تحولات النسوية

2023.07.15 | 05:15 دمشق

تحولات النسوية
+A
حجم الخط
-A

ما زال صوت الحركة النسوية العربية صاخبا، وهو صخب ناتج -فيما يبدو- عن كونه صدى بعيدا لنظيرتها الغربية التي تعد الأب الشرعي (الأم الشرعية تعبير ألطف قياسا إلى توجهات الحركة وأهدافها) للحركات النسوية في العالم. هذه النبرة المرتفعة قد تكون نتيجة لحيوية الحركة ونشاطها في المركز الغربي الأوروبي قبل أكثر من عقدين، فلم يصل إلى عالمنا العربي الخفوت أو الضمور الذي تعانيه الآن الحركة النسوية في مركزها الأوروبي، ولا النقاشات التي تتناول أسبابه، وهذا ما يفسر النبرة العالية الواثقة التي تظهر بها النسويات العربيات.

والضمور الذي تشهده الحركة النسوية الغربية هو ما أفضت إليه التحولات التي أصابتها في العقود الماضية، وهي تحولات من المستحسن الوقوف عندها لإظهار التأثير السلبي الذي كان لها في أدوار الحركة النسوية وشعبيتها. حين ظهرت الحركة النسوية في ستينيات القرن العشرين كانت إحدى الحركات التقدمية الأخرى التي انبثقت في ذلك العقد، وكانت الحركة السياسية الوحيدة التي تضع أولوية لها مواجهة الاضطهاد الذي تتعرض له النساء والفتيات في ظل مجتمعات بطريركية متفاوتة في درجة قمعها أو بطريركيتها. ولكن الانحراف عن هذا الهدف حدث في تسعينيات القرن العشرين نفسه حين تبنت الحركة مفهوم التقاطع أو التشارك، وكان هذا التصور ينطلق من ضرورة تسليط الضوء على أشكال القمع المتعددة التي تتعرض لها النساء في أسفل السلم الاجتماعي، فتعطى أولئك النسوة الأكثر عرضة للتمييز والاضطهاد أولوية، بسبب تراكم أنواع عدة من القمع غير قمع المجتمع البطريركي، كاللون والعرق والطبقة..إلخ.

كان الرأي الذي تبنته النسويات أن الحركة ينبغي أن توسع مروحة عملها بحيث يشمل التقاطع مختلف أنواع الاضطهاد، ويسلط الضوء على الكيفية التي تترابط بها أشكال عدم المساواة فتؤدي إلى زيادة الاضطهاد ومراكمة أسبابه وتعميق نتائجه

غير أن مفهوم التقاطع سرعان ما انزاح عن هذا الشكل الأولي ليعني إبراز التشارك بين مختلف أنواع الاضطهاد التي تتعرض لها الفئات المهمشة الأخرى، فلم يعد مقتصرا على النساء وحدهن، وكان الرأي الذي تبنته النسويات أن الحركة ينبغي أن توسع مروحة عملها بحيث يشمل التقاطع مختلف أنواع الاضطهاد، ويسلط الضوء على الكيفية التي تترابط بها أشكال عدم المساواة فتؤدي إلى زيادة الاضطهاد ومراكمة أسبابه وتعميق نتائجه.

مع بداية الألفية هيمن التصور القائم على التقاطع أو التشارك بصيغته الجديدة على الحركة النسوية الغربية، وبرزت هذه الهيمنة في النقد اللاذع الذي وجهته النسويات المعاصرات للأجيال السابقة من الناشطات والمنظّرات النسويات، أي: اقتصار الأجيال السابقة على الدفاع عن حقوق المرأة في مواجهة العنف الذكوري وتجاهل الحديث عن أشكال الاضطهاد الأخرى، ومن هنا ظهرت مقولة أن الحركة النسوية إما أن تكون تشاركية وإما فلا.

من الإنصاف القول إن الحركة النسوية كانت تتعاطف مع الفئات المهمشة، لكن ما حدث في العقدين الأخيرين أن الحركة نسيت هدفها الأساس وشرعت بالدفاع عن فئات أخرى، ويظهر هذا في انحراف الحركة النسوية الغربية عن مسارها وتوجهها نحو تبني اصطلاح التشارك لمساندة هويات جديدة بدأت تجد حضورا واسعا في المجال العام، كالمثلية الجنسية والتحول الجنسي، ووصل الأمر ببعض المنظرات إلى القول إن "البغاء" هو "عمل" ينبغي الدفاع عنه، وأن من الضروري عدم تجريم تجارة الجنس لأنها عمل كباقي الأعمال، ولا يجب النظر إليها بازدراء، لأن تجريمها هو ثمرة النظرة المتعالية المستندة إلى  تصور بطريركي يؤمن بوجود سلم قيمي للأعمال، وهو سلم أخلاقي يرسخ النظرة الذكورية، ولذلك ينبغي هدمه كما ترى النسويات.

أتى هذا الانزياح نحو تبني الهويات الجديدة انسجاما مع تقدمية الحركة النسوية، ومع سياسات الهوية التي تبناها اليسار منذ الثمانينيات والتي أدت إلى اتساع مفهوم التشارك أو التقاطع ليشمل هذه الهويات التي وضعتها الحركة النسوية في بؤرة اهتمامها وبدأت بالدفاع عنها، متناسية أن هذه الهويات الجديدة أصبحت تحتل أولوية لديها. ويتضح مثل هذا الاضطراب الفكري في مساندة الدعوات إلى إصدار قوانين تسمح لأي رجل بأن يعرف نفسه كامرأة، وهو ما يخوله الحق في الدخول إلى المساحات الخاصة بالنساء في الفضاء العام، كمشروع القانون الذي تقدمت به رئيسة وزراء اسكتلندا السابقة.

هذا التوسع في مروحة الاهتمامات شتت جهود الحركة النسوية الغربية، وعرضتها للكثير من الانتقادات من قبل منظمات وهيئات كانت تقف تقليديا مع الحركة النسوية، ولكنه لم يكن العامل الوحيد في تراجع تأثيرها هناك، فالعامل الثاني الذي أسهم في تراجع زخم الحركة النسوية إضافة إلى التشارك/ التقاطع هو  الطابع الثقافوي للحركة أو نخبويتها، فقد تحولت الحركة إلى حركة نخبة معزولة عن الهموم اليومية للنساء، فباتت نشاطاتها في قضايا المرأة مقصورة على الاحتجاجات داخل أروقة الجامعات وردهاتها، وارتداء القمصان المطبوع عليها شعارات مساندة المرأة، وتجلت نخبويتها في الدفاع عن حق النساء في  أعلى السلم الاجتماعي في الوصول إلى مراكز قيادية في المؤسسات الكبرى، وعن حقهن في الحصول على أجر مساو لأجور الرجال، بينما تناست الحركة أو تجاهلت أن واجبها الأول هو الدفاع عن الفئات الأكثر عرضة للتهميش وانعدام المساواة.

لو عدنا إلى النسوية العربية فسنلاحظ أن "ثقافويتها" غدت أكثر وضوحا في السنوات الماضية، إذ حصرت الحركة نفسها في قضايا ذات طابع فكري لا تمس على نحو مباشر ما تعانيه النساء من صنوف القهر والاضطهاد وانعدام المساواة في الجوانب الاقتصادية

في هذا السياق المشار إليه حرفت الرأسمالية الحركة عن أهدافها وحولتها إلى سلعة تجارية، ويتضح هذا التأثير في الطريقة التي تدافع بها "النسوية الليبرالية" عن حق النساء في بيع أجسادهن وتأجير أرحامهن، وهي تظهر المدى الذي انحرفت فيه الحركة النسوية عن أهدافها الأولى.

لو عدنا إلى النسوية العربية فسنلاحظ أن "ثقافويتها" غدت أكثر وضوحا في السنوات الماضية، إذ حصرت الحركة نفسها في قضايا ذات طابع فكري لا تمس على نحو مباشر ما تعانيه النساء من صنوف القهر والاضطهاد وانعدام المساواة في الجوانب الاقتصادية، بل اتجهت إلى نقد البنية البطريركية من زاوية ثقافوية عامة، أما نخبويتها فتتضح في تراجع دفاعها عن الفئات المستضعفة من النساء في مقابل التركيز على "نساء الطبقات العليا"، وعلى سبيل المثال، فإن قيام شخص مشهور بتعنيف زوجته أو ضربها يؤدي إلى موجة من التعاطف النسوي معها، وتحويل القضية إلى قضية رأي عام لا نرى مثلها في حالات أخرى تزهق فيها أرواح فتيات ونساء ينتمين إلى الطبقات الفقيرة.

هذه الثقافوية التي تسم الحركة في السنوات الأخيرة ستؤدي لا محالة إلى اضمحلال أي تأثير لها في الفئات التي كانت الحركة تخاطبها أو تتوجه إليها بخطابها سابقا، ولكن العامل الأهم في خفوت الحركة أنها ستجد نفسها بين نارين: غضب "أمها الأوروبية" التي تدافع عن الهويات الجديدة، و"وقوف أبيها الشرقي" في وجه تلك الهويات التي تهدد مجتمعه.