icon
التغطية الحية

تنويعات الدكتاتور- الجنرال بين الأدب والسينما والدراما

2023.04.10 | 07:44 دمشق

دكتاتور
+A
حجم الخط
-A

لا شك أن الأهمية الاستثنائية لمسلسل (ابتسم أيها الجنرال) تتأتى من كونه العمل الدرامي الأول الذي تكون الشخصية الرئيسية فيه متمثلة بـ "السيد الرئيس". فالأعمال الفنية والأدبية عبر التاريخ طالما اهتمت بموضوعة الطاغية، الدكتاتور، الحاكم، والعائلة المالكة، لكن المتلقي العربي، هو في تجربة المرة الأولى للاحتكاك مع تجسيد درامي لشخصية "رئيس الجمهورية" الذي يحمل في المسلسل اسم (فرات، تمثيل مكسيم خليل).

القيم والمشاعر العائلية في قيادة المصير التاريخي

تتجسد مركزية شخصية "السيد الرئيس" في المسلسل أيضاً، مع الاقتباسات التي يسبق بها كاتب السيناريو (سامر رضوان) كل حلقة من حلقات المسلسل، من كتاب (الأمير) لـ ميكافيللي الذي يصنف من أوائل الكتب في تاريخ العلوم السياسية، وعرف بإعطائه النصائح الفكرية والفلسفية بمضمون براغماتي في مجال قيادة الأمير لحكم رعيته.

يختار (سامر رضوان) مجموعة من الكتابات الميكافيلية التي تتعلق بالأخلاق السياسية والفكر البراغماتي، نذكر منها:

"لا علاقة للسياسة بالأخلاق"

"الغاية تبرر الوسيلة"

"القوة هي المحور الذي يتوقف عليه كل شيء، من لديه القوة يكون على حق دائماً، والأضعف دائماً على خطأ".

أما عنوان المسلسل فيوحي بالكوميديا التي لم تظهر بوادرها في كتابة المسلسل بعد، وهي تذكر بما كتبه (إمام عبد الفتاح إمام) عن النكتة السياسية في كتابه المرجع (الطاغية- دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي): "عندما يسود حكم الطاغية لا يكون أمام الناس سوى الاستسلام والشكوى والأنين، ثم الالتجاء إلى سلاح وحيد صاحبه مجهول، ولهذا يتوارون خلفه، وهو سلاح النكتة والسخرية. فالنكتة السياسية وسيلة لتوصيل صوت الشعب إلى الحاكم، ولو وجدت الديمقراطية فسوف تبقى النكتة السياسية الموجهة ضد الحاكم الطاغية، أو ضد الحاكم الفرعون. لكن ستظل الناس تعبر عن نفسها بالنكتة في مجالات أخرى".

الدكتاتور الذي يدور الوجود في فلكه

أبرز ما يجسده المسلسل من تنويعات الأدب والسينما عن الدكتاتور هو الجانب العائلي من حكم القيم والمفاهيم والعلاقات العائلية لدولة كاملة، فيقوم تاريخ الدولة على علاقات ومشكلات عائلية بدلاً من منهج ورؤية سياسية أو اقتصادية. ولذلك تفتتح حكاية المسلسل بفضيحة عائلية للأسرة الحاكمة، ثم يتحول الصراع العائلي بين الأخين الأكبر والأصغر إلى محور الأحداث، ويكشف السيناريو عن أحداث تربط بين المصير العائلي والمصير الوطني، فهذا النزاع الأخوي  يوقع عشرات وربما آلاف الضحايا، أو يعتبر خروج الأخت (سامية، تمثيل سوسن أرشيد) من المنزل بدون إذن من أخيها معضلة وطنية.

وفي حوار بين الأم والدة الرئيس ومع ابنها الأصغر (عاصي، تمثلي غطفان غنوم)، تستعمل المصطلحات العائلية لإدارة البلد السياسية: "برضاي عليك يا ابني لازم تتصالح أنت وأخوك"، يرد الأخير بأنه يدافع عن: "ميراث العائلة، الذي لا يملكه الرئيس وحده، بل يخص العائلة بأجمعها، ميراث أبي، يعني أمانة تاريخية". هنا يرتبط العائلي بالتاريخي وتتكرر حكاية صراع الإخوة على العرش في الدكتاتوريات العائلية.

التزام الفنان مكسيم خليل السياسي يضعه في مقاربة مع موقف شارلي شابلن، في لحظة تاريخية من تصالح الأنظمة العربية مع النظام السوري.

تدور في المسلسل حول الرئيس شبكة من الرجال المرتبطين بالفساد السياسي (حيدر، تمثيل عبد الحكيم قطيفان)، والفساد الاقتصادي (أنيس الرومي، تمثيل مازن الناطور)، وتدور حوله شبكة الحياة الوحيدة في الطبقة الألوغارشية، كما تتعلق به صور البلاد وعلمها وحدودها وشعاراتها: فراتنا نجاتنا. وتتركز صورته على الجدران في المؤسسات الحكومية ومكاتب الضباط، إنه كما يصفه الكاتب الغواتيمالي (ميغيل أخيل أستورياس) في روايته (سيدي الرئيس- 1967) كحاضر في كل مكان والغائب عن الأعين.

يكتب (إبراهيم العريس) عن حضور الدكتاتور في رواية (سيدي الرئيس): "الدكتاتور بالكاد يظهر، إنه الغائب، والذي مع هذا يسجل حضوره الأكبر في غيابه. أما عموميته وكلية حضوره في هذا السياق فيؤمنها كون البلد الذي تدور فيه الرواية مجهولاً غير مسمى فيها. الدكتاتور في السيد الرئيس موجود في حياة الناس والبلد، في أفكارهم وعلى ألسنتهم، في حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم. إنه أشبه بالعنكبوت الذي يكثف من نسيج الشبكة التي تقام حوله، إلى درجة أنه لا يعود يظهر في مركزها. لكنها هي، وكل ما حوله وحولها ينبئان بوجوده ويجعلانه كل شيء وأي شيء".

الدكتاتور كمتنور مرهف

السيناريست السوري (سامر رضوان) يبني أيضاً دكتاتوره بأبعاد إنسانية للشخصية، فهو ليس بتلك الصورة النمطية المتداولة عن البطش والقسوة، بل إننا نراه في لحظات ضعفه وفي محاولاته إنقاذ توازن حكمه في البلاد، باعتباره الأخ الأكثر توازناً بين الأخين. ويملك الدكتاتور زوجة وحبيبة (صوفيا، أداء ريم علي)، ليشكل تلك الصورة عن الرجل المتحضر في الفترة المعاصرة، كما أنه ينال رضى والدته، وربما يصور في قادم الحلقات بعيداً أو معارضاً للفساد، لكنه يبقى رئيساً أوحداً، وقد حصل على سلطته من ميراث والده ومن عمليات قتل نفّذها.

في العام 1987، قدم المخرج التشيلي (ميغيل ليتين) فيلمه (اللجوء إلى المنهج) والذي يكتب عنه الناقد (ابراهيم العريس) في ملفه المخصص للدكتاتور في رواية أميركا اللاتينية بكتابه (تراث الإنسان ألف عام من الفكر السياسي). الفيلم يغوص في قلب قضية السلطة والجماهير، السلطة والتحديث، السلطة والتخلف. والحكاية عن رئيس إحدى الدول في أميركا اللاتينية، الراعي الفلاح، المحب للفنون والآداب، وللمرأة، هذا ما يجعله مفضلاً قضاء القسم الأعظم من وقته الثمين في باريس، عاصمة النور. وهو إن كان قد قرر العودة إلى بلده بناء على استدعاء الدولة له للتصدي لانقلاب عسكري مغامر، فإنه يفعل هذا وهو مثقل القلب وحزين.

يكتب (العريس): "لم يقدم الفيلم الرئيس الأعلى، جباراً، دموياً، طاغية لا يرحم. بل هو أمامنا، إنسان من لحم ودم، بحر علم وثقافة، يعشق الفن والأدب، والحداثة، ويكره الجهل والأمية والغباء. والواقع أن القارئ لتاريخ أميركا اللاتينية لن يفوته أن يلاحظ ذلك التزاوج على الدوام، لدى دكتاتوريي هذه البلدان، بين عشق الحضارة والطغيان، بين الغربة في التحديث وانجاز المجازر، بين الالتفات صوب أوروبا العلم والثقافة، والقسوة الدموية. والمخرج ركز العملية كلها، حول شخصية الرئيس، صوره في جلساته مع العلماء والفنانين، صوره وهو يغوص في موسيقى الأوبرا، تماماً كما صوره وهو يصدر أوامره بإرتكاب أفظع المجازر".

يركز مسلسل (ابتسم أيها الجنرال) على العالم الجواني للجنرال، تحضر لمحات من علم النفس في علاقته بالسلطة، العائلة، الأم، الزوجة، ويقسو أداء الممثل (مكسيم خليل) على من حوله حين يشتد الصراع بينه وبين أخيه الأصغر، إنه يحاول بالقسوة المبالغة أن يثبت ثبات حكمه، يظهر ذلك في المشهد الذي يجمعه مع خاله، فيأمر الخال ويهدده بأن يناديه بـ "سيدي الرئيس". وهنا يبقي المخرج (عروة محمد) مشهداً للتماهي بين المتلقي والدكتاتور، مثل الكاميرا التي تلاحق بعض الحزن في أداء الدكتاتور لحظة القسوة على خاله. كما يتماهى القارئ تماماً مع الدكتاتور في رواية (أنا الأعلى، للكاتب البارغوايّ أوغستو روا باستوس) لأن الرواي هو الدكتاتور نفسه. في هذه الرواية، ليس للدكتاتور هنا اسم مستعار، بل هو يحمل اسمه التاريخي الحقيقي، الدكتور فرانسيا. بطل الرواية دكتاتور من الماضي يملي على سكرتيره الخاص تفاصيل حياته وإرادته خلال أيامه الأخيرة. ومن هنا تبدو الرواية كلها لعبة مرايا وتأرجح سري بين الماضي والجاضر، يلعب فيها القناع الآتي من الماضي الحقيقي دور الكاشف عن ممارسات دكتاتور الزمن الحاضر.

تقدم شخصية الدكتاتور أيضاً في التاريخ السياسي، وفي السيرة الذاتية، وفي الأدب، باعتباره المصلح الذي يريد الخير لبلاده، إلى تلك الدرجة التي يحاول أن يفرض فيها رؤيته لإنقاذ مجتمعه فيتحول إلى دكتاتور من شدة حرصه على تنفيذ مخططه لتطوير البلاد.

كذلك الأمر في رواية (أنا الأعلى) لقد تسلم الدكتور فرانسيا حكم الباراغواي بعد أن حررها من الاستعمار الاسباني. فاعتبر صاحب الحق في تسلم المركز الأعلى في البلاد. غير أن الدكتور فرانسيا لم يكن دكتاتورا بطبعه، بل كان رجل فكر ومن أنصار حركة التنوير التي كانت في خلفية الثورة الفرنسية. غير أن المرء يتغير تماماً تحت وابل السلطة.

يكتب (العريس): "إن لديه من البراءة ما يجعله مندهشاً في كل مرة وجد من يعارض فكرة له، أن يأخذ عليه خرق إصلاح ما. مشكلته أن الناس لا تفهمه. ولأن الأمر كذلك ينبغي أن يعاقب الناس. إنه في الرواية الانزلاق التدريجي نحو الهاوية والسخف وربما الجنون أيضاً. لكن الأمر لدى الدكتور فرانسيا هو غير ذلك، بل إن المحكومين هم المجانين إذ لا يقبلون أفكاره الإصلاحية التنويرية".

يتطرق سيناريو مسلسل (ابتسم أيها الجنرال) لدور الإعلام، فالقوة المؤسساتية المقابلة لمؤسسة السلطة السياسية المستبدة هي محطة إعلامية تلتزم شعار الحرية في بلد مجاور، ويمكن الإسقاط هنا ببساطة على العلاقة بين القضايا السياسية السورية ودور الإعلام اللبناني في تناولها، عبر حكاية قناة الشروق التي تعرض فيديوهات ومعلومات لا يرضى عنها نظام الحكم في الجمهورية الجارة، جمهورية الفرات، حيث الاستبداد السياسي يؤدي إلى اغتيال صاحب المحطة (نصير الجيلاني)، حكاية تتناول تعامل السلطة السياسية المستبدة مع قنوات الإعلام النقدي.

الممثل بين الخيار المهني والفني والالتزام السياسي

ويمكن الحديث عن الممثل (مكسيم خليل) بدور "سيدي الرئيس" في مستويين، المستوى الأول خياره المهني بأداء الدور: فلقد قدم من خلال مشاركته في المسلسل نموذجاً في الفنان المبدع الملتزم، والذي يجعل من تفكيره السياسي جزءاً من خياراته الفنية، فمن المعروف أن مقدار المغامرة التي يقدم عليها نجوم الصف الأول من الممثلين/ ات هي أداء أدوار ذات طابع سياسي، في قواعد وسوق صناعة الدراما حيث شركات الإنتاج لا تفضل الممثلين/ ات من ذوي/ ات الالتزام السياسي.

أما المستوى الثاني فيتعلق بالأداء التمثيلي، فيقدم شخصية الرئيس بتثبيت الملامح والتعابير للشخصية في كامل أداءاتها وانفعالاتها وسلوكياتها، هذا الخياري الأدائي الذي يحمل الشخصية بعضاً من الغروتسك أو تثبيت الصورة النمطية للمخيلة الجمعية عنها، لكن الإخراج بالمقابل يحافظ على أنسنة الجنرال من خلال مجموعة لقطات تقدمه وحيداً في استلقائه في البانيو، وحيداً أمام غباش انعكاس وجهه في المرأة، وحيداً في لحظات تنظيف الأسنان أمام المرآة، كل ذلك يبني الشخصية السيادية بين الصورة النمطية والمشاهد الإنسانية.

إن أبرز أداء غروتسكي لشخصية الرئيس هي التي قدمها الممثل والمخرج (شارلي شابلن) في فيلمه (الدكتاتور العظيم- 1940). في عددها الصادر حينها، كتبت أشهر مجلة سينمائية (دفاتر السينما) عن فيلم شابلن: "لم يكن هناك من قبل فيلم على هذا المستوى من الهزلية ومن الالتزام السياسي على السواء. لم يكن هناك منذ نص (أنا أتهم) لإميل زولا، فنان قد وقف بشجاعة ليدلي برأيه السياسي في لحظة تاريخية، هي حين أدى شارلي شابلن في الولايات المتحدة شخصية هتلر الذي كان يحكم كامل أوروبا تقريباً".

التزام الفنان مكسيم خليل السياسي يضعه في مقاربة مع موقف شارلي شابلن ذاك، في لحظة تاريخية من تصالح الأنظمة العربية مع النظام السوري.

لقد قدم (شابلن) في حينها، بطريقة هزلية ساخرة أوامر بالمجازر الجماعية، ويقترب في رواية المارسات النازية باعتبارها استعارة فنية أو حكاية شعبية، بينما يغوص الفيلم في الأحداث السياسية الراهنة لإنتاجه، ويقترب من النبوءة السياسية لأن الشخصية السياسية لهتلر في الواقع تصبح أكثر مبالغة وغروتيسكية كما قدمها الفيلم، وتتحول إلى كابوسية، بطريقة ساخرة كما يرسمها الفيلم. وطبعاً، يبرع شابلن في دور الضحية والجلاد، حيث يلعب دورين متعارضين: الحلاق اليهودي المضطهد والحاكم العسكري هينكل. إنه يبدو كممثل يلعب فنياً على الأوضاع السياسية الراهنة لزمانه، وقدم السينما كفن شامل، يقدم أنواع الغروتيسك، الإيماء، والكويروغرافي، وفنون السخرية برسالة أخلاقية وسياسية تحمل مضامين عالمية.