icon
التغطية الحية

تمارين على معنى الحياة في محاولات النجاة اليومية

2020.12.15 | 11:01 دمشق

whatsapp_image_2020-12-15_at_12.32.59_pm.jpeg
علاء رشيدي
+A
حجم الخط
-A

تمتلك المجموعة الشعرية (تمارين على الجدوى) للشاعر  (محمد أبو اللبن) ميزة استثنائية من حيث الفترة التاريخية التي تمتد عليها القصائد وموضوعاتها. فالقصائد الثلاث عشرة التي تتألف منها المجموعة كتبت على امتداد زمن تاريخي بين 2009-2015. وهي فترة زمنية شهدت الكثير من التحولات في الحدث السياسي والاجتماعي السوري، وكذلك تحولات جذرية في شكل وموضوعات الأدب السوري.

تنقسم قصائد المجموعة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول بين عامي 2009-2010 وتتضمن القصائد التي تشكل امتداداً في الموضوعات والأسلوب الشعري الموجود في كتابات الشاعر السابقة، حيث الاهتمام بموضوعات: الزمن، الذاكرة، الغياب، الحضور. القسم الثاني يضم القصائد التي كتبت بين عامي 2011-2013، وهنا تبدأ تجربة الشاعر في فضاء وأسلوب شعري جديد، وهو محاولات توصيف موضوعات: الخوف، الحرب، الموت، الدمار. أما قصائد القسم الثالث والأخير فقد كتبت بين عامي 2014-2015، وتحضر فيها موضوعات: النزوح، الهجرة، المنفى. ولذلك، هي مجموعة شعرية تجمع في قصائدها التحولات النموذجية في مسيرة الفن السوري خلال الحقبة الماضية.

تجليات الزمن في اللغة:

الزمان لا يحضر كموضوعة فقط في قصائد الشاعر، وإنما هو أيضاً نبع للاستعارات، ملهم للصور الذهنية، والتجربة التي تسعى باستمرار بنية القصائد لتكوينها في مخيلة القارئ. عنوان مجموعته الشعرية الأولى (عمّا قليل، 2005)، وكذلك مجموعته الثانية (التفاتة العابر في ظله، 2009)، كلتاهما تنطوي على لعب في جريان الزمن، في توصيف الوقت، في الابتكار اللغوي للتعبير عن تجلياته.

القصيدة الأولى بعنوان (مس اللحظة)، هي عن لقاء، عن لحظة ذاكرة، وعن لحظة وعي بالزمن: "للصدفة الكامنة في طرفة العين". تلك اللقاءات التي تخرج الإنسان من زمنه، تخرج الذهن من جريان الزمن، فينسى نفسه: "وأنساني، ما اسمي؟، كم عمري؟ قليلٌ من الانتباه ينسلني"، ليعود منه الذهن إلى قيد الزمن ثانيةً: "كمنامٍ لا يدرك النهاية حين تجيء". تتداخل في مثل هذه اللحظات مشاعر العبور والإقامة، مشاعر الوحدة والضياع.

أيضاً، يمتد الغياب كموضوعة من الدواوين السابقة للشاعر ليخصص لها قصيدة كاملة في هذه المجموعة بعنوان (عن الغياب)، هي تنويعات شعرية في تشكيل مفهوم الغياب. هناك الغياب-الحدث كإغماضة العين، الغفو، الحلم، وهي أفعال يقوم بها الشاعر، وهناك الغياب-التعريف الفلسفي، فتقدم القصيدة تعريفات عنه: الغياب هو فقدان الاسم، هو الحضور المعلق بالريح عند خط الأفق، الغياب لا يمضي ولا يعود، هو ظلٌ للوقت، وخوفٌ بلا معنى.

في قصيدة (أفكر في الأبد ماشياً) يحضر الزمن أيضاً، لكنه الزمن الجسدي: "أعرف أن خطوي لا ينتظم، وقد تفر مني خطوة بلا فائدة أو تضطرب حركة ذراعي فيرتبك توازني مع ما يحيط بي من هواء"، أيضاً يحضر الزمن كوصف للحبيبة: "تصيرين زمنا".

تمارين على الجدوى.jpg

 

المدينة برسم الخوف:

القسم الثاني من المجموعة يضم خمس قصائد تفتتح بقصيدة (المدينة برسم الخوف)، ومن هنا يبدأ حضور معالم التجربة السورية منذ عام 2011، وخصوصاً جوانب العنف، الحرب، الموت، وآثار كل ذلك. يظهر الدمار في مطلع القصيدة: "فوق ركام البيت، يلمع غبار أليف في ضوء القمر، لا معنى يَخُّطه، إلا أن يكون شاهداً". لقد ساد غبار الدمار، وأصبح الحب والشهوة ترفاً، وكذلك العلاقات العائلية، والذهاب إلى العمل أصبح ترفاً، لقد "صارت الحرب زمناً" أيضاً التعبير الأول عن حضور الحرب يأتي بعلاقة مع الزمن" صارت الحرب زمناً".

في الحرب، لا يجد الأحياء فسحةً للتنفس، بين زحمة أصوات الرصاص والأخبار العاجلة، يصبح الموت عادةً، والحياة هي نفسٌ واحدٌ معلق، متأرجحٌ بين الألم والأمل. في الحرب، تتأنق الناس بملابسها لاستقبال الرصاص، لعيش الكوابيس التي تهوي بها المدينة على حياة الأفراد. مع الحرب، نودع المواعيد البسيطة والوقت الكسول، وتصبح استمرارية الحياة مرهونة للصدفة بين وقوع الموت والآخر، يكتب الشاعر:

"صار الغد أمراً محتملاً،

محض أخطاءٍ في التوقيت".

 

المحاولات الشعرية في توصيف الدمار:

يتابع الشاعر رسم معالم الموت والدمار في المدينة، فيختار في قصيدة (ترويض الصدفة) حادثة تبنى عليها القصيدة لتعبر عن موضوعتها، وهي حدث العودة إلى المنزل في ظل الحرب. فبينما تبث نشرات الأخبار صور الأبنية المسنودة بركامها وشوارع مهدمة النواحي فاقدة لأبسط أشكال الحياة، تصبح رحلة العودة إلى البيت الهروب من الموت، لأن الموت حاضر كأنه صورةٌ قابلةٌ أن تتوسع لتضم بداخلها الجميع.

المسافة الصغيرة التي تبعد الشاعر عن البيت في مغامرة العودة خاضعة لصدفة القذائف، خاضعة لتقلبات حدس الخائف، الخائف الذي يصر على عيش الغد، على عيش الحياة ليرويها. لكن في حضور الموت المتواتر، تضيع الحدود بين الممكن والمستحيل، ويصبح الحفاظ على الحياة عملية يعاد تعريفها في كل لحظة:

"يا أيها الغد انتظرني

ما زلت أحفظ طريق عودتي

من الموت إن أخذني،

سأعيش لأروي

كيف ضاعت خرائط الممكن والمستحيل

وصارت حدود البداهة تُرسم في كل لحظةٍ

كأن تكون العودة إلى البيت رحلةً مفتوحة الاحتمالات!"

 

الموت الهاطل مع اللحظة:

يحضر الموت بتواتر في قصائد المجموعة، كما هو حاضر في الواقع السوري، في قصيدة (وصية القاتل للقتيل)، يخاطب الشاعر الضحية، يطلب منها أن تودع نفسها أمام مرآة الخروج من المنزل كل يوم، لأن الموت قد يهطل في أية لحظة، فتتحول الضحية الميتة صورةً في نشرات الأخبار والمحطات التلفزيونية. تصوّر الضحية ملقاةً على الأرض في وسط الشارع، يتجمع حول دمائه الفضوليون الذين يتساءلون عن هوية الميت أهو من الضواحي ؟ أهو طالب؟ ناشط؟ أم عابر سبيل سيئ الحظ ؟ لكن جلّهم سيدرك أن هذه الضحية-الشهيد، ليست إلا ذاتهم التي يخافون حملها في أية لحظة.

الزمن الممتد بين قناصين:

كما يحضر الزمن كموضوعة في القصائد المكتوبة قبل الحرب، يحضر الزمن أيضاً في القصائد التي تعبر عن الحرب. يتجلى ذلك في قصيدة (قنص الوقت لحظةً لحظة)، والتي تأخذنا إلى حكاية قناص، يصف الشارع الذي يمتد أمامه، يحفظه أكثر من وجهه، كل نافذة أو باب أو فتحة مكمنٌ، يقول القناص: "أردي الهواء إن تحرك، قناص الطرف المقابل نمّى المهارة ذاتها، ما عاد يخطئ النفس الطالع مني"، وتصبح القصيدة وكأنها تنوس بين قناصين، كلاهما يحلم بأن يتحرر من سلاحه، أن يصبح نظيفاً مكوي الثياب كصبيحة العيد، أن يصبح أليفاً مع المكان وأهله. القناص وقناص الطرف المقابل يتشاركان الرغبة بالنسيان، بالخلاص من خيالهم المتكلس من احتراف الموت.

إيقاع القصيدة، إيقاع الرصاص:

كذلك يرتكز الشاعر على مفهوم المكان كوسيلة للتعبير عن تجربة الحرب، وذلك يظهر جلياً في قصيدة (الخطوة الواحدة بعد الألف)، التي يتوه فيها العابر عن طريقه، لأن معالم المكان مهدمة، وحده الموت يحفظ خريطة الدمار. يصف الشاعر المكان حيث هناك الحيُّ الهارب من الموت بين سفوح الهدم، هناك الدم الناعم اللامع الفالت من أصحابه على إسفلت الشارع، وهناك الأم الحائرة كيف تبعد أولادها عن جهة الموت، وهناك الشاعر ذاته، كاتب القصيدة وأحد شخصياتها، يصف الشاعر حاله وهو يكتب القصيدة في ظل هذا الدمار، هو يتعلم الخوف مما يجري حوله، يفكر بإيقاع القصيدة المتقطع الذي يشبه إيقاع الحياة من حوله، يرنم إيقاع القصيدة على صوت الرصاص المنتشر في المدينة.

دوماً ما تتلازم موضوعتا الحرب والحب، وفي هذه القصيدة بينما بلادٌ بكاملها تغير عناوين سكانها، في إشارة إلى ظاهرة الهجرة والرحيل، فإن الشاعر يحلم بكفيه يحملان نهد الحبيبة، يموجان شهوةً، يتأمل الشاعر الشهوة لحظة بزوغها، يحدث هذا المشهد العشقي الجنسي بينما يرثي شعبٌ زمانه تحت قوس التاريخ.

الهروب من الحرب إلى الحب يحدث ليلاً، حين يستحضر الشاعر امرأةً أصغر من عمرها، فتضرب الحياة لحظاته بالقشعريرة. وتتابع القصيدة على تيمة الليل في الحرب:

"في الليل متسعٌ لأقنع نفسي بالنجاة..

أهرب من قاتلي

من انطباعه العاطفي على جثتي،

غضبِه ورائحة سلاحه،

تعبِه ورذاذ عرقِه المالح،

خيال غريزته مفتوح الحدود،

ومن صورة خوفه

يتركها عليّ.."

القصيدة هي مونولوج في ذهن الشاعر، هي حدسه، محاولته البحث عن ذاته عبر الشهوة والحب، ومحاولته البحث عن معنى. لكن المعنى مرتبط بالمكان، هو في الجهة المقابلة: "هناك في الجهة الأخرى معنىً، كلما اكتمل اختفى!"، لكن التوجه إلى المعنى مستحيل، لأن الخطو نحوه يهبط في الفراغ. صورة سيزيفية – نسبة إلى أسطورة سيزيف – في محاولة الإنسان الحثيثة للعثور على المعنى، بلا جدوى، السعي يصبح دائرة من فراغ، يدور بين السعي والإخفاق، ليصبح المعنى هوس.

ذكريات من الانفجار:

القسم الثالث من قصائد المجموعة يرتبط بموضوعات الرحيل، والهجرة، والمنفى. قصيدة (مونولوج لخارجين من دمشق) هي دخول إلى ذهن الخارجين من الحرب، فما زالت ذكريات الموتى تلاحقهم، يخرجون لهم من الصور ومن ركام البيوت. الخارجين من الموت يلاحقهم الخوف، القلق النابع من جريان اللحظة. خارجين من دمشق وما زالت أحلامهم تتمحور حول احتساء القهوة في الصباح والعودة إلى البيت سالمين، ما زالت تجارب عيش الانفجارات تلاحقهم، الانفجار وأثره في المكان من حولهم وأثره في ذاكرتهم:

" كل شيءٍ شعّ لحظة الانفجار

   صار المكان نجماً

   ظلّه انعكس على الغيم..

   خبا من بعدها

   وخبا

   حتى تحسست ثقباً أسود في ذاكرتي".

وإن كانت القصيدة السابقة عن الأمل، فالخارجون من دمشق، هم أولئك الحالمون بأن يتغير الحال، أن يقدر الكلام على فتح الدروب في المستقبل، أن يعطوا لما انهد من أعمارهم معنىً غير العبث. فإن قصيدة (لا الصامتة) هي عن إحصاء الخسارة، عن الخوف الملاحق للناجين، الحائرين في أسئلة المصير، ما زالوا يحتفظون بأسمائهم إلا أنها خلت من الدلالة والمعنى، تطيح بهم الخفة بين مقاعد الحدائق المقابلة لوكالات الغوث. إنهم اللاجئون الذين يتعلمون دروس التأقلم بين انتظار وخوف، تقول القصيدة:

"لسنا نحن اللاجئين

هي البلاد التي رحلت!

ونلوب نلوب؛

إمبراطوريةً تمشي على قدمين".

قصيدة (نبيٌ ملقىً على الشاطئ) تذكر الصورة الافتتاحية فيها بحادثة غرق الطفل السوري إيلان على شواطئ مدينة بودروم التركية، غارقاً ممتلئا بالماء. يسأل الشاعر القارئ، هل رأيت الغريق على الشاطئ ؟ الزبد الناعم الذي يحمله ؟ هل أحسست بالصفعة ؟ يرسم الشاعر مجدداً هذه الصورة في ذهن القارئ، ومن ثم تتابع القصيدة في وصف الحرب، كشتاء رياحه تحمل القذائف والرصاص، ومن ثم يستخلص الشاعر حكمته عن الحرب:

"فلا عبرة ترجى من الحرب

الناجون منها يتمنون اليوم لو قضوا فيها

لطول الموت الباقي أمامهم".

قصيدة: قراءة صوتية لقصيدة (نبي ملقى على الشاطئ)

 

بيروت حقائق مؤقتة بلا أدلة:

تحضر بيروت بوضوح في تجربة منفى الفن السوري، فالعديد من الخارجين توجهوا إليها كمحطة أولى، قصيدة (أثر الزئبق في القلب) هي عن التجربة البيروتية في حياة الشاعر: "أترك بيروت كما أترك قبلة امرأةٍ لم أحفظ ملامح وجهها، لست أول الغرباء ولن أكون آخرهم، والغريب حتى إن جاء مرةً أخرى، هو غريبٌ مرة أخرى". في القصيدة تجربة الشاعر الحياتية والفكرية في بيروت، وكذلك وصفاً لأسلوب عيشه في المدينة، وكذلك رؤيته عن المدينة بيروت:

"بيروت حقائق مؤكدة، ولا دليل على أي منها

بيروت.. كيف يبدو وجه الحرب بعد الحرب؟

مسرح الأغنياء والفقراء، القتلة والضحايا"

 

يصف الشاعر بيروت بكونها مدينة من كذبٍ وأغانٍ، ثمة أغان فيها لكل لحظة تمر، لكن الزمن فيها ليس خطياً، إنه بئر لا يبلغ قعره، لأن بيروت بكل ما فيها تسقط بلا توقف: "بيروت خيبة واستشراقٌ نكتبه في رسائلنا لأصدقائنا الأجانب. لاجئون ومنفى، أناسٌ وحربٌ في غفوة". وفي النهاية يخاطب الشاعر المدينة بيروت:

"أحب كتابة اسمك:

بيروت

ثمة من يحبك

ويذوب فيك كقبلة عابرة

صادقة في نفسه".

القصيدة الأخيرة (من رسائل الأب الغائب) هي رسائل الشاعر الغائب إلى ابنته، يصف لها التجربة التي يعيشها. يصف الوقت، والدقائق والثواني واللحظات، الأيام وناسها، ليخبرها بأن بلاد بكاملها انقشعت، كالضباب تماماً يصف لها أثر العنف على نفسه: "تابع العنف شغله اليومي فيً،

حداداً رقق وجودي

كأن بعضي حيٌّ وجلّي عدمٌ

فلُبتُ خلف أي أثر".

في القصيدة نبرة اعتذار من الأب الغائب لابنته، يبرر لها نفسه كأبٍ منهوبٍ بدهشة غامضة، يتعثر يتردد يخاف ويخجل. إنها ليست تلك الأبوة المكتملة البائسة وغير القابلة للتردد، إنها أبوة مجبولة بالشهوة: "كل مرة كأول مرة، تنبع شهوتي". إنها أبوة مهنة الشعر التي تصدق الخيالات الرهيفة، وتسعى لاختلاق الكلمات في توصيف الإنسانية، التي تستمر في الاقتتال. الأبوة التي تسعى إلى المثال، فتكذب نشرات الأخيار وكذلك صور الحياة المطابقة لها.

يصف الأب في رسالته إلى ابنته تجربة الحرب، الموت الغاضب المسعور الصاخب في الشوارع ينحط من كل الجهات، ليلٌ ينسلُ من القذائف والرصاص، يخبرها عن حال النزوح والهجرة إلا أنه يعلن بأنه سيسعى بعد الحرب للوصول إلى معنى المجاز، التي هي الحياة. فتجربة القتال الإنساني والحرب، هي سؤال في الفكر، فالقتلى ماتوا دون سبب، وتحولت الحياة إلى معنى العبث. وفي النهاية يعلن الأب رغبته وحلمه:

"أريد أن أولد في أرضٍ كالتي خسرت،

ولتكن أكثر وداً ورقةً

أوسع مدة

أكثر عدلاً وأخف طغياناً،

أناسها لا يسرون كالغبار..و

وليكن زماني بعدها ذئباً لأروضه".