ثورة الطلاب التي لا يجد حزب الله بديلا عن قمعها بنفسه

2019.11.07 | 18:04 دمشق

20191107012220.jpg
+A
حجم الخط
-A

دخلت الثورة اللبنانية مع نزول الطلاب إلى ساحاتها في مرحلة جديدة أكثر زخما وراديكالية أظهرت قبل كل شيء عجز الآلة الأمنية الضخمة لحزب الله عن الاستباق والتوقع والتعامل مع تحولات الثورة وحيويتها.

قبل هذه اللحظة شن حزب الله بالتواطؤ الفظ والصريح من معظم الإعلام اللبناني حرب التهذيب ضد المتظاهرين، معتقدا أن دفع الخطاب العام للثورة نحو التهذيب من شأنه السماح بسحب لحظة النشوة الشتائمية العارمة وانعدام الخوف من التداول، تمهيدا لانكفاء لا يعود محتاجا معه إلى تدبير شؤون الحل الأمني، خصوصا أنه بدا عاجزا عن تنفيذه بشكل واسع عبر الأجهزة الرسمية اللبنانية.

وصف الإعلام ثورة الطلاب بالتهذيب وحرص على احتوائها من خلال الترحيب بها، كما تبدّى بسرعة فائقة استحالة التعامل معها عبر آليات قمع بالية من قبيل تهديدات مديري المدارس والجامعات للطلاب بالطرد والحرمان من الشهادات.

ما نجحت ثورة الطلاب في تفجيره أدى إلى خروج السلطات عن طورها، وظهرت تاليا بوصفها شتيمة صافية لا داعي لتوصيفها عبر إطلاق الشتائم في حقها. يكفي أن ننظر إلى الضابط الذي يصرخ في وجه طلاب يحتجون "15 -17 مش فرقانة

أعاد الطلاب تحريك الراكد في كل مكان، وخصوصا في الساحات الشيعية التي آمن حزب الله أنه أحكم السيطرة عليها مع موجات الترهيب العنيفة

معي ما رح إرحم حدا بنات صبايا"، أو خطاب مديرة مدرسة راهبات عبرا وغيرها من مطاوعي التربية حتى يتجلى بشكل لا يقبل الشك مدى نجاح ثورة الطلاب في الكشف عن بنية السلطة بوصفها شتيمة ما حوّل الانتماء إليها والدفاع عنها إلى عار.

أعاد الطلاب تحريك الراكد في كل مكان، وخصوصا في الساحات الشيعية التي آمن حزب الله أنه أحكم السيطرة عليها مع موجات الترهيب العنيفة التي مارسها في حق الجمهور الشيعي في النبطية وصور.

وكان الحزب قد اختار المخاطرة بقمع يعرف أنه مكلف لما سيتركه من جروح عميقة في البنى الاجتماعية والعائلية، لأنه يمارَس ضد جمهور لم يعلن انفصاله عنه وعن فكرة المقاومة، ولكنه أصر على الفصل بينهما وبين الحياة اليومية والشؤون المعيشية.

ما كان ينوي أن يبيعه لجمهوره من انتصارات لم ينعكس على حياتهم اليومية، بل تفاقم حجم البؤس والعجز والفقر على الرغم من تلك الانتصارات المزعومة، لدرجة بات معها الجمهور الشيعي يؤمن أن حزب الله لم ينتصر على أحد بقدر ما انتصر عليه.

حاليا يعاني حزب الله بعد استقالة حكومته وفقد القدرة على السيطرة على مورد الدولة ووظائفها من خلالها وانفجار ثورة الطلاب من أزمة مع جمهوره. ما كان يمنحه لهم من غلبة على الآخرين كان يترجم عبر خلق شبكة ولاء تتيح وصل الغلبة بالمصالح والاستقواء بالوظائف والانتفاع المادي، وعليه فإن تحول الغلبة من واقع ميداني إلى مجرد شعور، يهدد بسحب القدرة على توظيفها خارج الفعل الأمني المهدد بدوره بعدم القدرة على ترجمة نتائجه في الميدانين الحياتي والاقتصادي. من هنا فإن السؤال عن الفئة الفعلية التي يمثل حزب الله مصالحها داخل الساحة الشيعية يكتسب مشروعية لافتة في هذه الفترة؟

حقق قمع المواطنين الشيعة وظيفة مرحلية لصالح الحزب ولكن ثورة الطلاب عطلت مفاعيله وأطلقت الثورة في بعد جديد أكثر حيوية وصخبا، فإذا كان الحزب يجيد التعامل مع حراك يقوم به جمهور من متوسطي الأعمار وكبار السن وأرباب العائلات عبر تهديد مصالحهم الثابتة وعبر شبكات عائلية وقنوات حزبية، فإنه لا يجيد على الإطلاق التعامل مع الطلاب الذين ليس لديهم ما يخافون عليه سوى غدهم.

لا يستطيع تاليا التفاوض معهم على ماض يحكم السيطرة عليه كما أنه لا يمتلك تعريفا لهم ولا صيغة محددة تفسر هويتهم ودوافعهم، ففي كل مكان يتحرك فيه الطلاب لا يخرج توصيفهم عن أنهم طلاب وحسب. من هنا لا يستطيع الحزب قمع الثورة الطلابية عبر قمع الطلاب الشيعة في مناطقه، بل لا بد له إذا شاء إخماد هذه الثورة أن يقمع كل الطلاب في كل الساحات، وهذه مهمة يعلم قبل سواه أنها مستحيلة خارج إطار الحل الأمني الشامل والعنف المباشر.

خرج حزب الله أمام ثورة الطلاب ليس من زمن البلاد وحسب بل من جغرافيتها كذلك، لأن هذه الثورة باندفاعها وشموليتها أتاحت الفرصة لطرح سؤال المكان في وجه حزب الله المتباهي بامتلاكه لشارع ضخم لم يحركه حتى الآن، بينما بدا فاقدا للقدرة على خلق ساحة عامة.

ما إن يظهر عدد من الطلاب يتظاهرون في مكان ما حتى ينطبع المكان باسمهم وعنوان ثورتهم وتنتقل مباشرة كل ساحات الثورة إلى هذا المكان وتحوله مباشرة إلى فضاء ثوري، ولا يعود الحزب قادرا على امتلاكه أو وصفه أو تعريفه. يتعامل الطلاب مع العام والجامع ولا يرفعون سوى علم لبناني استعاد صفته كمحل للإجماع، بينما يسجل واقع اللحظة أن التيار السياسي الوحيد الذي رفع أعلاما حزبية في كل هذه الفترة كان تيار رئيس الجمهورية خلال احتفاله بمرور ثلاثة أعوام على توليه الرئاسة.

تشير كل هذه العناوين إلى جدية تهديد الثورة الطلابية لزمن الحزب الإلهي وحضوره وإذا تم ربطها بما يستجد من معطيات خطيرة في الاقتصاد فإن المؤكد أنه ليس لدى حزب الله من بديل سوى الركون إلى القوة العارية لقمع الثورة.

في الاقتصاد تنبه تقارير وكالات التصنيف الدولية إلى أن الاقتصاد اللبناني

سبق لنصر الله أن تباهى بعدم تأثر حزبه وناسه بالأزمة الاقتصادية، وأعرب في أحد خطاباته الأخيره عن قدرته على تحييد الكتلة التابعة له من تبعات الانهيار المالي

قد بات على مشارف الانهيار، وأنه يحتاج إلى ضخ سريع لكتلة نقدية كبيرة لا تقل عن 8 مليارات لتجنب انهيار كارثي على مدى لا يتجاوز العام الواحد.

سبق لنصر الله أن تباهى بعدم تأثر حزبه وناسه بالأزمة الاقتصادية، وأعرب في أحد خطاباته الأخيره عن قدرته على تحييد الكتلة التابعة له من تبعات الانهيار المالي في حال حصوله. ما يكشف بوضوح عن مدى تهافت خطاب نصرالله في هذا الصدد هو دفاعه المستميت عن خيار الحكومة السياسية الذي بات تشكيلها مستعصيا لربطها بانتهاء الثورة، فلماذا يستميت في محاولة تشكيل حكومة إذا كانت مفاعيل الانهيار لا تطوله اقتصاديا؟

يضاف إلى ذلك أن كلاً من قطبي المعادلة الحكومية، أي رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري ووزير الخارجية السابق جبران باسيل، لا يمانع من البقاء خارج الصورة حاليا وتشكيل حكومة اختصاصيين تمتص غضب الشارع مرحليا، ولكن حزب الله لا يقبل، وهو مستعد لخوض معركة الحكومة السياسية ضد الجميع.

من هنا ليس أمام الحزب لكي يفرض مشروعه على البلاد سوى اللجوء إلى لعبة الدم، وهو لن يتورَّع عن تفعيل هذا الخيار الذي يمثل حاليا الترجمة الواضحة لإصراره على معاداة مطالب الثورة ومخاوف السياسيين في آن واحد. يتطلب فرض العودة إلى بيت الطاعة الإلهي اعتماد بنية المجزرة التي يبرع في إدارتها. لديه الكثير من الحلفاء المستعدين لفتح الباب أمام هذا الخيار فتنظيم الدولة يرى لبنان ساحة انتقام، وبشار الأسد يسعى إلى إعادة إنتاج زمن وصايته. وكان لافتا أن التحذيرات التي يطلقها أمنيون تواجه بالاستخفاف، فقد حذر وزير الداخلية الأسبق مروان شربل في حديث أدلى به لقناة الجديد مؤخرا من سيناريو التفجيرات في ظل وجود حشود، وطالب القوى الأمنية التنبه لمثل هذا الاحتمال، فكان أن اتهمته المذيعة بالتهويل والتخويف.

في الحقيقة فإن الساحة اللبنانية مشرّعة بقوة في هذه الفترة أمام السيناريو الدموي، لأن مشهد لبنان قد صار موصولا بنظر المرشد الأعلى الإيراني بأمن إيران، واحتمالات انتقال الثورة إلى داخلها ومستقبل نظامها.

المرشد شيطن الثورة في لبنان والعراق، وتفاجأ بعدم قدرة أجهزته الاستخبارية على التنبؤ بها، وبذلك فإن مهمة قمعها وضعت في يد الحرس الثوري. لا يمكن أن نتوقع سوى أن يدافع الحرس باستماتة عن الاستثمار الإيراني الأبرز في المنطقة، أي حزب الله، الذي قدم له خدمة لا تقدر بثمن تتمثل في إخضاع النموذج اللبناني بما يمثله من تناقض حاد وراديكالي مع كل ما تمثله الخمينية والخامنئية لعبودية العهد العوني الإلهي. لمن يسأل ما هو النموذج اللبناني الذي أسقطه حزب الله ويخشى من عودته؟ نقول له ببساطة فقط انظر إلى ثورة الطلاب.

لطالما كان حزب الله ممسكا بخريطة المسار الأمني ومتحكما بمفاصله من بداياته إلى نهاياته. يستطيع الآن أن يفجر بنية أمنية قمعية، ولكنه يعلم أنه سيواجه بقوة من شعب يتألف من ناس لم يعد لديهم ما يخسرونه، بعد أن كان قد اعتاد الانتصارَ بالتهديد وحسب.