icon
التغطية الحية

حلب ودمشق.. مدينتان بثقافة واحدة

2021.03.25 | 19:17 دمشق

jufhfh.jpg
+A
حجم الخط
-A

طوال قرون كانت كل من دمشق وحلب ولايتين، أو مملكتين، أو حتى مدينتين منفصلتين، على رأس كل منهما وال أو ملك أو حاكم مختلف، رغم انتمائهما ومنذ العصور الإسلامية الأولى إلى ثقافة متشابهة ومرجعية دينية واحدة، فقد وقعتا معا ضمن الفتوحات التي أنجزها خالد بن الوليد وأبو عبيدة عامر بن الجراح.

وتميزت دمشق طوال العصر الأموي باختيارها عاصمة للدولة الإسلامية عندما بويع معاوية بن أبي سفيان خليفةً للمسلمين، عندئذ كانت حلب مدينة صغيرة تلفت أنظار الخلفاء، فبعد أن بنى الوليد بن عبد الملك الجامع الأموي في دمشق بنى سليمان بن عبد الملك جامعاً أموياً في حلب وحاول قدر استطاعته أن يكون مسجد حلب مضاهياً للمسجد الذي بناه أخوه في دمشق، ولكن علاقة دمشق بحلب اتخذت علاقة العاصمة بإحدى ولاياتها، حيث كان الخليفة يرسل عماله إليها، وطوال العهد الأموي كانت حلب تابعة لقنسرين مركز جند وحامية الدولة على حدود بيزنطة. واستمر ذلك طوال العهد الأموي، ليتغير كل شيء بعد أن وجد العباسيون طريقهم لكرسي الخلافة، وكان العباسيون قد خاضوا حروباً في حلب ودمشق ضد جيوش مروان بن محمد الأموي آخر خلفاء بني مروان بن الحكم.

ثارت حلب في وجه العباسيين بقيادة أحد أبناء معاوية بن أبي سفيان، فقُمعت حركته، وثارت دمشق بقيادة عبد الله بن علي عم المنصور، فقمعت حركته هو الآخر، واستتب أمر المدينتين لصالح العباسيين. دأب العباسيون على تعيين وال على حلب وقنسرين ووال آخر على دمشق، وكانت حلب تمتاز بأنها مركز حدودي تتجمع حوله الجيوش للغزو الذي كانت تسميه العرب الصائفة، فيتوغلون في الأراضي البيزنطية ويرجعون، أو يتجمعون للدفاع عن حدودهم الشمالية، وكثيراً ما كان الخليفة نفسه يقود عمليات الهجوم المسماة صائفة، ومنهم الرشيد، والمأمون، واستمر الأمر حتى منتصف القرن الثالث الهجري.

ضعفت الخلافة العباسية ولم تعد قادرة على ضبط أطرافها، فاستطاع أحد متغلبي الأطراف ويدعى أحمد بن طولون، السيطرة على دمشق وحلب وضمها إلى أملاكه في مصر، وأصبح رغم خضوعه الاسمي للخليفة في بغداد مناوئاً له، وصارت حلب ودمشق تقع حيناً تحت سيطرة الخليفة وحيناً آخر تحت سيطرة أحمد بن طولون أو وريثه أبي الجيش خمارويه.

استقر الحكم في حلب بعد سلسلة منازعات طويلة في يد سيف الدولة الحمداني وعاشت حلب كدولة مستقلة حدودية تتحمل وزر هجوم البيزنطيين المجاور الذي أوقعها بين أيديهم، في حين كانت دمشق تخوض حروباً في وجه جوهر القائد العسكري للفاطميين الذي استطاع أن يسيطر على دمشق، ثم خسرها لصالح الإخشيد وما لبث الفاطميون أن استعادوها مرة أخرى، وظلت بين أيديهم حتى وقعت حلب ودمشق كلتاهما في يد السلطان السلجوقي تتش بن ألب أرسلان مع بداية الثلث الثالث من القرن الخامس الهجري.

لم يستمر ربيع دمشق وحلب المشترك طويلاً، فسرعان ما انتهى بوفاة تتش وتقسيم مملكته بين أولاده فحكم رضوان بن تتش حلب ودقاق بن تتش دمشق، وتحولت المدينتان من جوهرتين في تاج تتش إلى مملكتين منفصلتين تتحينان الفرص السانحة لتنقض الواحدة على الأخرى، وعاشت المدينتان شيئاً من الاستقلال الحذر والحماية الذاتية، أمنت لهما الصمود أمام حصار الصليبيين الذي جربته المدينتان كل على حدة. كان النجم الجديد نور الدين زنكي يشرق في المنطقة فانطلق من الموصل إلى حلب، وأسس عاصمة عسكرية فيها وانطلق مرة أخرى منها، وبعد محاولات عديدة نجح في ضم دمشق، لتعود المدينتان مرة أخرى عضوين في دولة زنكي الجديدة صاحبة الطموح والتطلع نحو التخلص من الاحتلال الصليبي الذي كان قد بدأ في تأسيس إماراته الساحلية في طرابلس وبيروت والقدس، ولم يقف تطلع نور الدين على دمشق وحلب فقد عقد العزم على ضم مصر التي كانت تعيش عصر نهاية الدولة الفاطمية، واستطاع أن يوقع بالدولة الفاطمية على يد قائده صلاح الدين الأيوبي، الذي ورث مملكته الشاسعة بعد أن توفي في دمشق، وأصبحت المملكة الآن تضم دمشق وحلب والقاهرة، تحت قيادة صلاح الدين.

العصر الذهبي القصير انتهى سريعاً ليسود المنطقة في عهد أيوبيي ما بعد صلاح الدين، نوعاً من ملوك الطوائف المتصارعة، فتفككت المملكة إلى ممالك يقودها ملوك من أبناء صلاح الدين أو أبناء أخيه الملك العادل. تناوبت المنطقة، ومنها المدينتان، أحوال الضعف والقوة مما أفسح المجال لعهد جديد من عهود السيطرة أن يبدأ وهو عهد المماليك الذين اتخذوا من مصر عاصمة لهم وتحولت دمشق وحلب إلى نيابتين يرسل السلطان المملوكي نوابه إليهما، فكانت دمشق أجلّ النيابات وتأتي بعد القاهرة العاصمة، وكانت حلب أيضاً تتمتع بمكانة قوية ويتولى نيابتها مملوك قوي ذو مكانة وبأس، وطوال ذلك الوقت تحملت حلب، وهي الدولة الحدودية، وزر الحملات العسكرية الدفاعية أو الهجومية، ولكن حملة السلطان سليم الأول الناجحة إلى عاصمة المماليك، حولت حلب إلى مدينة داخلية مهمة تستمد أهميتها من قربها من عاصمة الدولة العثمانية في الأستانة، وفي الوقت ذاته كانت منفصلة عن دمشق، وحظيت كل مدينة منهما بلقب ولاية حتى نهاية العهد العثماني.

انتشر في المدينتين وبحسب السلطات التي كانتا تخضعان لها المذهبان الشيعي والسني، وسيطر على دمشق فترة من الزمن القرامطة، وعانت المدينتان من غزو المغول والتتار واستبيحت كلتاهما، وعاشت كل منهما زمن رخاء وسعادة، وكانت المدينتان جزءاً من إمبراطورية واحدة مع وال أو نائب لكل منهما، وحتى بدايات القرن العشرين كانت دمشق وحلب مدينتين منفصلتين، مسلمتين بثقافة إسلامية، عاشتا ظروفاً متماثلة مع مدن أخرى كالموصل وبغداد، وغيرها من المدن، ولكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى كانت المدينتان تسيران ببطء نحو الالتحام النهائي في وحدة سياسية واجتماعية وجغرافية لقرن قادم من الزمان، وقد يكون الفضل في تلك الوحدة، من دون قصد، لمصالح فرنسية في كلتا المدينتين.