icon
التغطية الحية

"توسياد" و"موسياد".. تدخل الاقتصاد بهوية الدولة وعلاقة شائكة مع الحكومة التركية

2022.01.29 | 05:59 دمشق

tusiad1-gccm_cover.jpg
إسطنبول - صالح عكيدي
+A
حجم الخط
-A

شكّل الجدال الذي أنتجته سياسات الحكومة التركية النقدية وما تبعها من تقلبات في أسعار الليرة التركية، محور اهتمام رئيسي تجاوز حدود البلاد ووصل للمتابع العربي. وفي خضم محاولة فهم أطراف الجدال، ظهرت أسماء أبرز جمعيات الأعمال التركية "توسياد" و"موسياد" بصيغة لا تخلو من المبالغة في أدوارهم، والتبسيط من أجندتهم.

وفي السردية التي تطغى على المحتوى العربي، أوكل لـ "توسياد - TÜSİAD" دور منظمة رجال الأعمال العلمانية ذات الارتباطات المشبوهة التي تسعى للنيل من الحكومة التركية، أما "موسياد" فتمثل منظمة رجال الأعمال الإسلامية التي تدعم الحكومة وتقف سداً أمام محاولات "توسياد".

لا تخطئ السردية في توصيف مواقف الجمعيتين من سياسات الحكومة التركية النقدية، إذ عارضت "توسياد" علناً خفض الفائدة ودعت للالتزام بـ "قواعد علوم الاقتصاد"، أما "موسياد" فكررت دعمها لرؤية حكومة بلادها ودعت لتكثيف الجهود في سبيل خفض الأسعار. لكنها بالغت برغبة وقدرة تأثير كليهما في الساحة السياسية التركية، وبسطت من منهجهما عبر الاكتفاء بربطهم بثنائية علماني/إسلامي.

تلخص الأرقام أهمية الجمعيتين في الاقتصاد التركي، إذ تشكل "توسياد" ذات الميول الغربية، والتي تضم 4500 شركة عضو، 50% من الناتج المحلي في القطاع الخاص. وتسيطر على 85% من التجارة الخارجية (ما عدا قطاع الطاقة)، وتؤمن 50% من العمالة المسجلة (ما عدا قطاعي الدولة والزراعة)، وتدفع 80% من إجمالي ضرائب الشركات في عموم تركيا.

أما منافسة الأخيرة التقليدية ذات الميول الشرقية "موسياد"، فتضم ما يقارب الـ 60 ألف مؤسسة تجارية تؤمن وظائف لـ 1.8 مليون شخص، وتعد أبرز من ساهم في جذب الاستثمار المباشر للبلاد خلال العقدين الأخيرين.

لكن طالما ابتعد رجال الأعمال الأتراك وممثلوهم من جمعيات عن محاولة تشكيل السياسة التركية، فالبيئة السياسية التركية فيها من التقلبات القاسية ما يبعد المستثمرين التجاريين، واكتفوا فقط بالتأثير فيها بالطرق المشروعة، مستندين بشكل رئيسي على دعم الرأي العام.

على عكس العضوية الإجبارية في الغرف والاتحادات التجارية الرسمية، تستقبل كلتا جمعتي الأعمال أعضاءهم الجدد من الشركات بناءً على الرغبة. ولا تخفي أي منهما سعيها لحماية مصالح أعضائها التجارية. وتشترك كلتاهما بهدف دعم نمو الاقتصاد التركي عبر زيادة التنسيق بين لاعبيه. أما الاختلافات فتشمل الأيديولوجيا والثقافة وخلفية الأعضاء التجارية والمجتمعية.   

اجتماع عمالقة البرجوازية

عام 1971، وفي ظل بيئة متقلبة سياسياً، اجتمع 12 من رؤساء عائلات تركيا البرجوازية الأبرز، وقرروا تأسيس جماعة ضغط ترعى مصالهم التجارية، وتدعم رؤيتهم الاقتصادية السياسية المتمثلة بالليبرالية الديمقراطية تحت مسمى "توسياد"، أو "جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك".

يمكن نسب جزء من فضل الانفتاح الاقتصادي لـ "توسياد" بصفتها المناصر الأبرز لمفهوم المنافسة والسوق الحر، إذ دعت أول مرة للانفتاح تجارياً للعالم الخارجي بعيد تأسيسها بداية سبعينيات القرن المنصرم. ومنذ ذلك الوقت كانت الجمعية سبباً رئيسياً لنقاش ملفات حساسة غابت عن تداولات الرأي العام، عبر تقاريرها أو مؤتمراتها التي تتناول العديد من المواضيع الاقتصادية والمجتمعية والسياسية بأسلوب علمي.  

مثلاً دعت الجمعية للانضمام للاتحاد الأوروبي آخر السبعينيات، ولتحرير السوق وحركة رأس المال، ورفع يد الدولة عن الاقتصاد خلال الثمانينيات. وشككت بنظام الضمان الاجتماعي التركي ودعت لتطويره، كما دعت لتبني دستور جديد للبلاد أثناء التسعينيات.

اليوم، وكما تظهر الأرقام في المقدمة، تعتبر الجمعية أقوى تجمع لرجال الأعمال الأتراك، وتضم أبرز عائلات تركيا الثرية مثل "كوتش" و"سابانجي" و"إيجزاجيباشي" و"دوغان" و"بوينر" لتكون الممثل الأبرز للبرجوازية التركية. تمتد مكاتبها التمثيلية من الصين وحتى وادي السيليكون في الولايات المتحدة مروراً بالخليج العربي وأبرز العواصم الأوروبية.

عاصرت الجمعية منذ السبعينيات حكومات وأزمات سياسية واقتصادية عديدة، استطاعت النجاة من خلالها عبر الابتعاد عن الاستثمار المباشر في أي طرف سياسي، والتأثير بالساحة السياسية كطرف خارجي معتمدةً على تأليب الرأي العام.

مداخلات استراتيجية في السياسة

لعل أول وأشهر تدخلات جمعية "توسياد" بالسياسة كانت عام 1979، يعد أن نشرت إعلانات مأجورة على أبرز الصحف التركية تنتقد سياسات حكومة بولنت أجاويد اليسارية الاشتراكية، وتوصي بالسياسات الليبرالية. جاءت الإعلانات بالتزامن مع أزمة حادة في تأمين المواد الأساسية، لذا لاقت رواجاً في الرأي العام، فاستقال أجاويد بعد فترة بسيطة من الإعلانات، لكن باعتبارها قد أسقطت الحكومة، ففي ذلك تجاهل لطبيعة التاريخ الشاملة والمركبة.

وعلى عكس ما جاء من قربها للجيش التركي خصوصاً خلال فترة سطوته، نشرت الجمعية أواخر التسعينيات تقريرها الشهير "آفاق إرساء الديمقراطية التركية"، دعت فيه لإلغاء "مجلس الأمن القومي" ذراع الجيش الأبرز في الدولة، كما نادت لتبعية رئاسة الأركان لوزارة الدفاع، بما في الخطوة من تقويض لسلطات الجيش. وأخيراً ركز التقرير على ضرورة إرساء الديمقراطية في البلاد.

بالإضافة لمعارضتها لحكومة أجاويد العلمانية اليسارية، وقفت الجمعية ضد أب الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان، واعتبرت أفكاره تهديداً للمبادئ الديمقراطية الليبرالية، وعائقاً أمام رؤيتها المتمثلة بالتقرب من أوروبا والغرب، وخطراً على مكاسبها الطبقية الاجتماعية.

ويبقى دعمها لسياسات الجيش الإقصائية خلال "إجراءات 28 شباط"، التي استهدفت المتدينين من مؤيدي أربكان وعرفت بـ "انقلاب ما بعد الحداثة"، نقطة سوداء في تاريخ الجمعية ما زالت تلاحقها حتى اليوم.

وبالنسبة للحزب المجدد الذي ظهر على الساحة السياسية التركية أوائل الألفية، العدالة والتنمية، فقد اتسمت العلاقة معه بالإيجابية في السنوات الأولى من حكمه، لما تبناه الحزب حينها من سياسات تدعم السوق الحرة وتسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي. قبل أن تبدأ العلاقات بالانحدار بظهور الخلافات الإيديولوجية على السطح، وصعود قوة الزعيم التركي أردوغان الذي لا يتسامح مع التدخلات.

"توسياد" والعدالة والتنمية

بعد بضع سنوات من العلاقات الجيدة، بدأت علامات التوتر تظهر عام 2005 بين "توسياد" ورئيس الوزراء حينها الزعيم التركي رجب طيب أردوغان. إذ انتقدت الجمعية الحكومة التركية، لعدم محاسبتها المسؤولين من الشرطة عن "التعامل العنيف" مع مظاهرات اليوم العالمي للمرأة. ليرد أردوغان بدعوة الجمعية أن تلزم شؤونها.

سيحمل عام 2005 مزيداً من المشاحنات، ولن يمانع أردوغان التصعيد، ليصل به أن يدعو الجمعية المنافسة "موسياد" لزيارته ثم يستقبلها، عوضاً عن حضوره المؤتمر الاستشاري السنوي الذي تنظمه جمعية "توسياد"، ذاك العام.

بعدها عاد أردوغان لحضور برامج الجمعية، رغم اتسام العلاقة بالفتور، قبل أن تعود للتأزم عام 2010 على أثر دعوة العدالة والتنمية لتنظيم استفتاء يعدل الدستور بصيغة تعيد هيكلة الهيئات العليا للقضاء التركي. وكان الخلاف حول عدم إدلاء الجمعية بتصريح رسمي يدعم الاستفتاء، بعد أن أعلمت بدعمها له في الاجتماعات المغلقة بحسب أردوغان. يومها اتهمهم أردوغان بالعزف على عدة أوتار، وجاء رد الجمعية برفضها الضغط الممارس عليها. ليشتد النقاش وينتج عنه قطيعة لم يحضر على أثرها الزعيم التركي مؤتمر الجمعية السنوي حتى عام 2014.

 

 

حتى حين حضر أردوغان المؤتمر الاستشاري السنوي لجمعية "توسياد" عام 2014، لم تكن في نيته الصلح، إذ هاجمه بخطابه في المؤتمر، وقام بتوجيه رسائل تذكر بـ "إجراءات 28 شباط" مشيراً لتأييد الجمعية لها. كما سحب أردوغان في العام نفسه مهمة تمثيل تركيا في مجموعة العشرين من الجمعية وسلمها لـ "اتحاد غرف التجارة والبورصات التركية".

استمر الجدل بين الجمعية والزعيم التركي في الفترة الممتدة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. توجه الجمعية خلالها انتقادات حذرة للحكومة التركية مع التركيز على مفهوم الديمقراطية، ويذكر أردوغان بمهام الجمعية الرئيسية ويحذرها من تجاوزها.

مثلاً عبّرت الجمعية عن "قلقها" بعد إعادة تنظيم الانتخابات المحلية في إسطنبول عام 2019، ليرد أردوغان بقوله "لتعرف توسياد حدودها". أما بالنسبة للتصريح الأخير الذي عارضت فيه الجمعية سياسات الحكومة النقدية، ودعت لاستقلال البنك المركزي، فكان في إطار المتوقع، إذ تعود أول دعوة وجهتها الجمعية لاستقلال البنك المركزي التركي لعام 1979.

ظهور المنافس

بعد مضي عدة عقود منذ أن بدأت الكتل المحافظة التركية بتنظيم نفسها على المستوى الاجتماعي والسياسي، والاستفادة من رؤوس الأموال التي جمعها رجال أعمال الأناضول التقليديين بعد الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته البلاد، وعملاً بنصيحة زعيم الكتل المحافظة، ثقافياً ودينياً، نجم الدين أربكان؛ أسس مجموعة من رائدي الأعمال جمعية "موسياد"، أو "جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين".

لم تؤسس "موسياد" لتنافس "توسياد" على المال والنفوذ فقط، بل جاءت لتكون نداً لفعاليات الأخيرة الثقافية التي تروج فيها للمبادئ الغربية سعياً لرؤيتها الديمقراطية الليبرالية، وتؤكد الجمعية على ذلك بوضعها "المحافظة على أخلاق المجتمع" ضمن أولوياتها. وعلى عكس "توسياد"، فعيون "موسياد" موجهة للشرق، إذ تؤمن أن العمق الاستراتيجي لتركيا يكمن في بلاد المسلمين.

لا تنتمي "موسياد" للبرجوازية التقليدية التركية، ومعظم أعضائها الـ 60 ألفاً شركات صغيرة أو متوسطة الحجم، طبعا مع وجود رؤوس أموال ضخمة أبرزها عائلة "أولكر" صاحبة شركات الشوكولا والبسكويت الشهيرة. لذا فيمكن القول إن الاختلاف بين الجمعيتين لا ينحصر بالأيديولوجيا والثقافة، ويمتد للطبقة الاجتماعية.

نالت الجمعية نصيبها من "إجراءات 28 شباط" الإقصائية بحق المتدينين الأتراك آخر التسعينيات، وخسرت ما يقارب النصف من أعضائها حينها، قبل أن يبتسم لها القدر بصعود رجب طيب أردوغان، الذي دعمها وأعاد لها رونقها. والجمعية منذ ذلك الوقت في ازدهار مستمر، على مستوى عدد الأعضاء والنفوذ، إذ يمكن حصر العديد من مسؤولي الجمعية ممن عينوا في مناصب مرموقة في وزارة الاقتصاد على مدار حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة. وردت الجمعية الجميل بأن دعمت الحكومة التركية بدون شروط.

حتى اليوم تبقى "توسياد" البرجوزاية متفوقة على "موسياد" بمراحل بالنفوذ والقوة، ولا تبدو أن الصورة ستتغير قريباً رغم صعود الأخيرة السريع. لكن في سياق المراقب الخارجي، يخطئ الكثيرون باعتبارهم قوى متحاربة فيما بينها أو مع الحكومة التركية، والصحيح أن كلتيهما أدوات نفوذ مرموقة للدولة التركية، تستعين بإحداها في الغرب والأخرى في الشرق.