حرب الرقائق الإلكترونية الباردة

2023.01.08 | 05:53 دمشق

حرب الرقائق الإلكترونية الباردة
+A
حجم الخط
-A

شهد العقد الأخير في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، ثورة تقنية هائلة في مجال الحوسبة وتكنولوجيا المعلومات، شملت جميع نواحي الحياة، وخاصة في المجالين العسكري والأمني، فأسفرت التطورات التكنولوجية عن ظهور وسائل وأساليب جديدة للحرب، مما أثار تحديات إنسانية وقانونية جديدة.

اعتبر قرن سيطرة المعلومات والتقانة المعلوماتية التي حققت تطوراً مذهلاً، إذ أوجدت الثورة المعلوماتية مجالاً جديداً للصراع بين الدول، وتحول الفضاء الإلكتروني إلى مسرح جديد للتفاعلات الدولية، وبرزت حالة توظيفه في الاستخدامات المدنية والأخرى ذات الطبيعة العسكرية، وتبلورت حروب الجيل الخامس (الحروب الهجينة) التي تستخدم التكنولوجيا المتطورة، بعيداً عن المواجهة المسلحة العسكرية، وتستهدف المؤسسات والأهداف الحيوية والبنى التحتية للدول.

تزامن التطور التكنولوجي إلى بروز أقطاب جدد على الساحة الدولية تهدد الأحادية القطبية الأميركية، فكانت الصين المنافسة الشرسة لأميركا على الصعيد التكنولوجي، مما أدى إلى تصاعد حدة الصراع الأميركي – الصيني.

ضمن هذا السياق، أصبح الفضاء الإلكتروني مجالًا للصراعات ما بين كل أنواع اللاعبين، سواء من الدول أو غير الدول؛ وتبلورت الحروب السيبرانية (Cyber War) المختلفة في خصائصها عن الحروب التقليدية، من حيث طبيعة الأنشطة والتنظيمات أو الجهات الفاعلة، وانعكاسها على بنية الأمن العالمي، من خلال توفر فرص الاستجابة لتلك التهديدات الجديدة.

فظهرت أهمية مستقبل الأمن الإقليمي والدولي السيبراني، في ظل التطورات الراهنة والتنافس الشرس بين القوى العسكرية للدول الكبرى، والتي تتسابق على تطوير أسلحة الذكاء الصناعي بهدف تحقيق التفوق العسكري.

شكلت هذه التهديدات والتحديات في ظل الصراع الدولي المحتدم بين أميركا وروسيا والصين، تكثيفاً لنشاطاتها في المجال السيبراني، حيث بات العامل التكنولوجي ركيزة أساسية من مقومات الدولة العسكرية والاقتصادية والأمنية.

كما شكلت صناعة الرقائق الإلكترونية ثورة في عالم التكنولوجيا، وفي عصر الذكاء الصناعي بات الصراع حول امتلاك أحدث التقنيات في صناعة "الشرائح أو الرقاقات الإلكترونية" يوازي أهمية امتلاك الأسلحة النووية، فالمعلومة أضحت فقرة أساسية في العمود الفقري لعصر الذكاء الصناعي، وتوازي قيمة النفط الذي يعتبر المحرك الرئيسي والشريان الحيوي لمعظم الصناعات، مما أجبر القوى الدولية على مواكبة التطور وتحديث أسلحتها، فتصاعدت المنافسة الشرسة بين الشركات التابعة للقوى الدولية، وتصاعدت الحرب التجارية الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، بحيث أصبحت صناعة "الرقائق الإلكترونية" إحدى أهم الركائز الأساسية التي تهدد الأمن القومي للدول.

بناء لما تقدم، هناك سؤال يطرح نفسه: هل ستخوض أميركا حرباً ضد الصين على صناعة الشرائح أو الرقائق الإلكترونية؟؟

أولاً: المنافسة الإلكترونية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين

إن الولايات المتحدة الأميركية تهيمن على صناعة الرقائق الإلكترونية، ففي العام 2017 بلغ حجم التجارة العالمية لرقائق الهواتف الذكية الإلكترونية 475 مليار دولار، وتدخل الصين في منافسة شرسة مع أميركا في هذا القطاع بقيادة شركة "هواوي"، حيث تحولت الصين إلى أكبر مصنعة للتقنيات في العالم.

وتعتبر "هواوي" هي محور الصراع في الهيمنة التكنولوجية بين أميركا والصين، إذ تسعى الولايات المتحدة لإقناع حلفائها بعدم استخدام معدات هواوي لشبكات "الجيل الخامس" بذريعة أن الصين يمكنها استخدامها للتجسس، ومن التدابير التي اتخذتها واشنطن في هذا الصدد وضع شركة هواوي ضمن القائمة السوداء التجارية.

حيث برز التوتر الشديد بين واشنطن وبكين، تجسد بقيام الولايات المتحدة الأميركية بالحد من قدرة شركة "هواوي"على الاستعانة بمصادر خارجية لتصميمات الرقائق الداخلية لتصنيعها من قبل شركة "تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة TSMC" وهي مشغل رقائق تايوانية.

تعتبر شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة الأكبر من نوعها في العالم، حيث توجد الرقائق التي تصنعها الشركة في كل شيء تقريباً: الهواتف الذكية، منصات الحوسبة عالية الأداء، أجهزة الكومبيوتر، السيارات.. وكل نظم التسليح تقريباً التي تم بناؤها في القرن الحادي والعشرين، حيث صنعت شركة تايوان نحو 60% من الرقائق التي استخدمتها الشركات الأميركية في العام 2020، وكانت شركة TSMC قد أعلنت أنها ستقوم ببناء مشغل بقيمة 12 مليار دولار في أريزونا لصناعة بعض رقائقها الأكثر تقدماً، ومن المخطط أن يبدأ البناء في منشأة الشركة عام 2021، لكن الإنتاج الفعلي للرقائق لن يبدأ حتى عام 2024.

ذكرت وكالة "رويترز" بتاريخ 19/12/2020، أن الولايات المتحدة الأميركية أضافت شركة (DJI) الصينية، وهي شركة إنتاج الطائرات المسيرة الكبرى في العالم إلى القائمة السوداء الاقتصادية للحكومة الأميركية.

وفي إطار المنافسة الأميركية الصينية الإلكترونية، فرضت واشنطن على شركات الرقاقات الحاسوبية الأميركية طلب الإذن والحصول على ترخيص قبل بيع وتصدير تكنولوجيات معينة إلى الشركات الصينية وذلك خشية استخدامها في أغراض عسكرية، وهذا الإجراء يوسع الهيمنة الأميركية على الصادرات.

ثانياً- سيناريوهات الصراع المستقبلي

لقد أدى هذا التصعيد، إلى تحول الحرب التجارية بين واشنطن وبكين إلى حرب تكنولوجية، مما دفع الصين لزيادة التركيز على صناعة الرقاقات، خصوصاً بعدما تعرضت شركة "هواوي" إلى العقوبات الأميركية، حيث تعتبر أكبر شركات التكنولوجيا في الصين ومفتاحا لطموحات البلاد في الجيل القادم من تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس، لذلك وضعت الصين خطتين وهما:

أولاً- صنع في الصين 2025: تضمن الخطة تحديث قاعدة التصنيع في الصين عبر تطوير سريع لعشر صناعات عالية التقنية، من ضمنها (السيارات الكهربائية، الحوسبة، الاتصالات، الروبوت، الذكاء الصناعي، الرقائق المتقدمة..).

ثانياً- خطة الدائرة المتكاملة الوطنية: وهي خارطة طريق لبناء صناعة أشباه الموصلات المحلية، عبر تسريع تصنيع الرقائق.

الهدف الرئيسي من هاتين الخطتين هو تقليل اعتماد الصين على التكنولوجيا الأجنبية وتعزيز شركات التكنولوجيا العالية الصينية على مستوى العالم، وتلبية الطلب المحلي على الرقائق بحلول العام 2030.

ينظر إلى الشركة المصنعة لأشباه الموصلات كلاعب رئيسي في خطة الصين الطموحة لتصبح أكثر اكتفاء ذاتياً، حيث تهدف بكين إلى إنتاج 70% من أشباه الموصلات التي تستخدمها بحلول عام 2025، فالصين تدعم قطاع الرقاقات الإلكترونية لقيادة مستقبل الذكاء الصناعي.

وفي الختام، يتضح أن السباق في عصر الذكاء الصناعي، حول توسيع قطاع تصميم الرقاقات الإلكترونية وتصنيعها، سيشهد منافسة شرسة بين القوى الكبرى أميركا والصين وحتى روسيا، ولعل أخطرها في السنوات الثلاثين المقبلة، وستشكل حربا باردة إلكترونية، وقد تهدد الشرائح الإلكترونية الحياة البشرية مستقبلاً.