حزب الله وسفك الدم السوري

2024.06.24 | 07:46 دمشق

آخر تحديث: 24.06.2024 | 09:09 دمشق

32323232323232323232323232325
+A
حجم الخط
-A

"لم يستهدف مقاتلو حزب الله ولم يسفكوا دمَ مدنيٍّ سوري في الحرب السورية". العبارة السابقة.. حقيقةٌ، لأنه لا دليل ولا شاهد يجعلها مخالفةً للصّواب". بهذه العبارة المباشرة بدأ الكاتب موسى السادة مقالته حزب الله والدم السوري (6 يونيو/ حزيران) على "صحيفة الأخبار"، قبل الدخول في كلام طويل ومطرد عن "السرديات والهويات الطائفية"، ورد هذه الاتهامات لأنها مقدمة وممولة من "الخليج والناتو". 

لم يأت حديث موسى من فراغ، فهو يصبُّ في موجة، أو بالأحرى "تريند"، يستحضر الثورة السورية في سياق الاصطفاف وراء الحزب في مواجهته التي تزداد وتيرتها وتتصاعد مع الكيان الإسرائيلي، تتفاوت الأوصاف بها حول السرديتين اللتين قدمهما موسى - وهو ما بين التسخيف من سياسة وممارسات الحزب على امتداد عقد ونيف من الثورة السورية، بالدعوة إلى غض الطرف عن "سلوكيات" الحزب - التي راح ضحاياها عشرة ملايين شخص على الأقل بين شهيد وجريح ومنفي ونازح - بالدعوة إلى الاصطفاف وراءه في سياق "توحيد الأمة" وتجاوز "الهويات والصراعات الطائفية والعرقية" لمواجهة "العدو الأوحد"، أو على الجانب الآخر بتبرير هذه المشاركة باستهداف سردية الثورة السورية نفسها، بكونها "ثورة أميركية/ ناتو/ بترودولار.. الخ".

ومن الجدير بالذكر أن هذا التريند لا يبدو بريئاً أو عفوياً، فهو أشبه بصدى غرفة مغلقة تتكرر بها بعض الحجج والأفكار التي يطلقها ناشطون، وإن ارتدوا زي الكتاب والباحثين، إما بمحاولة استغلال المواجهة الحالية لـ"غسل أيدي" الحزب عن جرائمه في سوريا، وإما انطلاقاً من أن هذه المواجهة لم تترجم لرصيد شعبي كافٍ يوازيها، عكس ما جرى في حرب تموز 2006. في الحالتين، تقع مشاركة الحزب في سوريا، وتحديدا ضد المدنيين، في قلب هذه النقاشات، وهو ما تتناوله هذه السطور، بعد تمهيد بمقدمة أساسية.

هذا التريند لا يبدو بريئاً أو عفوياً، فهو أشبه بصدى غرفة مغلقة تتكرر بها بعض الحجج والأفكار التي يطلقها ناشطون، وإن ارتدوا زي الكتاب والباحثين.

تحرير "التحرير من الاستعمار"

في إطار أوسع، ينتمي موسى السادة إلى مدرسة "الديكولونيالية" [التحرر من الاستعمار أو اجتثاثه] الفكرية، والتي تنظر للأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة بكونها استمراراً للنظام الاستعماري، سواء بصيغته التاريخية بالبنى والدول العربية الوطنية التي خلفها، أو الراهنة استمراراً للنظام المعرفي والثقافي كما الاقتصادي والسياسي العسكري الإمبريالي الراهن، وفي قلبه الولايات المتحدة ومن وراءها الغرب. 

وعلى الرغم من ذلك، وبما يتعلق بموقع الحزب في سوريا على الأقل، ما زال السياسي مستعمراً في فكر موسى ومدرسته، فهو، وكما يقول محمود ممداني، البروفيسور المتخصص بالاستعمارية وما بعدها، في كتابه لا مستوطن ولا مواطن، يتبع "النموذج الجنائي" لفهم العنف المفرط والاستجابة له، والمنطلق من حقوق الإنسان المعاصرة المنبثقة من محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، المبنية على الفكرة النيوليبرالية – التي يعاديها موسى ورفاقه دوما - قبل أن يوجد مصطلح النيوليبرالية، بأن كل العنف هو ممارسات فردية.

نورمبرغ نزعت عملياً السياسة عن النازية، ملقيةً مسؤولية العنف النازي على أشخاص محددين ومتجاهلة حقيقة أن هؤلاء الرجال كانوا مشتبكين بمشروع الحداثة السياسة نيابة عن فئة معينة: الأمة، الشعب (the volk)، مثلما ينوب الحزب عن قاعدته الشعبية المؤمنة، عقيدة وسياسية، بمشروع الحزب، وتجليه بشكل أوسع في محور "المقاومة والممانعة".

في مقابل "الجنائي"، يحضر "النموذج السياسي" القائم على "تحرير السياسي من الاستعمار"، كما يقول ممداني، والذي يطالبنا برؤية العنف كسلوك لتأسيس جماعة سياسية، ليصبح العنف بهذه الطريقة وسيلة لتحديد من هو العضو ومن ليس كذلك، أي أين تكمن حدود الجماعة.

إذا نظرنا إلى "حزب الله" بهذه الطريقة، ورجعنا إلى "ما وراء الحزب" كفاعل مسلح غير دولتي، يفتقد في تكوينه وتنظيمه للتجنيد الإجباري، ويستعيض عنه على التعبئة والتجنيد والتنظيم للقواعد الشعبية، أي أنه ببساطة أداة العنف وموفره لهذه القواعد، والتي تنطلق في خطابها وإيمانها وقواعدها من رموز ولغة طائفية، لا مشكلة لديها بالشماتة بالدم – كما في حالة حصار مضايا – أو بالدعوة للخطاب الإبادي المباشر، يبدو لنا الحزب هو ممارس العنف السياسي، لا الجنائي، وممثله باسم "جماعة سياسية" لا مشكلة لديها بإعادة رسم خطوط الجماعة وحدود نفوذها، بالتهجير والاحتلال.

ولذا، ورغم أنه يبدو من الخطأ، ما لم يكن من السخف لا سيما من منتسب للمدرسة التحررية من الاستعمار، استحضار الخطاب النيوليبرالي الذي يختزل العنف السياسي المفرط بكونه عنفا جنائيا، يُطلب به تقديم أدلة – لا نقص بها كما سيتضح أدناه – على الطريقة الهولمزية لإثبات الجرائم وثم محاسبة "العنصر المجرم" – لا المنظومة المنتجة – الذي قام بهذه الجريمة؛ إلا أن إثبات أو تقرير سفك الحزب للدم السوري أمر قائم على كل مستويات الحرب الثلاثة.

قد كان الحزب، وعلى رأسه الأمين العام حسن نصر الله، هو راسم سياسات "محور المقاومة والممانعة" في سوريا، والذي كان به أكثر تطرفا وانحيازا للخيار الأمني والعسكري أكثر حتى من فيلق القدس بقيادة قائده حينها قاسم سليماني.

تكتيكي وعملياتي واستراتيجي

تكتيكيا، أو على المستوى الجنائي، تصخب شهادات الضحايا، التي يقرر أبواق الحزب فجأة تجاهلها وتناسيها رغم ادعائهم الانحياز للضحايا أينما كانوا، والتقارير الحقوقية التي يشككون بها، بالأحاديث والتفاصيل عن انتهاكات الحزب، وفي حال هذا التجاهل، فيمكن ببحث قليل إيجاد مقاطع مسربة لعناصر الحزب وهم يعذبون المدنيين، أو يهينوهم، أو يتحدثون بلغة طائفية فجة متجاوزة حتى لرموز اللغة الطائفية الرسمية للحزب باحتفالاته وخطاباته الرسمية، والمنصبة في قلب مشروعه الثقافي والسياسي.

بهذه الطريقة، يبدو "الانضباط" المزعوم للحزب وسلوكياته انضباطا مرتبطا بعدم النشر والتوثيق، لا بعدم الممارسة الطائفية والجنائية نفسها، وهو انضباط غائب عن اللغة شبه السائدة لدى قواعد الحزب وحاضنته – أي المصدر الرئيسي للمقاتلين والمجندين – لا يستبعد أن يتحول لممارسة مشروعة، يمنع تصويرها وحسب.

على المستوى العملياتي الأعلى، في عمليات عسكرية محددة بذاتها، لم يستبعد الحزب استخدام تكتيكات حربية ممنهجة ضد المدنيين، على رأسها الحصار والتجويع المنهجي للمدنيين بطريقة تشبه الحصار الإسرائيلي لشمالي غزة، كوسيلة للضغط على المدنيين للخروج، وخصوصا في ما يسمى بأدبيات الحزب بـ"معركة التحرير الثاني"، الممتدة من القصير مرورا بالقلمون الغربي وانتهاء بالزبداني ومضايا، التي تولى حزب الله كِبرها بشكل مباشر، تخطيطا وتنفيذا وأداء، واستخدم بها أدوات حصار وتجويع ممنهج تستهدف المدنيين – لا تقتلهم كأضرار حرب جانبية – أدت لاستشهاد العشرات في مضايا، كان تبرير أنصار الحزب لها هو السخرية والشماتة.

أما في السياق الاستراتيجي الأعم، فقد كان الحزب، وعلى رأسه الأمين العام حسن نصر الله، هو راسم سياسات "محور المقاومة والممانعة" في سوريا، والذي كان به أكثر تطرفا وانحيازا للخيار الأمني والعسكري أكثر حتى من فيلق القدس بقيادة قائده حينها قاسم سليماني، بحسب ما يوثقه نائبه حسين همداني في مذكراته "ذاكرة الأسماك"، وفي وقت كانت به العمليات البرية – تحت غطاء طيران النظام السوري والسلاح الجوي الروسي – تتم بتخطيط وقيادة ميدانية ومشاركة مباشرة من قيادات الحزب وعناصره، في معارك فاصلة بالثورة السورية، أهمها معركة حلب، في مجموعات قتالية مكونة من قوات النظام مع الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الشيعية المقاتلة، المحلية والأجنبية، يقودها ويشارك بها الحزب، تقاتل أولا تحت شعار "لن تسبى زينب مرتين"، وأول ما ترفعه بعد التهجير هو راية "يا حسين" (لاحظ هنا من الذي يستحضر ويستخدم الخطاب والرموز الطائفية ويقاتل ويقتل ويُقتل من أجل الهويات الفرعية).

بعد 12 عاما من مشاركة الحزب في سوريا، وبعد مئات آلاف الشهداء والجرحى وملايين المهجرين، يقع الحزب بشكل مباشر في قلب الإبادة السورية على كل المستويات، فهو أولا، ممارس مباشر للجرائم الممنهجة ضد المدنيين، ثم، ثانيا، موافقا على ما تقوم به القوات البرية والجوية التي يقودها ويشارك معها، وثالثا، مخططا لها، وأخيرا، مسهلا لها، مما يجعل من الفانتازيا، لا من الحقيقة، القول إن "مقاتلي حزب الله لم يسفكوا دم مدني سوري".