جمال الدين الأفغاني والكرمانيون الثلاثة الجزء الثاني

2020.03.19 | 23:02 دمشق

7755afaf-133d-470f-aad0-c11f85bc3e58.jpg
+A
حجم الخط
-A

هنالك نقصٌ ألمَّ بجميع الدراسات التي تناولت السيد جمال الدين الأفغاني، ورامت فكّ اشتباك غموض حياته، وحاولت تلمّس أفكاره وخططه، ويتبدى هذا النقص في الغفلة عن دراسة الأسماء العديدة التي نقرأها في سيرته من أصدقاء ومعارف وتلاميذ فلا نعرف عنهم شيئاً: من هم؟ ما حقيقة علاقتهم به، ما تأثيره فيهم؟ إلخ. أسماء تمرّ مرور الكرام مثلما تمرّ أسماء الممثلين الثانويين في نهاية شارة فيلم بخط صغير، فلا نهتم بها، ولا نأبه لها.

نقرأ، على سبيل المثال لا الحصر، أسماء:

حسين خان الأصفهاني، محمود أفضل الملك كرماني، ميرزا مالكوم خان، الحاج سيّاح، محمد حسن أمين الضرب، أنيس شاهدي، مرزا باقر بافاناتي، إدوارد براون، حبيب سلموني، ونقرأ كذلك أسماء مَنْ دعوتُهم بـ (الكرمانيين الثلاثة) وخصصت لهم هذا المقال: ميرزا آقاخان كرماني (1853 أو 1854 ــ 1896)، وشيخ أحمد روحي كرماني (1855 ــ 1896)، وميرزا رضا كرماني (.... ــ 1896)، وهؤلاء الثلاثة أبناء مدينة واحدة، وجيل واحد، ومصير واحد هو الإعدام. جمعتهم الديانة البابية في صغرهم، ووحدتهم محبة جمال الدين الأفغاني وخدمته ومشاركته في مشروعه الفكري والسياسي في كبرهم.

نشأ ميرزا آقاخان وشيخ أحمد روحي في بيئة متململة من كل مناحي الحياة الإيرانية المتخلفة الفاسدة الظالمة المستبدة، وفي محيط مدرك أنّه لم يحصل في هذه البقعة أي تقدّم يُذكر على الصعيد الصناعي والفني والإنتاجي منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر، وقد وجد هذا التململ والبّرم فرصته السانحة في ظهور الدعوة البابية التي أعلنها الميرزا علي محمد الشيرازي الباب (1819 ــ 1850)، فتحوّل التململ إلى تمرّد على التقليد الديني الإسلامي الشيعي، وعلى المؤسسة الدينية المنبثقة عنه باعتبارها أوسع المؤسسات الاجتماعية نطاقاً على الإطلاق، إلى درجة أن المؤسسة السياسية نفسها لم تكن تضاهيها، بل تحابيها وتداجيها! ولأجل ذلك كان تقويض هذه المؤسسة بالنسبة إلى البابية مقدمة الواجب لتقويض كل ما سواها من مؤسسات عقيمة وأنظمة منخورة، وفي قمة عنفوان هذا التمرد دعا (الباب) إلى هدم جميع الأبنية والأضرحة الدينية فوق الأرض بدءاً من الكعبة وأضرحة الأنبياء والأئمة وجميع المساجد والبِيَع والأديرة والكنائس، وكل بناء قائم على أساس الديانات، وعارض الحكم القاجاري المستبد، وحرّض على قتل المسؤولين حتى تطهر الأرض ومَنْ عليها.

كان الملا محمد جعفر كرماني والد الشيخ أحمد روحي من أتباع الديانة البابية الأوائل. انتسب إليها على يد الملا صادق خراساني الملقب، عند البابيين، بالمقدّس، والحاج محمد علي المازندراني الملقب بقدّوس، وسُجن عدة مرات في عهد ناصر الدين شاه بتهمة الانتساب إلى البابية، وقد وصفه المستشرق إدوارد براون بأنه "رجل شرف حكيم وأحد قادة حركة التحرير الإيرانية"، وكان له من الأولاد إضافةً للشيخ أحمد روحي:

ــ ابنة تدعى بيبي، وكانت أول فتاة تخلع الحجاب في كرمان، بعد أن ألغت البابية وجوبه.

ــ الشيخ مهدي بحر العلوم الذي غدا من نشطاء الحركة الدستورية.

ــ والشيخ محمود أفضل الملك الذي رافق أخاه الشيخ أحمد روحي وآقاخان في إسطنبول، وتتلمذ معهما على السيد جمال الدين، وهو الذي ترجم إلى اللغة الفارسية كتاب ديكارت (مقال عن المنهج) سنة 1903، وهنا نلاحظ أن اللغة الفارسية عرفت ديكارت قبل اللغة العربية بما يقرب من ستين سنة، فقد تُرجم هذا الكتاب أيضاً ترجمتين أخريين، الأولى: ترجمها العازار وحييم موسائي همداني سنة 1862 باسم (حكمت ناصري)، والثانية: ترجمها ذكاء الملك فروغي، بينما لم يترجم الكتاب إلى اللغة العربية إلا سنة 1930 على يد المصري محمود محمد الخضيري.

ضاقت إيران بأخلاقها وحكامها على ميرزا آقاخان وشيخ أحمد روحي فيمّما وجهيهما إلى إسطنبول سنة 1886، واستقرا فيها، ومكثا في العاصمة العثمانية مدة السنوات العشر المتبقية من حياتهما، وبعد فترة وجيزة من وصولهما، في السنة نفسها، قصدا قبرص في رحلة خاطفة، وزارا زعيم الطائفة البابية الأزلية يحيى نوري (صبح الأزل) الأخ الأصغر لحسين نوري (بهاء الله) مؤسس الديانة البهائية، وكان ملا جعفر والد أحمد روحي من أخلص أتباع صبح الأزل ووقف هو وابنه الشيخ أحمد معه في نزاعه مع أخيه بهاء الله، وزُعم أنهما ضايقا البهائيين في كرمان، ولذلك كرههما بهاء الله، وأطلق على الملا جعفر اسم (جعفر الكذّاب)، في استحضار تاريخي لجعفر بن علي الهادي الذي سماه الشيعة بجعفر الكذّاب، لأنه ادعى الإمامة بعد موت أخيه الإمام الحسن العسكري، وأنكر ولادة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي المنتظر، وفي تلك الزيارة لقبرص تزوج ميرزا آقاخان وأحمد روحي من ابنتي يحيى نوري زعيم الأزليين.

وفي إسطنبول عاشا من خلال تعليم اللغة العربية والفارسية ونسخ الكتب، وعملا في جريدة (اختر) الإيرانية المستقلة، التي وصفها براون بأنها الصحيفة الفارسية الوحيدة التي تستحق القراءة، وكان مجال اهتمامها الرئيسي تناول الشؤون السياسية والأوضاع الاجتماعية، وكانت فترة مكوثهما في إسطنبول فرصة رائعة للاطلاع على العلوم والفكر الغربي، وتعلم اللغة التركية العثمانية، واكتساب بعض الطلاقة في اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ويرى يحيى أريانبور في كتابه (إيران الجديدة) أنّه بإمكاننا أن نستنتج وفقاً للأفكار التي نراها في كتب ميرزا آقاخان كرماني أنّه كان يمتلك أعمال ديكارت وروسو وفولتير ومونتسكيو وسبنسر، وأنّه درس داروين، وأنّ أعماله عكست معرفةً بالحركات الاشتراكية، ومُثُل المدن الأوروبية في القرن التاسع عشر.

وفي سنة 1890 بدأ ميرزا آقاخان مقابلة ميرزا مالكوم خان السفير الإيراني السابق في لندن الذي نشر جريدة سياسية فارسية في لندن اسمها (القانون)، وكان طموح هذا السفير السابق إنشاء خلايا سرية على غرار الماسونية من أجل إيقاظ الجماهير الإيرانية من عذابها السياسي، وتكثّف نشاط ميرزا آقاخان أكثر حين وصل السيد جمال الدين إليها سنة 1892، قادماً من بريطانيا بدعوة من السلطان العثماني.

كان السلطان عبد الحميد في تلك الآونة يفكر في تمتين فكرة (الجامعة الإسلامية)، لتقوية مركزه وتحصين الدولة العثمانية في مواجهته المستمرة مع الروس والإنكليز، وكانت العقبة الأكبر في إقامة هذه الجامعة وجود العالم الشيعي المنكمش على نفسه، ووجود إيران التي يحكمها شاه يقف أمام السلطان نداً لند، ولاختراق هذا العالم أرصد السلطان العثماني شخصيتين مركزيتين على غاية في الأهمية: الأولى جمال الدين الأفغاني، والثانية شيخ الإسلام محمد أبو الهدى الصيادي، والذي كان أهمَّ شيخ للطريقة الرفاعية في العالم الإسلامي، ولديه جيش من المبلغين والوكلاء والدعاة، والذي أعلن في هذه السبيل أنَّ السيد أحمد الرفاعي هو الإمام الثالث عشر، وأسلكه وأسلك الطريقة كلها في سلسلة أئمة الشيعة الاثني عشر تودداً وتحباً وتألفاً، لتكون هذه الطريقة الصوفية مدخلاً إلى التقرّب من الشيعة، وتخفيف حدة الجفاء بينهم وبين العالم السني.

كوّن السيد جمال الدين من ثلة من الإيرانيين المقيمين في إسطنبول (مجلس الوحدة الإسلامية) أو حركة (الجامعة الإسلامية) وسرعان ما انضم إلى هذا المجلس ميرزا آقا خان والشيخ أحمد روحي ومحمود أفضل الملك سعياً منهم لتحقيق هدفين: زعزعة الحكومة الإيرانية وسلطة الشاه المستبدة، وتوحيد إيران والدولة العثمانية ضد تهديدات الدول الأوروبية، وبدأ هذا المجلس يعمل بجد لاختراق علماء الشيعة في إيران والعراق، ويدعم السياسيين المعارضين للشاه، فبدأ سيل من الرسائل يتقاطر إلى هذه الشخصيات الشيعية من أعضاء هذا المجلس/ الحركة يشرحون لهم فيها فوائد الانضواء تحت عباءة السلطان العثمانية في تقوية شوكة الإسلام والمسلمين، ويسوقون لهم الحجج والأدلة والبراهين، ويسوّغون لهم ذلك بأنّ الإمام علي نفسه انضوى تحت راية الخلفاء الثلاثة، وعمل تحت إمرتهم لصالح حفظ حوزة الإسلام وبيضته، وكانت تصلهم الردود بالإيجاب، وتقدّم تعهد الولاء لسلطان الإسلام، غير أنّ حماسة السيد جمال الدين بدأت تخفت وتذوي شيئاً فشيئاً، وبدأ الميرزا آقاخان والشيخ أحمد روحي يتأثرا من تقاعسه، وبدأت المشكلات تثار بين الأفغاني والسلطان عبد الحميد، وحُذفت قضية الوحدة الإسلامية من قائمة اهتمامات السلطان، ولم يعد يحضر مجلسه المسؤولون العثمانيون، وغدا جمال الدين ودائرته تحت المراقبة، فتفرّق الأصدقاء والتلاميذ عنه، وانهار مشروع لو كتب له التحقق وفق ما كان يراه السيد جمال الدين لا ما يراه السلطان عبد الحميد لكان احتمال استمرار الخلافة العثمانية قائماً إلى هذه اللحظة.

(يُتبع).