قبل عضو شهير يمثل جبلة. وتبيّن أن النظام يحاكمهم ولن يستجيب للمناشدات الساذجة التي اعتمدت أساساً على طلب العفو لأنهم حاربوا «المسلحين» لسنوات، وباعتبار أنه «ما في شجرة ما هزّها الهوا» كما كتبت «صحافية» نشطت في الملف!

الأسماء الجديدة المتداولة في الأشهر الماضية نقلت أمر مكافحة الفساد إلى سوية غير مسبوقة

غير أن الأسماء الجديدة المتداولة في الأشهر الماضية نقلت أمر مكافحة الفساد إلى سوية غير مسبوقة. والحق أن النظام، القائم على سلسلة هرمية متماسكة من المحسوبيات والشراكات وتقاسم الحصص، كان حذراً من هذا الموضوع لعقود، فحافظ دوماً على ملاحقة الفساد كعملية مضبوطة مخبرياً دون أن يسمح لها بالانفلات. واستخدمها كوسيلة لمعاقبة بعض المغضوب عليهم، أو من زاد طمعهم واعتدادهم بأنفسهم عن الحد، أو تجاوزوا خطوطاً حمراء معينة، فضلاً عن وظيفتها الثابتة في إرضاء «المواطنين» وتدوير شكاويهم.

ولأجل ذلك أقامت بيئة النظام الأمنية والسياسية الداخلية والإعلامية حاجزاً مكهرباً بين «الحكومة العتيدة»، التي تُركت لتلوكها الألسن الحرة، وبين «السيد الرئيس» الرمز الذي «الله يعينه... شو بده يلحّق ليلحّق؟!... كل ما بيعيّن حدا بيطلع حرامي... بيغيّره بيجي اللي بعده أفسد منه... وهيك»!

رغم سخافة هذه الفكرة، التي تقتضي أن يستقيل هذا الذي لا يعرف كيف يعيّن المسؤولين على الأقل، إلا أنها خدمت طويلاً بفعل حراستها الأمنية الحازمة. منذ عهد حافظ الأسد الذي كان الصحافيون يتلطون، عند الحديث عن الفساد، وراء مقولته الأيقونية: «لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ ولا أن يتستر على العيوب والنواقص»، وحتى أيامنا التي يستخدم فيها المتذاكون حكمة لابنه لا تقل ألمعية، هي: «عليكم بمحاربة الفساد... والقرار الفاسد... والإنسان الفاسد»!!

ولكن هل سيستمر هذا الجدار الوهمي بالصمود؟ يُستبعد ذلك إذا واظبت حملة مكافحة الفساد على تناول أسماء كبيرة ذات صلة واضحة بأعلى المستويات، خاصة مع ضيق السكان ذرعاً وصدراً وحياةً بشكل يقلل من إمكانية مداهنتهم لهذا الحاجز المرائي إلى وقت طويل.

هل نتوقع احتجاجات بسبب هذا في مناطق الأسد؟ يُستبعد ذلك أيضاً بسبب ظروف مركّبة معروفة. لكن عرياً أكبر للنظام هو أمر ينبغي عدم الاستخفاف بأثره على الشرعية والهيبة، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.