تقاطعات إيرانية أميركية.. ضرب السنية السياسية والقضايا العربية

2019.06.12 | 23:33 دمشق

+A
حجم الخط
-A

منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، كانت تختزل طهران وجهين سياسيين لمشروعها في المنطقة. يرتكز المشروع على مبدأ تصدير الثورة، فحملت ولاية الفقيه شعار الدفاع عن الأمة الإسلامية، وهذا بحد ذاته عنوان يتعارض مع عنوان آخر أيضاً بقي في صلب النموذج الإيراني، وهو الدولة القومية. استخدمت طهران العنوانين لإنجاز مشروعها، فخطاب الأمة الإسلامية وحمل هموم المنطقة موجه للعرب والجوار، والدولة القومية موجودة في أساس التركيبة الاجتماعية والسياسية في الداخل الإيراني، وقابل للاستخدام في أي مفاوضات مع الغرب وخصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية.

في ظل الموجة العالمية الحاصلة اليوم، والتي تفرض على الدول والمجتمعات العودة نحو إحياء مفهوم الدولة القومية، تجد طهران نفسها أيضاً عائدة في هذا الاتجاه، فيغيب عن خطبائها التركيز على مسألة الأمة الإسلامية، ويستبدل التهديد الذي تتعرض له هذه الأمة، بأنه تهديد تتعرض الطائفة الشيعية، أو الدولة القومية الإيرانية. ولكن أيضاً لا تغفل طهران الاحتفاظ بشعارها الأساسي وهو الدفاع عن الأمة الإسلامية، وذلك لخدمة السياق السياسي لمشروعها، عبر استمرارها في دعم حلفائها بمختلف دول المنطقة.  

تظهر التطورات على مدى السنوات الفائتة، أن ثمة تناغماً إيرانياً أميركياً قد حصل وتجلّى في منطقة الشرق الأوسط، ولا تتوانى طهران عن المراكمة دوماً على هذا التناغم، والذي يقوم على مبدأ أساسي، وهو التوجه ضد الإسلام السياسي السني، وهذا التقاطع حصل في أفغانستان، العراق، وضرب الثورة السورية.

والمسار السياسي الذي سلكته إيران لتحقيق مشروعها في المنطقة، لطالما ارتكز على افتقار العرب لأي مشروع جامع وبديل ويحاكي تطلعات الشعوب، في مقابل مراكمتها لأوراق القوة التي تخولها الدخول في مفاوضات مع الغرب وخاصة مع الأميركيين لتحسين شروطها، وهذا ما حصل منذ بدء التحضير للاتفاق النووي، والذي بدأ عملياً وسياسياً منذ العام 2001، أي في مرحلة التحضير الأميركي لاجتياح أفغانستان والعراق. يومها باعت إيران بيعتها الكبرى لواشنطن، فسمحت باستخدام الأجواء الإيرانية من قبل الطائرات الأميركية، ولم تعمل على حشد مؤيديها لمواجهة الغزو الأميركي، فساعدت طهران بإسقاط هجوم طالبان.

والمسار السياسي الذي سلكته إيران لتحقيق مشروعها في المنطقة، لطالما ارتكز على افتقار العرب لأي مشروع جامع وبديل ويحاكي تطلعات الشعوب، في مقابل مراكمتها لأوراق القوة التي تخولها الدخول في مفاوضات مع الغرب وخاصة مع الأميركيين لتحسين شروطها

 وكذلك بالنسبة إلى العراق، إذ معظم مكونات المعارضة العراقية الذين اجتمعوا مع الأميركيين تحضيراً للغزو، كانوا من المحسوبين على إيران، بينهم حزب الدعوة وأحمد الجلبي وغيرهم. هذه اللقاءات التي كانت تحصل في لندن، لم تكن لتتم لولا وجود ضوء أخضر إيراني، ولم يصدر أي موقف إيراني سلبي من هذه اللقاءات، التي وصلت إلى توافق وتكامل إيراني أميركي على توحيد المعارضة العراقية لتوفير الغطاء للغزو الأميركي. خاصة أن واشنطن كانت بحاجة إلى هذا الغطاء، في ظل غياب قرار من الأمم المتحدة.

 كانت طهران عاملاً مساعداً للغزو وليس معرقلاً له، ومع بدايته بدأ يظهر الدخول الإيراني إلى العراق، خاصة أن من وصل إلى السلطة كانوا محسوباً على الأميركيين والإيرانيين معاً. وهذا المسار هو الذي أنتج سيطرة إيرانية على عدد من الدول العربية، لتتجلى هذه السيطرة في المرحلة القصيرة التي سبقت توقيع الاتفاق النووي مع إدارة باراك أوباما، ولا تزال مستمرة إلى هذا اليوم. وكان واضحاً أن توقيع الاتفاق النووي يأتي كثمن للنفوذ الإيراني في المنطقة.

مع مجيء دونالد ترمب، وانسحابه من الاتفاق، بدا السلوك الأميركي في التعاطي مع ايران قد تغيّر، صحيح أن المعالم النهائية له لم تتضح بعد، ولكن بلا شك أنه لا يمكن إغفال طموح الطرفين إلى بناء عامل للثقة بينهما، وهذه ستكون بحاجة لمسار سيأخذ وقتاً، خاصة أن ترمب يريد إيران والخليج معاً، وهو قد انسحب من الاتفاق تحت تأثير الضغوط الخليجية وتحصيل المزيد من المكاسب، لكنه أيضاً يطمح إلى عقد اتفاق جديد مع إيران. 

وفي حين رسخ الدخول الأميركي إلى أفغانستان والعراق نفوذاً إيرانياً لا يزال قائماً إلى اليوم، فبلا شك أن التطورات التي تشهدها المنطقة العربية حالياً والنية إلى فتح مفاوضات لتوقيع اتفاق نووي جديد، سيؤدي أيضاً إلى ترسيخ نفوذ إيراني في بعض الدول الأخرى، كلبنان وسوريا واليمن، فلم تكن إيران قادرة على الاستمرار في سوريا لو لم يكن هناك توجه دول واضح لذلك. وفي سبيل الوصول إلى هذ الاتفاق الجديد، بدأت إيران بتقديم رسائل معينة تجاه الأميركيين، من خلال المساعي اليابانية، السويسرية، والأوروبية كذلك، مقابل تصعيد بوجه دول الخليج تجلى بالعمليات العسكرية التي استهدفت السعودية والإمارات، بالإضافة إلى تطور قد حصل بشأن الموقوفين الأميركيين في إيران والإيرانيين في واشنطن، وهذا ملف كان قد فتحه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قبل فترة في لقائه مع محطة فوكس نيوز الأميركية إذ أشار إلى أنه يمكن للمفاوضات أن تبدأ بالإفراج عن المعتقلين.

وفي حين رسّخ الدخول الأميركي إلى أفغانستان والعراق نفوذاً إيرانياً لا يزال قائماً إلى اليوم، فبلا شك أن التطورات التي تشهدها المنطقة العربية حالياً والنية إلى فتح مفاوضات لتوقيع اتفاق نووي جديد، سيؤدي أيضاً إلى ترسيخ نفوذ إيراني في بعض الدول الأخرى

 على ما يبدو أن إيران أرادت تقديم إشارة إيجابية في هذا الصدد تجلّت بالإفراج عن المعتقل اللبناني في سجونها نزار زكا، في توقيت لافت، خاصة مع ترحيب أميركي بهذه الخطوة، وأمل بالإفراج عن معتقلين آخرين. أرادت طهران من هذه الخطوة أن تقول لواشنطن إنها جاهزة لتقديم تنازلات، وبلا شك أيضاً أن إيران تستخدم لعبة الاستثمار بالوقت، لتحقيق أمرين، حصول ليونة إيرانية داخلية من الناحية الإيديولوجية والأمنية، وحصول ليونة أو تغير في الأداء الأميركي تجاه إيران، سواء بفعل عوامل سياسية او انتخابية. وأشارات التغيير الإيرانية تم إيصالها للأميركيين، سواء في مرحلة توقيع الاتفاق النووي في العام 2015، أو في بعض المساعي التي تقوم بها طهران حالياً من خلال إطلاق سراح نزار زكا والتي قد تفتح الطريق أمام مفاوضات بشأن موقوفين آخرين.

 خطوة الإفراج عن زكا، ستكون مقدمة لفتح باب جديد للتفاوض مع واشنطن، وإذا ما كان العراق وأفغانستان هدية إيرانية للأميركيين طمعاً بتحقيق نفوذ إيراني فيهما، فإن الهدايا الإيرانية ستتوالى في المنطقة للأميركيين، على أن تحصل طهران على المكاسب لاحقاً. وهنا تلعب إيران بطريقة أساسية موجهة للغرب خاصة للأوروبيين والاميركيين عبر إعادة تعزيز مفهوم الدولة القومية لديها، وهذا سيفرض عليها اللجوء إلى الانكفاء بصمت، ومن دون تقديم تنازلات ظاهرة، بحيث لا يمكن اكتشافها سريعاً، بل بعد مرور أشهر على هذه التنازلات. وهذا ربما يمكن التقاطه من خلال بعض التطورات على الساحة السورية، أولاً عبر غياب أي تأثير إيراني عن مجريات معركة إدلب، أو عن انسحابات إيرانية ولحزب الله من بعض المناطق والميادين، بالإضافة إلى توسيع القبضة الروسية على مفاصل النظام الأمنية والسياسية والعسكرية. 

أي صفقة أميركية روسية مع إيران، ستكون إسرائيل شريكة فيها بشكل غير مباشر، وستمثل القضاء على القضية السورية. وليس بالضرورة للذهاب إلى صفقة القرن هذه، أن تتخلى إيران عن خطابها الإيديولوجي المعادي لواشنطن وتل أبيب

ما يجري بين إيران وأميركا من تصعيد حيناً ومن مفاوضات أحياناً، يصح أيضاً أن يطلق عليه صفة "صفقة قرن" ستعقد في النهاية بين الطرفين، وقد تكون هذه المرة أشمل من صفقة العام 2015، وهذه الصفقة بلا شك ستكون مرتبطة بصفقة القرن الأخرى والتي ستقضي على القضية الفلسطينية، بينما أي صفقة أميركية روسية مع إيران، ستكون إسرائيل شريكة فيها بشكل غير مباشر، وستمثل القضاء على القضية السورية. وليس بالضرورة للذهاب إلى صفقة القرن هذه، أن تتخلى إيران عن خطابها الايديولوجي المعادي لواشنطن وتل أبيب، بل تحتفظ بتلك اللغة، علناً مقابل ممارسة سياسة مختلفة كلياً، إذ ستمارس ايران لعبة حافظ الأسد، في إعلان العداء العلني لإسرائيل مقابل الالتقاء معها على اتفاقات ضمنية كما كان حاصلاً بخصوص الجولان، وهو يتكرر اليوم. والمسألة الأساسية في استمرار إيران على خطابها الإيديولوجي النزعة، والذي سيعود بالمنفعة عليها وعلى واشنطن في آن، هو استمرار استهداف العرب داخل بيئتهم العربية واتهامهم بالتخاذل، مقابل أن تستثمر واشنطن بالفزاعة الإيرانية للدول العربية، وتبقى تلعب على تناقضات تأبد سباق التسلّح، وتبقي العرب في حاجة دائمة إلى حماية أميركية من بعبع ليس بعيداً عن سياسة واشنطن.