icon
التغطية الحية

حديث ثقافي.. إبحار في أغاني الكبار

2022.02.18 | 05:38 دمشق

nsryyy.jpg
نصري شمس الدين وفيروز (إنترنت)
+A
حجم الخط
-A

لا يوجد عندي شك بأن الشعر المكتوب بالعامية يضارع الشعرَ الفصيح في العذوبة والروعة، بل وفي الأهمية، والنوعان، كلاهما، يزدادان تألقاً حينما يغنيهما واحد من المطربين الكبار، وقد عبر أنسي الحاج عن ذلك بقوله لا توجد مكافأة أكبر من أن تغني لك فيروز، وهذا الكلام، في الحقيقة، ضيق، فالأجدى أن يقول إن المكافأة الكبرى هي أن تغني من شعرك أم كلثوم، أو نجاة الصغيرة، أو عبد الحليم حافظ، أو شادية، أو وديع الصافي، أو مصطفى نصري، أو أيٌّ من ذوي القامات العالية الذين نعرفهم، ولكننا نعثر، في ثنايا هذا الشعر، في بعض الأحيان، على صياغات غريبة، وأخرى مضحكة.

إليكم بعض الأمثلة:

أولاً- يغني صباح فخري، من التراث الشعبي، هذا المقطع:

يا بنت عينك عينيه.. والله المحبة قاسية..

إنها بداية حسنة، بالطبع، ولكنه يفاجئنا، من دون سابق إنذار، بحكم شبيه بالأحكام الجائرة التي تصدر عن الفقهاء المتشددين:

مَن باحَ بالسر يُقْتَلْ، شرعاً، ومالو خطية..

ثانياً- لا شك أن صالح عبد الحي (1896- 1962) من كبار مطربي عصر النهضة الموسيقية العربية، وأعتقد أن أهل الطرب ما اجتمعوا في مكان قط، وبدؤوا بالسلطنة، إلا وعرجوا على أغنيته "ليه يا بنفسج"، ذات النبرة الرومانسية العالية، يعبر عنها بصوت غاية في القوة والعذوبة.. ولكن لصالح عبد الحي أغنية مجهولة المؤلف، إذا فكرتَ بمعناها لحظة، يتهيأ لك أن العاشق (متخانق مع حبيبته)، والأمور بينهما واصلة للضرب، إذ يقول لها:

يكون بعلمك أنا مش فاضي، كل ساعة أعمل لك قاضي!

وفي الأغنية نفسها مقطع غريب، هو:

أشكي لمين.. يا مسلمين؟

وأعتقد أن القافية هي التي فرضت كلمة "مسلمين" على مؤلف الأغنية المجهول، فقد كان في مقدوره أن يقول، مثلاً:

أشكي لمين.. يا ناس؟ يا أهل الخير والمروءة.. إلخ.

ثالثاً- يمكننا أن نأخذ مثالاً على علو شأن الشعر المكتوب بالعامية، أغنية "ردي منديلك" التي غنتها فيروز في الخمسينيات، من تأليف الأخوين الرحباني وألحانهما، وهي تبدأ على النحو الآتي:

لمّا لَمَحتُه طَلّْ، صرت ملبكي

وعرفت قصدُه، قلت: بدّو يشتكي

فتّشت عَ كلمة تَـ إفتحْ لُه حديثْ

وقفتْ ووقِفْ، وتنينّا نسينا الحكي

ويستمر انسياب كلمات القصيدة على هذا المنوال العذب، العامر بالصور والمشاعر، إلى أن تقول جملة تنزل بالحالة الشعرية إلى مستوى الحديث اليومي، عندما تتهم حبيبها بالغفلة: ضيعان ما بيخبروا إنك ذكي!

في الأغنية نفسها، يحصل ذلك النزول في الصياغة إلى مستوى الكلام اليومي. فقد اعتدنا أن نرى شخصاً يجادل شخصاً آخر حتى يغتاظ منه فيقول له: عَمْ أحكي معك بالذوق، إذا بدك تستمر بالأخذ والرد، ممكن أحتد عليك، وأغلظ معك بالكلام. تغني فيروز:

يا حلوي اللي بيتك فوق

صوبك عم ياخدني الشوق

(عم حاكيكي بلطف وذوق- بحياتك لا تحتدّي).

رابعاً- في معظم الأشعار التي تُكتب بقصد الغزل، ومن ثم الغناء، يَطرح المحب كيانه وإنسانيته وكرامته ووقته أمام المحبوب، ويبذل الغالي والنفيس من أجل أن يجلس معه ساعة، أو خمس دقائق، أو ثانية، وكلنا نذكر أغنية "ساعة بقرب الحبيب" التي كتبها يوسف بدروس وغناها موسيقار الأزمان فريد الأطرش سنة 1945.. ولكن فريد الأطرش نفسه، يقول للحبيبة، في أغنية أخرى، إن وجودها معه وغيابها عنه سيان، وهو، أصلاً، لم يأت إليها راغباً، متيماً، بل كان ذلك نوعاً من فض العتب، حينما يقول:

لولا حبينا عيونك

ما تعذبنا ولا جينا!

خامساً- في أغنية سكابا دموع العين، لصباح فخري أيضاً، يبدو العاشق متجاوزاً الحدودَ الطبيعية لرقة القلب.. فلا يصح وصفه بأن عينيه كانتا مغرورقتين بالدموع، أو أن الدموع تسيل على مآقيه، بل إنها تنسكب (سكابا).. ذلك المتوسل الباكي يطلب من حبيبته أن تأتي بمفردها، ولكنه يتنمر فجأة ويهددها بأنها إذا أحضرت معها أحداً فـ سيهدّ الدار ويجعلها خرابا. (وفي رواية أخرى: لأهد الدار وألعن أبو صحابا).

سادساً- مثلت أغاني موسيقار الشعب سيد درويش انعطافة في مسار الغناء العربي باتجاه الشعب، ولعل أغنيته الشهيرة "الحلوة دي" هي الأكثر تمثيلاً لهذا التغيير، ولكنه ينزل في أحد المقاطع إلى مستوى (إيدي بإيدك يا بو صلاح- اضربها صَرْمة تعيش مرتاح).. والصرمة هي ما نسميه في سورية "صرماية"، وأحياناً نزيد في احتقارها فنقول "صرماية عتيقة".. ومما لا شك فيه أن الأخوين الرحباني، ذلك عندما اقتبسا أغنية سيد درويش، لتغنيها فيروز، لاحظا أن (الضرب بالصرمة) ليس مقبولاً في الغناء، فعدلا المقطع فأصبح:

إيدي بإيدك يا بو صلاح- ما دام مَع الله تعيش مرتاح

سابعاً- ومع أن الأخوين الرحباني كانا مولعين بتجويد الشعر، والابتعاد عن اللغة اليومية، إلا أنهما استخدما لغة خالية من الفنيات الشعرية مرتين في أغنية "عتاب"، وقد جاء فيها:

إن كان غيرة هالجدال وهالشكوك.. أضنيتني (يكفي بقا يرحم أبوك)..

وفي الشطر التالي تستخدم المطربة لغة الزعل، أو الحرد، فتقول لحبيبها: (الله يبارك لك يا ولفي بهالحباب).

ثامناً: هناك جمل متداولة في الحياة اليومية، كقول أحدهم للآخر: بحبك فوق ما تتصور. وفي بعض الأحيان يحولها واحدٌ من الذين يحبون المزاح إلى اللغة الإنكليزية، فيقول:

I love you after you take a foto.

وعلى الرغم من أنني أعشق بليغ حمدي، وألحانه كلها، إلا أن جملة (أحبك فوق ما تتصور) التي تبدأ بها وردة الجزائرية أغنيتها، تقلل قيمتها، في نظري أنا على الأقل.

تاسعاً: الكلام نفسه ينطبق على الأغنية التي غناها جورج وسوف قبل أن تتعطل حباله الصوتية، من كلمات أحمد شتا وألحان صلاح الشرنوبي: كلام الناس لا بيقدم ولا يأخر.

لم يبق إلا أن يغني لنا: الزواج قسمة ونصيب، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، والله الله ع الجد، والجد الله الله عليه.