تقسيم سوريا بين طلب الاعتراف ومصالح الدّول

2023.12.01 | 06:59 دمشق

تقسيم سوريا بين طلب الاعتراف ومصالح الدّول
+A
حجم الخط
-A

من حيث المبدأ لا يختلف الإنسان السوري عن الإنسان الفرنسي أو البريطاني من جهة أنّ السوري أيضاً: حر بطبيعته وله مصالح وله الحق في الدفاع عن مصالحه ومساو لكل إنسان سوري آخر في الحقوق المدنية ضمن عقد اجتماعي. لكن الشرقيين والأفارقة كذلك متّهمون بعدم وعي "المساواة" المدنيّة فيما بينهم لعدّة أسباب؛ منها الفكر الديني ومنها الوعي الثقافي الذي لم يتمرّن بعدُ على تحديد إطار علماني- زماني لحقوق مدنيّة على مستوى الأفراد، ومن ثمّ تعيين حقوق سياسية يمكن التفاوض والتوافق حولها.

ورغم أنّ وعي الحريّة سبق نتائج علوم المادّة؛ بل هو الذي دفع إلى تطور العلوم المادّيّة التجربة العلمية المادّيّة -بحسب رأي الكاتب- إلّا أنّ منظري الوعي المادي للحريّة يعيّنون ظهوراتها قياسا على حركة المادة؛ فكل حركة مادة تعني ممارسة حريّة، أمّا غاية الحركة فإرادة صراع، ثمّ -في ضوء هذا الوعي- قرؤوا العلاقة الاجتماعيّة بين الحيوانات؛ بين الذئب والذئب الآخر، ثمّ أرّخوا للتاريخ البشري لـ "الوعي المادّي للتّاريخ".

خاض الأوروبيون معارك طاحنة فيما بينهم حتى اكتشفوا -بواسطة العقل- أنّ مصلحتهم في السّلام تفوق مصلحتهم في الحرب؛ فعملوا على تعيين مصالحهم في إطار مادّي واقعي يمكن للعقل المادّي الإحاطة بها

مثّل "هيغل" لحركة الصراع البشري لأجل الحريّة في صراع بين ذاتين اثنتين، أحدهما سيّد والآخر عبد، حيث ظلّ السّيد -الحر بطبيعته- يمارس حريّة مطلقة معتقدا أنّ الآخر موضوع محض لا إرادة له؛ حتى توصّل السيّد -من خلال العقل- إلى منفعة الاعتراف بذات "العبد" وحرّيّته؛ في حين كان "العبد" يسعى إلى نيل الاعتراف بسيادته بواسطة العمل؛ حتى اعترف السّيد بسيادة العبد!.

واقعيّا؛ خاض الأوروبيون معارك طاحنة فيما بينهم حتى اكتشفوا -بواسطة العقل- أنّ مصلحتهم في السّلام تفوق مصلحتهم في الحرب؛ فعملوا على تعيين مصالحهم في إطار مادّي واقعي يمكن للعقل المادّي الإحاطة بها، ثم طرحوا تلك المصالح للتوافق والاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات على الحق المتساوي بها في مستويين:

- الحقوق المدنيّة: ومحورها حريّة ممارسة الحقوق -المصالح- في ظل مساواة.

- الحقوق السّياسيّة: ومحورها السّلطة النابعة من حق الدفاع عن المصالح المدنيّة.

وبحسب "فرنسيس فوكوياما" فقد ظلت حركة الحريّة- التّاريخ في المجتمعات تنفي التناقضات باستمرار حتى وصلت البشريّة إلى غاية التّاريخ وذروة عدم التناقض في نموذج الدولة الديمقراطية الليبراليّة.

لكن ما الذي منع حدوث تلك السيرورة في بلادنا؛ لماذا لم نصل نحن أيضاً إلى دولة العقد الاجتماعي والحقوق السّياسيّة، دولة الديمقراطيّة الليبراليّة؟!

سنحاول الابتعاد عن نّمطيّة اتّهام الإسلام -السنّي غالبا- ونمطيّة الرد النمطي كذلك لنتحدث عن نموذج آخر على سبيل المثال:  بين الموحدين الدروز وبين المسيحيين الموارنة وفي جبال لبنان ثمة توتر ظل يظهر باستمرار منذ فترة الحروب الصليبيّة ثم خلال عهد السلطة العثمانيّة وتذكر كتب التّاريخ الحديث حرباً دمويّة دارت بينهما ما بين أعوام 1840 – 1860؛ وتجدد النزاع تحت ما سمّي بحرب الجبل 1983 - 1984؛ فلماذا لم يصل الأفراد الدروز والموارنة في منطقتنا، حتّى اليوم، إلى تعيين إطار واقعي لحقوق مدنيّة وسياسيّة مشتركة، ومن ثمّ تقاسم مكاسب سلام سياسي مشترك!؟

نحن جميعاً -المسلمين والمسيحيين، العرب والكرد والترك والفرس- بتمايزاتنا كلها متّهمون من طرف تيّار سياسي وثقافي وازن بأنّ أس مشكلتنا يكمن في المعرفة العقلانيّة، وأنّ "العقلانيّة" التي مكّنت الإنسان الغربي من تعيين حقوق مدنيّة زمانيّة "حياتيّة لا أخروية أو سماويّة" ومن ثمّ امتلاك شخصيّة سياسيّة مدنيّة للدفاع عن الحقوق؛ ثم إمكانيّة التّوافق؛ إنّ تلك العقلانيّة غير متوفّرة في الشرق؛ لذا فنحن لا نزال نخوض معاركنا دفاعاً عن مشاعرنا الدينيّة الطّائفيّة أو العرقيّة القبليّة؛ والمشاعر لا يمكن التوافق حولها!

من حيث الفعل لا شكّ أنّ التدليل على صحة الكلام السّابق ممكن؛ لكن بالمقابل ثمّة من يعتقد أنّ دول الغرب التي سبقنا -زمنيّا- إلى تعيين مصالحها السّياسيّة كانت حاضرة في كلّ صراع محلّي بيننا للدفاع عن مصالحها بواسطتنا، ثم سحب الصراع إلى نتائج تعنيها أكثر مما تعنينا!

في حرب المشاعر الدينيّة بين الموحدين الدروز والموارنة عام 1860- يذكر التّاريخ: أنّ المصالح السياسيّة لبريطانيا الليبراليّة دفعت بريطانيا إلى دعم الدروز، في حين اقتضت مصالح فرنسا اللائكيّة دعم الموارنة، وفي الحرب الأهليّة اللبنانيّة الأخيرة كانت مصالح الغرب والشرق حاضرة أيضاً!

إذن فسيرورتنا للوصول إلى نتائج الصراع تختلف عن الأوروبيين بعارض هيمنة مصالح أخرى؛ مصالح ذات سيّادة نشترك معها في هويّة عاطفيّة ما "دينيّا- عرقيّا" لكنّها ذات تدرك مصالحها السّياسيّة وتدافع عنها فيما نحن "موضوع" بالنسبة لتلك الذّات، موضوع ليس له من معاركه إلّا المشاعر الجيّاشة فقط!

وبخلاف تركيا التي خاضت حرب استقلال ما بين 1920 -1923 رسمت فيها حدود تركيا الجنوبيّة فإن حدودنا الشماليّة والجنوبية والشرقيّة والغربيّة، بل حتى تقسيم سوريا الكبرى -بلاد الشّام- كلّ ذلك رسمه البريطانيّون والفرنسيّون بحسب مصالهم السّياسيّة لا بحسب صراع محلّي على المصالح؛ إذ ما مصلحة الدروز في تقسيمهم أرضاً وشعباً في أربع دول وما مصلحة موارنة لبنان في الفصل بينهم وبين كنيسة القيامة بحدود لبنان- فلسطين!

حاجتنا -نحن السّوريين- لوعي تناقضاتنا وعقد توافقات سياسيّة حولها لبناء شخصيّة سياسيّة حاجة أوّليّة وأكيدة؛ لكن مصلحتنا بالوصول إلى تلك الشّخصيّة قد لا يكون مصلحة أكيدة لغير السّوريين؛ وقد لا يكون الصّراع المحلّي كافياً لينتهي بالاعتراف المتبادل بين أصحاب الصراع؛ بل قد لا يكون ذلك الصّراع – دائماً- معبّرا عن تناقض ضدّي بين مجتمعات محلّيّة تسعى إلى نيل الاعتراف بمصالحها فحسب؛ ولعلّ من الواقعيّة اليوم الكلام عن مدى تأثير تناقض مصالح دول روسيا وإيران وأميركيا وتركيا في سوريا على مصيرنا شعبا وجغرافيا؛ بالمقابل فإنّ مبالغة بعضنا بالمطالبة باعتراف السوريين الآخرين تماما كاتّهام بعضنا لسوريين آخرين بالخيانة: كلاهما مبالغة في تقدير الذات وتجاوز لطلب "المساواة" بتأكيد اللا مساواة، وفي ظل غيابنا جميعا عن تمثيل مصالحنا سياسيّاً قد يخدم سلوكنا مصالح سياسيّة لدول أخرى من مصلحتها هي -لا مصلحتنا- أن يتم تقسيمنا!

المشاعر النبيلة جيدة على أيّة حال لكنّ إقناع طرف سوري ما بأهميّة وحدة سوريا كخيار سياسي مرهون بمدى تحقيق المصلحة المشتركة -على مستوى الأفراد والجماعات- من مكسب الوحدة

قبل أيّام تجاوزت انتفاضة السّويداء الأخيرة ضد نظام الأسد أيّامها المئة؛ ولم يختلف خطاب نظام الأسد تجاه حريّة السوريين عنه في أي يوم سابق من أيّام ثورة السوريين لأجل حريّتهم وكرامتهم؛ ولمّا لم يتمكن النظام من اتهام السويداء بالإرهاب فقد عزفت أبواق قريبة منه على معزوفة "تمزيق سوريا" متناسين أنّ واقع تقسيم سوريا اليوم إلى أربع أو خمس مناطق نفوذ أسهم النظام المجرم واللا وطني في فرض أكثر تفاصيله.

وفي الرد على مثل هذا صدرت تعبيرات عديدة عن أهل السّويداء مثل كلمة قالها الشّيخ حكمت الهجري: (خوفنا أن تُقسم البلد.. نحن ضد أي نوع من أنواع التقسيم أو الانفصال..) وطالب الشّيخ بدولة مدنيّة علمانيّة.

المشاعر النبيلة جيدة على أيّة حال لكنّ إقناع طرف سوري ما بأهميّة وحدة سوريا كخيار سياسي مرهون بمدى تحقيق المصلحة المشتركة -على مستوى الأفراد والجماعات- من مكسب الوحدة؛ أمّا توقّع أنّ اتّهام جماعة سوريّة بالخيانة سيخدم وحدة سوريا فلعلّه توقع غير مبرر برأينا؛ بل لعلّه سلوك يخدم الدفع بالفعل باتّجاه قبول التقسيم كأمر واقع؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ خيار "التقسيم" ليس ضمانة أكيدة لتحقيق حريّة وسيادة ومساواة الأفراد السوريين في الجغرافيا الممزّقة.