icon
التغطية الحية

تعسُّف موسيقا مارسيل على موسيقا درويش

2022.07.06 | 13:01 دمشق

درويش مارسيل
+A
حجم الخط
-A

رافقتنا أغاني مارسيل خليفة أو رافقناها زمناً طويلاً، بل ربما منذ نجومها الأولى التي أضاءت في عتمة ليالينا، وحتى خفوتها أو خُبُوِّها، بدلاً من زيادة توهّجها، مع اندلاع انتفاضات الشعوب العربية التي حكَّت معادن كثير من المبدعين، في الكتابة والغناء والموسيقا والتمثيل، ليتضح أنها معادن تنطوي على نِسَب ليست قليلة من عدم دقة المواصفات المعروفة عنها أو المتوقّعة أو المأمولة، الأمر الذي أبعد جزءاً كبيراً من جمهور مارسيل عنه، إن لم نقلْ أبعد مارسيل عن جزء كبير من جمهوره، وذلك ما ينطبق على كثير من المبدعين وليس على مارسيل وحده.

لن أدخل هنا في مدى صواب أو خطل ربط شخص المبدع ومواقفه وسلوكاته وأخلاقه بمنجزه الإبداعي، ولكني في الوقت نفسه لا ألوم من يقول إنه كان يحب كل ما أبدعه مارسيل أو زياد الرحباني مثلاً ثم لم يعد الآن يستطيع سماعهما، وقد حدث ما يشبه ذلك في حقل الشعر مع أدونيس مثلاً، حين وصمَ جميع المتظاهرين الذين يخرجون من مساجد سوريا بأنهم مرتزقة، بدون أن يكترث لتناقضه مع نفسه حين أطلق وصْفَ الثوار على أولئك الذين خرجوا من مساجد إيران عام 1979. وحدث مثل ذلك وأكثر على صعيد الممثلين والمغنين والمفكّرين. ولكن مع مرور الزمن هناك ما يذهب وهناك ما يمكث. قد يكون المتنبي أحد أبرز الأمثلة على ذلك، إذ تلاشت مثالبه كشاعر بلاط، وبقي شعره، وحدث مثل ذلك مع موسيقيين عالميين ومفكرين وقفوا في حياتهم مع النازية، ولكن الأجيال اللاحقة لم تجد نفسها معنيَّة بغير إبداعاتهم.   

وعلى الرغم من كامل قناعتي بهذه المقدمة المكثَّفة، فإني لا أبني ما سأتناوله في مقالتي على أساسها، فالأمر يراودني منذ سنوات بعيدة لم يكن فيها ما ينبض حينئذ سوى المقاومة الفلسطينية.

كنتُ وما زلت أرى أن مارسيل خليفة ملحن بارع لقصائد محمود درويش، وإن كانت الثورة السورية أفقدتني كثيراً من الدوافع للاستماع إلى تلك الأغاني، ولكن تلك البراعة لم تحُلْ من استثناء واحد على الأقل، وهو ما سأكتفي بتسليط الضوء عليه، أعني تلحينه لقصيدة "أجمل حب" التي يقول فيها درويش: "كما ينبت العشب بين مفاصل صخرهْ/ وُجِدْنا غريبين يوماً".

لقد مارس مارسيل في تلحين هذه الأغنية نوعاً أو أنواعاً من التعسف على أكثر من مستوى، بدءاً من الرتم السريع الذي اختاره لإيقاع هذه القصيدة أو للإيقاع بها، مروراً بتقطيعات الكلام ونبراته ووقفاته في أماكن تعسَّفَ فيها على موسيقا القصيدة، فخطف بعض الحروف التي تقتضي الإشباع، وأشبع بعض الحركات كما لو أنها حروف ليْنٍ ومدّ، فأخرجَها عن نبرها الصحيح لتتناسب مع لحنه المحتفل بنفسه لا بالقصيدة، وانتهاء بتغيير شطرة "وُجِدنا غريبين يوماً" لتصبح "معاً" بدلاً من "يوماً"، وهو ما كسر الوزن الشعري بما يناسب الإيقاع المسبق للحن وتقطيع الكلمات والحروف في غير مواضعها. جرّبوا أن تغنوا هذه الشطرة كما هي في الأصل "وُجِدنا غريبين يوماً" لتكتشفوا أن رتم اللحن قد انكسر. ولأن مارسيل أدرك ذلك فقد خطف حرف الألف في كلمة "وُجِدنا" كما لو أنه فتحة، وأشبع حرف النون في لفظة "غريبين" كما لو أنها "غريبيني"، وذلك فضلاً عن اضطراره إلى تقسيم الكلمة إلى مقطعين هما "غريبي+ ني".

كلمة "يوماً" التي غيَّرها مارسيل تتألف من حركة فسكون ثم حركة فسكون /ه/ه، في حين أن الكلمة البديلة "معاً" تتألف من حركة حركة سكون //ه. وقد أكمل مارسيل لحنه على نفس هذا النسق القلق حتى نهاية القصيدة حيث يقول درويش "وُجِدْنا غربيين يوماً.. ونبقى رفيقين دوماً". من الواضح أن درويش أراد اختتام قصيدته بغنائية عالية مدعَّمة بقافيتين تنطوي عليهما اللفظتان "يوماً + دوماً"، ولكن مارسيل اضطر من أجل التناغم مع قلق لحنه أن يتخلى عن تناسب القافيتين، فيقلب "يوماً" إلى "معاً" كما فعل في مطلع القصيدة، كما اضطر إلى أكل الألف المقصورة في فعل "ونبقى".

وما دام اللحن الذي في ذهن مارسيل لا يقبل تعديلاً، فإنه لم يكن هناك بُدّ من تعديل الكلام.

ربما لو سمعنا موسيقا الأغنية بمعزل عن الكلمات لاختلف التلقي.

وعلى الرغم من أن ملاحظاتي شعرية أكثر منها موسيقية، فإني أستطيع القول، وإن شئتم الحدس، بأن همّ مارسيل في هذه الأغنية كان منصباً على فانتازيا التلحين، ولو على حساب القصيدة، الأمر الذي يمكننا تلمّسه في تلك الحالة من التحدي الاستعراضي في التنقل بين المقامات، إذ بدأ الأغنية بمقام العجم، لينتقل منه إلى مقام الرصد فالبيات، وينتهي مع مقام الكرد، في نوع من التمرّد على القاعدة التي ترى أنه إذا بدأت الأغنية بمقام ما، فإنه يجب الرجوع إليه في النهاية أياً تكن التلوينات والمقامات التي تخلَّلت اللحن. بالتأكيد ليس هذا هو التمرد الموسيقي الوحيد لمارسيل، لا بل هو السائد في أغانيه، وأنا أجد نفسي أميل إلى هذا النوع من التمرد وكسر القواعد في الموسيقا، فإن كانت الموسيقا مقرونة بكلام فينبغي عندها عدم الإخلال بأصول الكلام حتى لو اقتضى الأمر تغيير أو تعديل الموسيقا، وقد تصرَّف مارسيل في هذه الأغنية بما هو ليس حقاً حتى لو قال إن صاحب القصيدة لم يعترض. وليس الموسيقار والمغنّي محمد عبدالوهاب أسوة حسنة حين غنى قصيدة "لستُ أدري" لإيليا أبي ماضي، فاستبدل بلفظة "قدّامي" لفظةَ "أمامي" التي كسرت موسيقا الشعر.