حاتم علي وجوهر المثقف

2021.12.29 | 05:43 دمشق

hatem-ali.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين نعى الجمهور العربي حاتم علي قبل عام، لم يكن المستوى الرسمي هو اللافت في التفاعل مع هذا الخبر الجلَل كما يحدث عادة عند وفاة أحد الشخصيات المؤثرة؛ بل إن جُلّ هذا التفاعل كان من الناس؛ فضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصورته وخبر وفاته، واستُعيدت أعماله وأدواره على حساباتهم الشخصية، وخيّم الحزن أيامًا على الفضاء الإلكتروني. وهي ظاهرة لافتة، قلّما تحدث في أيامنا هذه، وتوحي أن الناس ما زالوا يحملون في داخلهم هذا التقدير والاحترام للمثقف ودوره.

ومنذ لحظة إعلان وفاته، حتى اليوم، هناك أسئلة عالقة في الذهن، كيف استطاع حاتم علي أن يأخذ هذه المكانة في قلوب الناس؟ وكيف استطاع هذا الشاب -بمدة وجيزة نسبة إلى عمره- أن ينجح بما تعثر أو فشل به غيره من المثقفين والمبدعين؟

في "التغريبة الفلسطينية"، صاغ وليد سيف -كاتب المسلسل- وحاتم علي -مخرجه-، تجربتهما الشخصية، وحوّلاها إلى ملحمة متفاعلة مع الأسئلة الكبرى

وفي رحلة البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة، لا بدّ من العودة إلى أعماله، وإعادة قراءتها من جديد، والبحث عن تفاصيل قد تعين في فهم شخصية حاتم علي، شخصية المثقف الذي استطاع النفاذ إلى قلوب الناس، وأعاد التذكير بدور المثقف ومكانته والتي -للأسف- أضاعها معظم مثقفي اليوم، الغارقين في فضاءاتهم وعوالمهم الخاصة.

في "التغريبة الفلسطينية"، صاغ وليد سيف -كاتب المسلسل- وحاتم علي -مخرجه-، تجربتهما الشخصية، وحوّلاها إلى ملحمة متفاعلة مع الأسئلة الكبرى؛ تلك الأسئلة المتزامنة مع اللحظات المفصلية في حياة الناس، والمتكررة عند كل تحدٍ أو هزيمة أو مفترق طرق.

ففي الحوارات الدائرة على لسان شخصيات العمل، تمّت صياغة أسئلة ذلك الواقع: أسباب الخذلان، والهزائم المتتالية، وتخلّف المجتمع، والعجز العربي، وتحديات الحياة اليومية، والهمّ العام للقضية، وتحوّلت هذه التساؤلات وأجوبتها إلى صورة بانورامية تُحكى بلغة الناس، يفهمونها على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، وكأنك في معرض الإجابة عن هذه الأسئلة الصعبة أمام ضمير ناطق وطبيب مخلصٍ يضع يده على الجرْح ويشخّص المرض بعناية ويصف العلاج بأمانة. 

لعب حاتم علي إلى جانب إخراجه للعمل في التغريبة دور "رشدي"، ابن أخت بطل المسلسل "أبو صالح"، وكان رشدي مع ولدَي خاله وأقرانهما يمثلان في المسلسل الجيل الثالث للقضية، بطموحاته وهمومه ومشكلاته المستجدة. وكانت هذه الشخصية صامتة معظم وقتها، لا تتكلم إلا عند الضرورة، وعندما تتحدث تقول كلامًا مقتضبًا ينمّ عن فهم عميق من دون إغراق في التنظير، أو ابتعاد عن قرن الفعل بالقول. في هذه الشخصية تكاد تلمس شخصية حاتم علي الحقيقية، القليلة الكلام، الغائبة عن الإعلام، المكتفية بالعمل، والقليل القليل من الكلام المقتضب.

عاش رشدي طفولته مع أخواله في قريته الصغيرة بعد استشهاد والده وإرغام أمّه على الزواج، ثم هُجّر منها في أثناء النكبة، ليشبّ بعدها في مخيم على أكناف طولكرم، درس الثانوية وتفوق فيها إلى جانب التزامه بعمل لكسب معيشته، ثم جاءته بعثة دراسية إلى باكستان لدراسة الهندسة، ولكنه لم يلتحق، واختار طريق المقاومة بعد النكسة، عبر صورة رمزية جسّدها المخرج بمشهد التقاط رشدي لبندقية والده الشهيد الذي كان أحد أبطال ثورة القسام. 

في حواره مع ابن خاله صلاح، طالب الطب والمثقّف والشاعر، يسأل رشدي: "أنا مش فاهم شو يعني وجودي!"

يرد صلاح: "الوجودية فلسفة إنسانية عظيمة، تركز على حرية الإنسان ومسؤوليته، كل شيء جوهره يثبت وجوده، يعني خذ الكرسي مثلا الهدف منه -الوظيفة الغرض- يسبق صنعه، إلا الإنسان وجوده يسبق جوهره، هو اللي يصنع جوهره، يعني هو حر باختيار هدفه وغرضه ومعنى إنسانيته، وهيك تجتمع الحرية والمسؤولية". 

فيعاود رشدي سؤاله: "هسّه هي هيّ كل الوجودية!"، فيرد صلاح: "يعني هي الفكرة الأساسية اللي تنطلق منها كل الأفكار، فيعلق رشدي: "لعاد ليش كل هالكتب الي طالعة نازلة عن الوجودية، ما يحطوا هالكلمتين بربع صفحة ويوفروا عالناس وجع القلب وحكي الكتب!".

 وفي مشهد آخر على أطراف طولكرم وبين شجر الزيتون، يستأنفان حوارهما عن الواقع وتحدياته والهروب منه والتعالي على شروطه، وصيرورة النضج الإنساني، وهروب المثقف منه تحت سلطة الوهم والقوالب المسبقة، وتشتت الإنسان بين ماضيه، وحاضره وطموحه وأحلامه. فيركز رشدي على أهمية فهم هذا الواقع والتفاعل معه لصناعة التغيير المنشود. 

ويختم حديثه فيقول: "الإنسان إذا ما أفسدته الكتب – يقصد التنظير بمعناه السلبي وليس الكتاب بمعناه الحرفي- بيضل مخلص للحقيقة البسيطة المباشرة مهما كانت عميقة، التعقيد؛ مكياج، ادعاء، انتفاخ ثقافي كذّاب، بيدل إنه الشخص يحمل همّ صورته كمثقف أكثر من همّ الثقافة نفسها، هون الشكل يسبق الوظيفة..".

في هذا الحوار المقتضب تلخيص لواقع الثقافة اليوم وهموم حامليها، تلخيص يرتكز على ثنائية الشكل والجوهر، فإمّا تعالٍ على الواقع ورفض التفاعل معه والاعتراف بشروطه، وإما العكس. 

اعتمد في أعماله على قوّة النص والمضمون، إضافة إلى فهم عميق للمجتمع العربي في أدق تفاصيله، والتزام قضاياه وأسئلته الملحة 

وهذا العكس تماما هو ما انطلق منه حاتم علي الذي نضج قبل أوانه، وأعاد ولادة نفسه بنفسه، من طفل نازح من الجولان المحتل إلى حيّ الحجر الأسود على أطراف مخيم اليرموك في دمشق، إلى فضاء العمل والدراسة والإبداع. فلم يغرق في وهم الحفاظ على الشكل وتمسّك بالجوهر، لم يُعد تشكيل الواقع تحت سلطة القوالب المسبقة، بل أصرّ على الانطلاق منه دون القفز على شروطه أو الاستسلام له، فاعتمد في أعماله على قوّة النص والمضمون، إضافة إلى فهم عميق للمجتمع العربي في أدق تفاصيله، والتزام قضاياه وأسئلته الملحة، والقدرة على تحويل هذا النص والفهم إلى صورة متفاعلة مع الناس وهمومهم وعواطفهم، والتعبير عنها بلغتهم هم، لا بلغة المثقف المتعالي، فأعاد بذلك صياغة قضايانا الاجتماعية والسياسية والتراثية، وقدمها بروح متجانسة مع هويتنا، متصالحة مع تاريخنا وطبيعة مجتمعاتنا، واضعًا يده على مكامن الضعف والقوة، فخلدت هذه الأعمال، وخلد صاحبها.