جود سعيد: سينما الخط العسكري

2019.11.10 | 17:39 دمشق

60279857_431327417431835_6056792524683476992_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن الفنانون السوريون الأربعة مرتاحين بينما تمضي بهم السيارة في طرق ترابية وعرة لتتجنب الشوارع الرئيسية التي قطعها المحتجون اللبنانيون، ذات يوم من أواخر الشهر الماضي، ليصلوا إلى مطار بيروت الدولي في الوقت المحدد ويستقلوا الطائرة التي ستحملهم إلى تونس للمشاركة في مهرجان «أيام قرطاج السينمائية» 2019.

بين الركاب مخرج كان حينها يتذكر «الزمن الجميل» لبيروت جيداً، فقد عاشه منذ طفولته في الثمانينات «بحكم عمل والده» هنا. وإذا كانت العبارة غامضة فلأن هذا ما يفضّل جود سعيد قوله في العادة عن أبيه.

في الحقيقة، لم يكن العميد المظلي جودت سعيد، وهي الرتبة الأخيرة التي وصل إليها بعد سنوات من الخدمة العسكرية، شهيراً بقدر زملاء له ذائعي الصيت كعلي ديب وهاشم معلا. نظرياً كان الثلاثة متساوين في الرتبة منذ انتقلوا إلى لبنان رواداً، وفي الوظيفة كقادة أفواج في الوحدات الخاصة. لكن سعيد افتقر إلى مزيج الشراسة والدعم والمستقبل الواعد الذي حظي به ديب، وإلى خلطة الدموية والارتجال الأخرق والنهب التي اتسم بها معلا. لم يُعرف سعيد على نطاق واسع، في ظروف كهذه، لأنه لم يكن أحد نجوم التعفيش والتهريب والإذلال. وإن كان «ضابطاً سورياً» في لبنان الحرب الأهلية، ولم يخل من القسوة الظاهرة.

في فيلمه الطويل الأول «مرة أخرى» (2009) سيروي جود سعيد جوانب من شخصية الأب، وسيحكي معالم من نشأته هو، كابن وحيد للمعلم. في زياراته الطويلة يترعرع الصبي في الثكنات المرتجلة والخرائب، ويألف المهاجع والأسلحة وسيارات الزيل، ويعتاد أن يخدمه العناصر ويدللوه، ويجد أنه من الطبيعي أن تسلك السيارة التي يركبها «الخط العسكري» المجاور لكل حاجز، ليتجنب المرقطون دور المدنيين الطويل.

لكن هذا ليس وقت الذكريات على كل حال. فالمخرج الذي سيدخل عامه الأربعين بعد برهة شخص عملي. على الأقل منذ فجع بموت والده المهيب في سن مبكرة نسبياً، فقرر أن يرتدي «البيريه» التي كان يضعها الأب على رأسه لتصبح أحد معالمه الشكلية الثابتة، وإن انزاحت من «السيدارة» العسكرية إلى مزيج من القبعة الغيفارية وإكسسوارات المهنة التي سيختارها بعد سنوات، بهجره كلية الهندسة وسفره لدراسة السينما في فرنسا.

بعد تخرجه سيعود الشاب بدعوة من «المؤسسة العامة للسينما»، الرسمية، لإنجاز فيلم قصير، وسيطيب له المقام والعمل فيها حتى الآن. يقول مطّلعون إن ذلك تم بترتيب من اللواء محمد منصورة، ضابط المخابرات الشهير

بعد تخرجه سيعود الشاب بدعوة من «المؤسسة العامة للسينما»، الرسمية، لإنجاز فيلم قصير، وسيطيب له المقام والعمل فيها حتى الآن. يقول مطّلعون إن ذلك تم بترتيب من اللواء محمد منصورة، ضابط المخابرات الشهير الذي كان وقتها رئيساً لشعبة الأمن السياسي، وهو يتحدّر من قرية حمام القراحلة نفسها التي يرجع إليها آل سعيد قرب جبلة، ويحتفظ للعميد جودت بذكريات شباب متينة.

كانت «المؤسسة» شبه إقطاعة خاصة لمحمد الأحمد، «الناقد» البدين الهادئ الذي عرفه السوريون معلّقاً على الأفلام الأجنبية في التلفزيون الوطني الذي كان بلا منافس. وكانت هذه الإقطاعة تنعم بالسلام والرتابة؛ تنتج فيلماً واحداً في السنة، ولذلك كان على مخرجيها العديدين أن ينتظروا في ما يشبه طابوراً بليداً. ومع إبعاد المشاغبين الذين كانوا يقلقون راحة الأحمد كل حين في الصحافة العربية، كان الدور يسير أسرع، فتتضاعف، مثلاً، فرص مخرج سلس مثل عبد اللطيف عبد الحميد فينتج فيلماً كل سنتين، ليحوز به على الدوام جائزة مهرجان السينما الذي تنظمه المؤسسة نفسها... وهكذا.

احتضن الاثنان، الأحمد وعبد الحميد، المخرج الشاب. لكن سعيد كان على موعد آخر سيواكب مسيرته الفنية، وهو «الثورة» التي يفضّل أن يسميها «الحرب»، إذ أنجز فيها ثمانية أفلام، بمعدل واحد في العام، أنتجت معظمها المؤسسة العامة للسينما بعدما أقنعت الجهات العليا أن دعاية بصرية ستكون مفيدة في مواجهة المؤامرة الكونية، وحصلت على ميزانية مضاعفة عدة مرات.

المشكلة في أفلام جود هذه أنها مجرد أسماء دون مشاهدة. ففي مناطق سيطرة الأسد، وقد تقلصت جداً في بعض السنوات، كانت معاناة الناس من «الحرب» وآثارها على حياتهم اليومية أكبر من أن يهتموا للذهاب لمشاهدة فيلم عن الحرب نفسها. أما في الخارج فلا تسويق لهذه الأفلام، وحتى مشاركاتها القليلة في بعض المهرجانات، لتُعرض مرة أو مرتين على جمهور محدود مهتم، كانت دوماً محل أخذ ورد ومنع واعتذار، نتيجة الموقف السياسي من هذه الأفلام التي تنتجها جهة رسمية عضوية من نظام وحشي تمكن مشاهدة ممارساته يومياً على القنوات الفضائية الإخبارية قبل حضور سينماه.

يعرف جود، الذي ولد في دمشق ودرس في ليون، أن اتجاه الريح الثقافية عموماً لا يدعم البارودة التي يحبها، والتي يظهر بها في كل مرة يختار لنفسه دوراً صغيراً يمثله في أحد أفلامه

في الواقع، ومما أمكنت مشاهدته من هذه الأفلام بوسائل مواربة، يتجنب سعيد إنتاج «إعلام حربي» أو أفلام دعائية تشبيحية مباشرة كتلك التي يخرجها نجدت أنزور على سبيل المثال. يعرف جود، الذي ولد في دمشق ودرس في ليون، أن اتجاه الريح الثقافية عموماً لا يدعم البارودة التي يحبها، والتي يظهر بها في كل مرة يختار لنفسه دوراً صغيراً يمثله في أحد أفلامه. ولذلك فهو يمرر في كل منها بضعة جمل يتلاعب في تأويلها بما يلزم بين الداخل والخارج، في المهرجانات الأجنبية والعربية وعند عرض الفيلم في مديرية ثقافة اللاذقية أو جامعة الحواش. وخصوصاً عندما سيشكو بحرارة من «القمع» و«الإقصاء» الذي تتعرض له أفلامه، بتحريض من زملاء سينمائيين سوريين في الخارج، المفروض أنهم يدعون إلى الحرية كما يقول ويقولون.

ففي أشهر أفلامه «مطر حمص» (2017) يترك مجالاً غائماً لتقديم شخصية متظاهِرة «سابقة»، لكنها تبحث الآن عن أخيها الضابط الذي اختطفته المجموعات المسلحة. يمرّر أن بين المتظاهرين السلميين من كانوا «حسني النية» قبل أن يتكشف لهم الإرهاب الإسلامي الذي آلت إليه الأمور. يتذاكى بالرطانة القائلة إنه لا يبتغي «التوثيق» بل تقديم عالم سينمائي، ليزيّف، ببساطة، حصار حمص الذي يحكي عنه الفيلم.

فعلى الأقل، ومهما كان الموقف السياسي، يتفق الجميع على حقيقة بسيطة، وهي أن أحياء حمص القديمة التي كانت تحوي مسلحين معارضين للسلطة، وبعض الأهالي المدنيين، حوصرت من قبل القوات التابعة للنظام. أما في الفيلم الذي يقدم «السينما» لا التاريخ ويعمد إلى «طرح الأسئلة لا تقديم الرسائل»، كما يكرر مخرجه جرياً على عادات كلامية ثقافية؛ فالكل محاصر في مربعات شطرنجية. أبطال الفيلم محاصرون في شارع، وقوات الجيش محاصرة كذلك، تقتصد في الطعام والشراب بينما تغني للحب وتبعث الفرح، فيما يسيطر «جنرال» متقاعد مجنون مع بناته المسلحات على منطقة ثالثة، والمعارضون، وهم إرهابيون قاعديون لا يقلون جنوناً طبعاً، محاصرون في حي مجاور، ولا يكف أميرهم أبو عبد الله عن التحدث بفصحى غبية من نوع «ائتني بريما»..

يلتقط جود ما يشاء ويترك ما يريد، في ظل غياب صوت آخر يناقش أفلامه، بل مع غياب صوت أول حتى، ما دام المكتوب عن هذه الأفلام لا يتعدى المقابلات والتغطيات وأخبار منعها هنا أو عرضها هناك، وحصولها على جائزة جمهور يهتف لبشار الأسد ولا يريد أن يرى سوى التطرف الإسلامي مهما كانت صورته نمطية وزائفة.

يبشّرنا مغترب سوري يعيش في دبي، يساند «دولة» بشار الأسد ويحارب فساد «الحكومة»، أن أيام وزير الثقافة محمد الأحمد، والطاقم الذي تركه في المؤسسة العامة للسينما، باتت معدودة

يقول المخرج الركن إنه دخل أحياء حمص القديمة لتصوير الفيلم في اليوم التالي لخروج «المسلحين»، وإن ما رآه كان مروّعاً له ولفريق العمل. دون أن يخبرنا من روّع المشاهد وتسبب في الخرائب التي يقول إنه استفاد منها، آسفاً، كمواقع ثمينة للتصوير Location، كانت ستكلف ملايين الدولارات لو أنه أنجزها صناعياً. عليه، إذاً، أن يشكر «الجيش العربي السوري»... «قوات النمر»... «سلاح الحوامات»... «رماة البراميل» في شارة الفيلم على ما قدموه! أما في فيلمه الأخير «نجمة الصبح» (2019) الذي سافر ليعرضه في تونس، فربما عليه أن يدرج «جيش الإسلام» كجهة إنتاجية، طالما أنه صوّر بعض مشاهده في الأنفاق التي حفرها في دوما!

يبشّرنا مغترب سوري يعيش في دبي، يساند «دولة» بشار الأسد ويحارب فساد «الحكومة»، أن أيام وزير الثقافة محمد الأحمد، والطاقم الذي تركه في المؤسسة العامة للسينما، باتت معدودة. وهو ينشر صور وثائق تثبت تورط هؤلاء، وينسب إلى سعيد أعمال سمسرة وتقديم خدمات قطاع خاص للمؤسسة عبر مناقصات وهمية للتزويد بمعدات خارجية والتلاعب بالفواتير، ولا سيما في فيلم «مطر حمص». يقول مكافح الفساد المتحمس إن الملفات حوّلت إلى مكتب اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني في عام 2016، لكن مدير مكتبه العميد ياسر فاضل قال إن الملف اختفى! ثم إنها سُلّمت، مع وثائق وتسجيلات عديدة، لحسن نصار، مسؤول الشكاوى في القصر الجمهوري، في عام 2017، والذي قال إن المعلومات الواردة في الملفات صحيحة لكن «السيد الرئيس وزوجته غير فاضيين لمقابلة أحد».

ما الذي استجد إذاً لتتواتر أخبار المحاسبة والتحقيقات في وزارة الثقافة الآن؟ يفسّر البعض إن سعيد سبق أن تعاون مع مستشارة بشار الأسد الإعلامية، لونا الشبل، لشراء تجهيزات وكاميرات للمكتب الصحفي لرئاسة الجمهورية، وإن هذا التعاون كان مثمراً للطرفين، وإن خيره قد انعكس على محمد الأحمد وطاقم مؤسسة السينما دعماً إضافياً، ولكن ما يتردد بقوة مؤخراً عن الإطاحة بالشبل، سيدة الظل، فتح باب محاسبة وزير الثقافة ومجموعته.