icon
التغطية الحية

تبادل الحِرف واختلاط الدم.. كيف تشابهت مدينتا غازي عنتاب وحلب؟ | فيديو + صور

2024.02.29 | 14:11 دمشق

آخر تحديث: 29.02.2024 | 15:01 دمشق

غازي عنتاب هي واحدة من أكبر المدن في تركيا، وتقع عند تقاطع بلاد ما بين النهرين ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، ولها مكانة مهمة للغاية في تاريخ البشرية. المدينة، التي تشتهر أيضًا بالفستق المشهور عالميًا والحلويات المحلية المصنوعة باستخدام هذا الفستق، يمكن اعتبارها أيضًا عاصمة الذوق في تركيا بثقافة فن الطهو الغنية.
قلعة غازي عنتاب جنوبي تركيا ـ خاص
غازي عنتاب ـ بثينة الخليل
+A
حجم الخط
-A

من النادر أن تتشابه مدينتان تتحدثان لغتين مختلفتين، وتنتميان إلى دولتين مختلفتين، إلى الحد الذي تتشابه فيه مدينة حلب أقصى شمالي سوريا، ومدينة غازي عنتاب أقصى جنوبي تركيا. تشابه يسمح لأبناء كل مدينة منهما بأن يعتقدوا أن المدينة الأخرى ما هي إلا نسخة عن مدينتهم، وتقليد لها.

ولأن مدينة حلب أقدم من غازي عنتاب، وأكبر مساحة، وأكثر سكاناً، ولأنها كانت لمئات السنين المركز الإداري الذي تتبع له غازي عنتاب، فإن بعض أبناء حلب يعتقدون أن مدينتهم هي الأصل الذي قلدته غازي عنتاب، بينما يعتقد كثيرون أنه لا يوجد نسخ أو تقليد بين المدينتين، وإنما عوامل كثيرة مشتركة تقف وراء هذا التشابه اللافت للنظر.

القرب وتشابه المناخ

أول العوامل انتماء المدينتين لدولة واحدة وخضوعهما لقوانين واحدة، وانتماؤهما لولاية (محافظة) واحدة لمئات السنين. وثاني العوامل هو القرب الجغرافي، فالمسافة بين المدينتين أقل من 100 كم، وبالضبط 96 كم فقط. ثالث العوامل هو التشابه في المناخ وفي الأرض، فحلب وغازي عنتاب مدينتان داخليتان، مناخهما أقرب إلى الجفاف، لأنهما بعيدتان عن البحر وعن الأنهار الكبيرة، وتعتمدان على الأمطار لسقاية الأراضي الزراعية، وعلى الصخور والحجارة الشهباء اللون (الأبيض الحنطي) في البناء.

ورابع العوامل المسببة لتشابه المدينتين هو وقوعهما على الطريق الواصل بين قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، ففي حلب وغازي عنتاب، وعلى التوالي وبالاتجاهين، كان يتوقف الغزاة، والتجار، والمسافرون والحجاج (المسلمون الأتراك والأوروبيون المتوجهون نحو مكة والمدينة والقادمون منهما، والمسيحيون الروس والأوروبيون المتوجهون نحو القدس والناصرة والقادمون منهما).

موقع المدينتين بين قارات العالم القديم الثلاث، جعلهما هدف الغزاة الأول، فكل الغزاة القادمون نحو الشرق من آسيا الوسطى وأوربا (الرومان، والبيزنطيون، والحثيون، والصليبيون، والفرنسيون..)، كان عليهم أولاً احتلال غازي عنتاب ثم حلب. الأمر الذي دفع سكان كلا المدينتين لبناء قلعة كبيرة جداً تتسع لسكان المدينة، ومن هنا كانت قلعة حلب، وقلعة غازي عنتاب، وجه التشابه الأكبر، والأكثر لفتاً للأنظار بين المدينتين.

قلعة حلب وقلعة غازي عنتاب

يشهق الحلبي من الدهشة عندما يرى قلعة غازي عنتاب، ويفعل الشيء ذاته ابن غازي عنتاب عندما يرى قلعة حلب. فرغم أن قلعة حلب أكبر وأكثر تحصينا وأكثر أبنية، وأكمل عمارة وزخرفة، فإن القلعتين متشابهتان إلى حد كبير. السور والأبراج والخندق والعلو الشاهق، والشكل الدائري، وموقعها وسط المدينة، وإشرافها على أسواق المدينة وشكل الأحجار ولونها، ونوعها.. كل ذلك متطابق بين القلعتين.

ووقوع المدينتين على طريق التجارة الدولية الأكثر أهمية في العالم، جعلهما تهتمان كثيراً بالتجارة والصناعة، وببناء الخانات (الفنادق) والحمامات العامة والمخازن والمستودعات، وكلها متشابهة إلى حد التطابق في المدينتين.

يقول المواطن التركي "تيكين كولته"، لموقع تلفزيون سوريا: "كل ابتكار كانت تصل إليه حلب أو غازي عنتاب، كانت الأخرى تأخذه منها، إلى حين تتمكن من إنتاجه وحدها. مثلاً قبل نحو 80 سنة لم يكن أهل غازي عنتاب يعرفون صناعة الألبسة الجاهزة، كل الألبسة عندهم كانت تفصيلاً عند الخياطين لشخص واحد وعلى مقاسه، وحلب ابتكرت الألبسة الجاهزة، الرجالية والنسائية، وصارت تصدرها إلى غازي عنتاب لفترة طويلة، حتى بدأ أهل غازي عنتاب بإتقان هذه الصناعة".

غازي عنتاب

التشابه في الأرض الجبلية الجافة، جعل المدينتان مبنيتان من الأحجار المقطوعة من الجبال بشكل كامل. فالبيوت، والمساجد ودور العبادة، والمدارس، والمشافي، والدكاكين، والمقاهي، والمخازن، وحتى الأسواق الطويلة الممتدة والمتفرعة لعدة كيلومترات مبنية في المدينتين من الأحجار، ومسقوفة بالأحجار الشهباء اللون، وطريقة البناء وحتى الزخارف، داخل المباني وخارجها، متشابهة بين المدينتين.

كما تقع المدينتان في منطقة زلزال نشطة، شديدة العنف، وتعرضتا لهزات أدت إلى خرابهما عدة مرات، الأمر الذي أثر على نوع البناء، والاحتياطات لوقوع الزلازل في شتى مظاهر الحياة، في المدينتين.

الفستق الحلبي و"العنتبلي"

التشابه في المناخ وفي التربة الزراعية، جعل المدينتين تتشابهان في المزروعات، وفي المأكولات. فمعظم الطعام في المدينتين فيه الفستق الحلبي. عشرات أنواع الحلويات، والكبب والأطعمة والطبخات، إضافة إلى الموالح، فيها الفستق الحلبي الذي يزرع على مد النظر في السهول المحيطة بالمدينتين. حتى أشجار ونباتات الزينة متشابهة بين المدينتين، فكلاهما يعشق الياسمين، ويزرعه في بيوته وحدائقه ومساجده، وفي كل مساحة ممكنة للزراعة.

وأرض المدينتين خصبة، وطرية، ورائحتها عطرة، إلى درجة استخدام تربتها في الحمامات لتنعيم وتلميع الشعر، وإلى درجة أكلها كأنها شوكولا، وخاصة الترابة الحلبية الشهيرة.

يقول لنا  الكاتب السوري وصاحب "دار نون" للنشر في عنتاب محمود الوهب: "ثمة كثير من المشتركات بين المدينتين في الزراعة وفي الطعام، فالمدينتان مشهورتان بكروم العنب والتين والفستق الحلبي والجوز، ومشهورتان بالصناعات التي تقوم على هذه المزروعات، مثل تجفيف العنب (الزبيب) والمشمش المجفف، والفليفلة المجففة والمطحونة، ورب البندورة، والجق ملبن، والبسطيق، وخاصة صناعة الدبس". ويتابع هناك مثل شعبي طريف يقول: "إي شو يعني ما في دبس إلا بعنتاب!" وطبعاً من أشهر ما أخذ الحلبيون من غازي عنتاب اللحم بعجين العنتابي أو "العنتبلي".

ويشير "الوهب"، "إلى أنه ثمة عائلات في حلب من عنتاب تعرف بـ: "العنتابي" أو "العنتبلي". وثمة حي في حلب اسمه أقيول يقع بين منطقة ميسلون وباب الحديد في حلب. وفي عنتاب الاسم نفسه أقيول جامي وهي المنطقة الواقعة بين حديقة "كركياك" على شارع (أوردو سي) خلف مطعم "بياز خان" وشارع (إننو جادة سي) وأقيول تعني الطريق الأبيض.. كل ذلك كوَّن روحية مشتركة واحدة".

اختلاط الدم بين حلب وغازي عينتاب

يقول الدكتور زكريا ملاحفجي الحلبي المقيم في غازي عنتاب لموقع تلفزيون سوريا: “التبادل هي الكلمة المفتاحية لعلاقة حلب بغازي عنتاب، المدينتان تتبادلان كل شيء، كل ما تحتاجه الواحدة تبحث عنه لدى الأخرى، السلع، والأفكار، والمنتجات، والمواد الأولية، والألبسة، والأطعمة، والمنتجات الزراعية. كل مدينة منهما تشكل سوقاً كبيراً لما تصنعه وتنتجه الأخرى".

حتى وجوه الناس ولباسهم وعاداتهم وتقاليدهم، وموسيقاهم وغناؤهم، متشابهة بين حلب وغازي عنتاب، ولولا اختلاف اللغة والأبجدية والأعلام، لما عرف الزائر أين هو، في حلب أم في غازي عنتاب.

تقول السيدة الحلبية حنان تركماني المقيمة في غازي عنتاب لموقع تلفزيون سوريا: “منذ عشرات السنين تعودنا على زيارة غازي عنتاب للتسوق، نأتي لشراء البضائع والسلع الأفضل أو المبتكرة أو المفقودة في سوريا، ومن كثرة الزيارات وتعدد أسبابها، اشترينا بيتاً في غازي عنتاب، لكن البيت الذي كان للسياحة والتسوق والإجازات، صار محل إقامتنا الدائمة بعد 2011”.

في حين ينوه الباحث عمرو الملاح إلى اختلاط الدم بين سكان المدينتين، يقول في لقاء مع موقع تلفزيون سوريا: “عنتاب  كانت جزءاً من إيالة ثم ولاية حلب العثمانية طوال مئات من السنين، والتأثير بين المدينتين طوال هذا التاريخ الطويل والمشترك كان متبادلاً وتعددت مستوياته، ومنها المصاهرات عبر الأجيال بين عائلات حلب وعائلات الأناضول وفي عدادها عنتاب، وهو ما تؤكده نتائج فحوص التركيبة الجينية التي أجريت على عينات لا بأس فيها من مدينة حلب وأظهرت مكوناً  أناضولياً وبنسبة عالية في مدينة حلب عند معظم من تم فحصهم".

كما يظهر الاختلاط السكاني في أسماء الأسر، ففي حلب نرى أسراً لقبها عنتيبي أو عنتابي أو عنتبلي، وفي عنتاب نرى أسراً لقبها حلبلي، أو هلبلي، وتعني الحلبي أو الحلبية.

جميع الأسباب السابقة، وغيرها، جعلت العلاقات الاجتماعية بين المدينتين قوية، والهجرات بينهما، وبالاتجاهين، متكررة، ولا شك أن أكبرها هجرة ما بعد ثورة 2011 في سوريا، والتي دفعت مئات الألوف من أبناء حلب للهجرة نحو غازي عنتاب، القريبة والشبيهة بمدينتهم.

يقول الشاب حسن الحلبي وهو صانع أحذية جلدية في أحد الخانات في عنتاب، لموقع تلفزيون سوريا: "عملت في صناعة الأحذية الجلدية في منطقة الهلك في حلب، وبعد عام 2011 اضطررت أنا وعائلتي إلى مغادرة المدينة والتنقل بين عدة مدن مثل اعزاز ومدينة قونيا التركية، لم نشعر بالاستقرار إلا بعد أن استقررنا في غازي عنتاب، نظراً للتشابه الكبير بينها وبين حلب، من حيث المناخ، والأوضاع الاجتماعية، والأعمال التجارية والصناعية المنتشرة فيها، وكثرة الحلبيين فيها. في غازي عنتاب لا يشعر الحلبي بالغربة".