icon
التغطية الحية

جذور مفهوم السيادة وتحولاته وسلطان الدولة المطلق

2023.06.20 | 19:09 دمشق

cxv
سيدة سورية تنظر إلى جنود أميركيين وروس في بلدة المالكية شمال شرقي سوريا
إسطنبول - أحمد مأمون
+A
حجم الخط
-A

من المعلوم أن لدى المحللين السياسيين عُدة مفهومية واصطلاحية جاهزة لتحليل أي خبر أو حدث كان، ولطالما أسرفوا في الظهور فمن الضرورة بمكان أن يصبح ترداد تلك الكلمات سائليًا إلى درجة تفقد المفاهيم أهميتها وبعدها التحليلي، فالإسراف في الاستخدام واعتياد المرء على سماعها يقودنا إلى عدم معرفة ما الذي أصبح يعنيه بالضبط هذا المفهوم أو ذاك. ومن هذه المفاهيم الشائعة، مفهوم "السيادة"، أحد أكثر المفاهيم النظرية مركزيةً في العلوم السياسية، وإحدى كبرى الأزمات العربية المعاصرة طوال قرنٍ ونصف قرن من الزمن.

على الرغم من أهمية السيادة نظريًا وواقعيًا، فإن المكتبة العربية شبه فارغة في الكتابات عن مفهومها وحدودها وسياقها التاريخي، ولذلك جاء كتاب "السّيادة كمفهوم قانوني وسياسي: الجذور والمستقبل" لأستاذ القانون والقاضي السابق في المحكمة الدستورية الألمانية ديتر غريم، هدية للمهتمين بالقضايا النظرية والشغوفين بالمعرفة التفصيلية لجذور المفاهيم. وقد صدر الكتاب عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، عام 2021، بترجمة بديعة لعومرية سلطاني، ويقع الكتاب في 144 صفحة بثلاثة فصول.

جذور مفهوم السيادة وتحولاته

سعى ديتر غريم في كتابه إلى البحث عن ماهية السيادة وإذا ما كانت تعبر عن سلطة مجردة أم ملموسة، وهل تقبل التجزئة أم لا، ويجيب على سؤال من صاحب السيادة؟ هل فرد أم جماعة، وهل احتكار السيادة وممارستها بالضرورة تكون في يد واحدة أم يمكن فصلها، وبحثَ في جذور وسياق السيادة التاريخي، أي نشأتها الأولى، وكيف تغير مضمون المفهوم مرات عدة منذ ظهوره أول مرة في فرنسا، وأخذ يتطور وينتشر خارج بلده ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر، مؤكدًا أن الاستخدام المستمر للمفهوم لا يعني بالضرورة أن محتواه ظل على ما هو عليه بلا تغيير.

نادرًا ما ارتبطت مفاهيم في العلوم الاجتماعية باسم فيلسوف واحد، بل عادة ما ترتبط بعدد من الفلاسفة بحكم أن كل واحد منهم يطور ويضيف عبر نقد من سبقه، إلا أن للسيادة فرادة تاريخية حيث ارتبطت على نحو وثيق بالفيلسوف السياسي جان بودان. وبالعودة إلى ما تعنيه الكلمة أول ظهورها، فقد بين "غريم" أن السيادة كانت تطلق على تمييز مظاهر محددة وأماكن مرتفعة، كالجبال والأبراج، ولاحقًا استُخدمت لوصف سلطة الإله، وجُرِّد المصطلح من أبعاده المادية، وانتقل في مرحلته الثالثة ليرتبط بالحكم السياسي.

 

الصورة

 

إلا أن الارتباط بالسياسي ومسألة السلطة تحول مرات عدة، حيث انتقلت السيادة -نظريًا- من يد الملك إلى الشعب ومنها إلى الدستور، حيث جاء مفهوم السيادة عند بودان تبريرًا للملكية المطلقة في فرنسا، وراح عند صاحب "الليفياثان" توماس هوبز يفترض أن الأفراد في العقد الاجتماعي تنازلوا عن جميع الحقوق الطبيعة للحاكم ليمنحوه بالنتيجة السيادة الكاملة، أي أن صاحب السيادة عنده لا يملكها، كما عند بودان، وإنما يكتسبها من خلال "عقد" بين الأفراد الذين ينضمون لتشكيل الدولة.

بعدها بمئة عام، جاء جان جاك روسو ليدمج بين تقاليد السيادة المختلفة في مفهوم منفصل، متوجًا الشعب بموقع صاحب السيادة وليس الملك. وعليه ذهب "غريم" إلى القول بأن الفريد في السيادة كان دومًا، حتى في استخداماتها التي سبقت بودان هو سمتها كسلطة عليا ونهائية فيما يتصل بالحق في اتخاذ القرارات وإصدار أوامر ملزمة للآخرين. وللسيادة في استخدامها القانوني علاقة بالحكم، بمعنى أنها تنطوي على الحق في الحكم، وأن يكون صاحب هذا الحق، ومهما اتسعت حدوده، غير خاضع لأي كان.

على الرغم من أن كارل شميت أحد القانونيين البارزين في القرن العشرين فإن ديتر غريم تمكن من فتح نقاشٍ ممتاز مع كتابات "شميت" حول صاحب السيادة والمسألة الدستورية، حيث رأى "شميت" بأن صاحب السيادة هو القادر على إعلان حالة الاستثناء، أي الدكتاتور عنده بالأساس، وهذا الحاكم يضفي الشرعية على نفسه من خلال أفعاله الناجحة، ويقول "غريم" بأن "شميت" ابتعد بمذهبه عن الدولة الدستورية، وبذلك يجادل غريم بشكل جلي بأن ظهور دولة القانون، كان الخطوة نحو انتزاع السمة الشخصية من السيادة قد اكتملت.

ومع اكتمال تشكل هذه الدولة، صارت الديمقراطية هي المبدأ الوحيد الذي يضفي الشرعية على الحكم السياسي فيها، فصارت السيادة إذًا تعني السيادة الشعبية

ومع اكتمال تشكل هذه الدولة، صارت الديمقراطية هي المبدأ الوحيد الذي يضفي الشرعية على الحكم السياسي فيها، فصارت السيادة إذًا تعني السيادة الشعبية. لكن الشعب لم يكن بوسعه التصرف سياسيًا، لذلك انعكست السيادة في فعل صناعة الدستور فقط، ومورست السلطات المتصلة بها عبر المندوبين أو الممثلين بوصفها سلطات مستمدة منها، الأمر الذي جعل التوفيق بين السيادة والقيود على السلطة من السهولة لا بحيث يجري القيد تحت مستوى السيادة فقط، أي على مستوى ممارستها.

السيادة الداخلية والخارجية والمؤسسات فوق الوطنية

يشتبك ديتر غريم مع عدد من الأطروحات التي تزعم أن عالم اليوم زالت منه سيادة الدولة كوحدة مطلقة لصالح سيادة المؤسسات/ المنظمات الدولية أو الإقليمية فوق وطنية، كالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، إلا أن "غريم" يجرد هذه المزاعم النظرية من خلال الاستقراء الواقعي البحت، حيث يرى أن الأمم المتحدة حتى لو رغبت في التدخل عسكريًا في أي منطقة في العالم (على الرغم من أن الدول ذات السيادة المطلقة هي التي دفعتها لذلك، وليس قوتها كمؤسسة دولية)، فعليها استعارة قوات الدول الأعضاء، والاتحاد الأوروبي كذلك فهو لا يملك جهازًا قسريًا (جيش) خاصًا به. وعليه أكد غريم أن المؤسسات الدولية انبثقت إلى الوجود بفضل الدول، وهي التي تحدد أنظمتها القانونية الأساسية وأغراضها ومهامها، والأجهزة والأدوات الخاصة بها، وسلطانها وإجراءاتها.

إذن ما تزال الدولة الحديثة هي السلطان المطلق على السيادة الداخلية والخارجية، ولا يعلوها سلطان سيادي أبدًا، فكل دولة تملك جيشًا قادرًا على تحقيق أي هدف استراتيجي وحيوي لدولته، وقادرًا على الدفاع عن أرضه وسيادتها، يكون صاحب سيادة مطلقة؛ وإذا ما انخل في تلك الشروط فتصبح الدولة ناقصة السيادة، ولذلك نجد أن غريم يتجادل مع أصحاب المتميزات بين السيادة الداخلية والخارجية، إذ نظر إلى أن الدولة التي تفقد سيادتها في الفضاء الدولي فإنها بالضرورة فاقدة للسيادة الداخلية، والعكس ليس صحيحًا، فقدان السيادة الداخلية يتحول مباشرةً إلى النقاش حول سؤال الدولة نفسها وبتعريفها كدولة حديثة تحتكر العنف الشرعي على أرضها، وبالتالي يصبح مفهوم أو عنصر السيادة عنصرًا أو مفهومًا شريطًا لتكون الدولةُ دولةً.

شكل كتاب "السيادة" لديتر غريم إضافة حقيقة غير مسبوقة في المكتبة العربية حول مفهوم مركزي كالسيادة، وهذا الكتاب جاء في لحظة عربية راهنة لنفكر سويًا بمستوى حضورنا ووجودنا في النظام الدولي وسيادة "دولنا"، فكل الدول العربية تقريبًا تخضع لهيمنة عسكرية، أو اقتصادية، أو جغرافية، أو دبلوماسية وهو ما يجعلها كلها فاقدة للسيادة لمجرد وجود إملاءات خارجية من أي دولٍ كانت، وهو ما ذهب إليه "غريم" في كتابه. والمهم كذلك في هذا الكتاب أنه يدرس لحظات شديدة الأهمية في التاريخ الأميركي والفرنسي والألماني ويقدم مقاربة فيها تجعل التفكير في واقعنا أكثر نشاطًا ذهنيًا وحيوية.

كلمات مفتاحية