تجاربي مع متلازمة ستاندال

2018.05.17 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

توصف هذه المتلازمة بأنها: اضطراب نفسي وجسمي يجعل صاحبه يشعر بتسارع نبضات قلبه، وبدوخة، وارتباك، وقد يتطوّر إلى هذيان حين ينظر الشخص إلى عمل فني مبهر شديد الجمال فيثيره عاطفياً، ويزلزله روحياً.

 وسُمِّيت بذلك نسبةً إلى الكاتب الفرنسي ستاندال الذي وصف حالته بدقة يوم كاد يُغمى عليه من الاستثارة حين زار في سنة 1817م كاتدرائية سانتا كروتشي في مدينة فلورنسا، وشاهد اللوحات الجدارية لفنان عصر النهضة جيوتو دي بوندوني، ولم يصدّق أنه يقف في نفس المكان الذي دُفن فيه مايكل آنجلو وجاليليو جاليلي.

بالنسبة إلي لطالما أُصبت بهذه الأعراض، بسببٍ من (صورة) في بادئ الأمر، ثم بسببٍ من (كلمة)، في منتهاه.

أذكر تماماً تجربتي الأولى، يوم شاهدت لأول مرة في حياتي نافورة البركة في حديقة (السبيل)! لا أدري كم كان عمري بالضبط، سوى أني كنت في الروضة قبل أيام المدرسة الابتدائية. كان مشهد البركة الكبيرة تتوسطها النافورة ذات الثقوب العديدة، وهي ترش الماء إلى الأعلى عدة أمتار شيئاً مهيباً، وحدثاً جللاً! رأيت من بعيد تموجات الماء تعطي انعكاسات تشكيلية ذكرتني مباشرة بثريا جيراننا من بيت الحللي، وبنجفها من نوعية الصانجان البرّاق الذي تتماوج فيه الألوان بأثيرية، كأنها موجودة وغير موجودة في الآن نفسه! ولدى اقترابي من البركة تسارعت دقات قلبي، وازدادت وتيرة تنفسي. أفلتّ يد أمي، وبدأت أدور حولها، وياللهول!! أشرقت الشمس من بين الغمام! فبدأتُ أرى من خلال الماء أطياف ألوان قوس قزح التي انبثقت فجأة! ولم أكن في تلك الآونة أعرف أن اسمها قوس قزح.

بركة كبيرة جداً! ونافورة عملاقة! وألوان تظهر وتختفي! إنه حدث كوني لا يُحتمل! كدت أموت من الاستثارة! وقفت متخشّباً، ما عدا يديَّ اللتين كنت أحركهما كأنني عداء أولمبي يجري بأقصى سرعته، ظللت عدة دقائق كأن لَقْوة أصابت فمي،

ما الذي يدعو البحتري ليكتب الشعر في وصف بركة لولا أنها استثارته كما استثارتني، وهجم عليه سحرها كما هجم عليَّ؟

وتغيرتْ حركة يديَّ، وصارتا كمكّوك نول نسيجٍ يروح ويجيء، وسط ضحكات أمي، واستمتاعها بانفعالي، إلى أن حنّت عليّ أخيراً فلفتني بذراعيها، واحتضنتني، وهدّأت من روعي، ولكنها لم تدرك ألبتة أن انفعالي استمر لليوم التالي.

سوف أنسى هذه الحادثة، وسأعود لتذكرها بعد سنوات وسنوات، يوم قرأت قصيدة البحتري، وهو يصف بركة المتوكل. الفارق الوحيد بين البركتين أن بركة السبيل لم يكن فيها أسماك، ولم يكن ماؤها يجري، فيدخل من جانب، ويخرج من جانب آخر! وظللت أفكر: ما الذي يدعو البحتري ليكتب الشعر في وصف بركة لولا أنها استثارته كما استثارتني، وهجم عليه سحرها كما هجم عليَّ؟

هل حرّك يديه مثل عدّاء أو مثل مكّوك وهو ينشد:

يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها....... والآنسات إذا لاحت مغانيها

ما بال دجلة كالغيرى تنافسها....... في الحسن طوراً، وأطواراً تباهيها

إذا علتها الصبا أبدت لها حبكاً...... مثل الجواشن مصقولاً حواشيها

محفوفة برياض لا تزال ترى....... ريش الطواويس تحكيه ويحكيها

وهل أصابته لقوة بعد انتهائه من الإنشاد؟ وهل كانت أمه حاضرة فاحتضنته وهدّأته؟ أم أقبلت جارية غانية فالتزمته، وسكّنت روعه؟

أما تجربتي الثانية فكانت في الصف التاسع. يوم كانت عاطفتي الدينية في أوج أوارها وتصعّدها. كنت قد بدأت للتوّ بتتبّع الزوايا، وحضور حلقات الذكر، انطلاقاً من جامع صلاح الدين. كان شيخ هذه الحلقة في ذلك الجامع شاباً دون الأربعين، اسمه ناصر السيد طه، كانت مهنته في كوي الثياب، وكان بيته في آخر حي العواميد في حلب القديمة، ساعده على التصدِّي للمشيخة وجود غرفة كبيرة في داره العربية القديمة، فحوّلها إلى زاوية، بعد أن زيّنها بالرايات والسناجق، وصور مشايخ الطريقة الرفاعية: أبي الهدى الصيادي، وشيخه محمد مهدي الدين الرواس. كان المنشد في الحلقة طالب علم في الصف السادس من المدرسة الكلتاوية، وكان لقبه ليلى، وكان مُخْبِتاً وقوراً، ذا صوت جميل، وروح عذبة، ومن إنشاده حفظت قصيدة:

إذا رضوني أهل الوصال...... فكلُّ حالٍ عينُ الجمال

في هذه الأثناء ساقتني الأقدار إلى حوش عربي في حلب القديمة لحضور حلقة ذكر. كان المنشد في تلك الحلقة حسن حفار، ولم أكن أعلم من هو حسن حفار. سمعت لأول مرة صوته! فخيّل إليّ أنه قادم من العالم العلوي، بعد أن جمع في ذبذباته الهارموني الكوني كله، فتقاطر على مسامعي لذةً ونشوة! ولا والله ما كان هذا بصوت بشر ولا جانّ! بل صوت ملائكي عذب صافٍ أنيق مهذّب رخيم! لم ينفذ إلى أذنيّ فقط، بل انساب في مجرى دمي سيّالاً كتيار بحرٍ من ضِرام. وسمعت ذلك البيت الذي صعقتني كلماته وموسيقاه، كما يصعق جهاز الصدمة الكهربائية من يشارف على الموت:

أترضى حبيبي أن تكون منعّماً..... ونحن على جمر الغضا نتقلبُ

كانت تلك النغمات مع هذه الكلمات كفيلةً بأن تجعلني أهيم وأقفز في حلقة الذكر قفزاً حررني من وزني، وشعرت بأني أطير كمنطاد مُلئ بالهليوم، غير أنّ رفيقيَّ عن يميني وشمالي أمسكا بي في اللحظة المناسبة قبل أن أتلاشى بين الغيوم.

على أنني سأظل لمدة أسبوع أعيد وأكرّر: على جمر الغضا نتقلب... على جمر الغضا نتقلب.

وسأضرب صفحاً عن حالات أخرى مشابهة، لأخص بالذكر حالتي الأخيرة يوم قرأت أبيات الجواهري! تلك الأبيات التي سمعتها في المرحلة الإعدادية بدون أدنى تأثر،

جمال تلك الأبيات، في تلك اللحظات، يضاهي جمال الكون كله، إذ كثّفتْ لي عصارة حلاوة خمس عشرة سنة قضيتها في رحاب دمشق

فلما استقرَّ بي النوى في إسطنبول، في رحلة المنافي بعد ثلاثين سنة، كان لها وقع مختلف:

دمشق صبراً على البلوى فكم صُهرت....... سبائك الذهب الغالي فما احترقا

دِمَشْقُ عِشْتُكِ رَيْعاناً

وخافِقَةً

ولمةً

والعُيونَ السُّودَ

والأَرَقا

آهٍ على الحلو في مرٍّ نغصّ به....... تقطّرا عسلاً في السم واصطفقا

كان جمال تلك الأبيات، في تلك اللحظات، يضاهي جمال الكون كله، إذ كثّفتْ لي عصارة حلاوة خمس عشرة سنة قضيتها في رحاب دمشق: أزقتها، شوارعها، أسواقها، بائعيها، ناسها، هوائها ومائها، حدائقها وأشجارها، غيدها وحسانها، مكتباتها، مساجدها وأوليائها، كنائسها وقديسيها، فاعترتني أوصاف متلازمة ستاندال بحذافيرها! وظللت لمدة يوم كامل هائماً على وجهي، كأني خارج الزمان والمكان، فلم أعد أشاهد شيئاً، ولم أعد أسمع سوى وجيب خافقي، مع بكاء بلا دموع، وأنين بلا صوت، وزفير وشهيق بلا تنفّس! ولم أخرج من هذه الحالة إلا بذكرى القصاب الدوماني في سوق المناخلية، قبل جامع المعلّق التي دهمتني في نهاية يومي.

كان يعلّق في واجهة دكانه رأس جمل مع رقبته التي يتجاوز طولها المتر، وكان يضع في فم الجمل باقة بقدونس أو كزبرة. وكان يشوي كباب لحم الجمل! وهل يوجد أطيب من كباب لحم الجمل؟! ربع كيلو بمئة ليرة سورية. لم يبق صديق دمشقي لي إلا وعزمته على أكلة كباب لحم الجمل، ولم يزرني زائر حلبي إلا وعزمته على أكلة كباب لحم الجمل! وفي إحدى الصباحات الجميلة لي في مكتبة الأسد، وقبل أن أدلف إلى قاعة اللغة والدين، أو إلى قاعة التاريخ والصحافة، مررت على قاعة الصحف والمجلات، وقرأت في صحيفة تشرين الخبر التالي: تشميع محل القصاب الدوماني في سوق المناخلية، لأنه يذبح الحمير بدل الجِّمال!

كلمات مفتاحية