icon
التغطية الحية

تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي: تدوين بكائهم ومحو سجلات بكائنا

2024.02.25 | 12:35 دمشق

آخر تحديث: 25.02.2024 | 12:35 دمشق

عغهغ
+A
حجم الخط
-A

يتناول كتاب "تاريخ البكاء.. تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي" للناقد الأميركي توم لوتز أسئلة بسيطة، مثال: لماذا نبكي؟ ما أنواع الدموع؟ ما فائدة البكاء؟ كما يجتهد للتنقيب عن الأجوبة بحقول المعرفة كافة، لينتقل من العلوم التجريبية إلى الإنسانية، مرورا بالفنون والآداب. هذه الشمولية تؤكد أن جميع تفسيرات الدموع قاصرة، وأن البكاء أكبر من كونه رد فعل فيزيولوجي عن الألم والحزن، حيث تتعدد دلالات البكاء وتتنوع، لأن الدموع مشترك إنساني عابر للقارات.

فصول الدموع بين الفلسفة والعلم والفن

تنوع محتوى الكتاب وعمقه، يجعل مهمة تلخيص فصوله مهمة عسيرة، وحتى إعطاء فكرة مجملة قد يكون بذات الصعوبة. فالكتاب يتوزع، بعد توطئة المترجم "ما وراء الدموع"، إلى مقدمة وسبعة فصول.

في التوطئة، يذكر المترجم أن المؤلف يقسم العالم إلى "بكاة وجفيفين (أي جفت مدامعهم)". أفراد القسم الثاني يتجاهلون أسباب ومعاني البكاء، ويعتبرونه ضعفا. أما البكاة فيستمرون في استكشاف مجالات البكاء الفلسفية والأدبية والعلمية. المؤلف يتعاطف مع البكاة، وتأليفه لهذا الكتاب جاء "ردا على سؤال ضمني طرحه رولان بارت عمن يستطيع الاضطلاع بهذه المهمة".

في مقدمة المؤلف، محاولة لفهم تعقيدات وتشعبات والجوانب المتنوعة للدموع، أكثر من محاولة الإجابة عن السؤال، لأن أي إجابة بأي حقل من حقول المعرفة ستبدو ساذجة وبلهاء إذا عزلت عن فروع المعارف الأخرى، فالدموع تعبر عن" رغبات معقدة ومتناقضة".

رغا

يميز الكاتب في فصل "دموع الملذة ودموع النعمة والبطل الباكي"، بين نوعين رئيسين من البكاء: البكاء الجسدي "زائف" والنحيب الأخلاقي "حقيقي". البكاء الجسدي لا يرتبط بأفكار حقيقية أو شعور عميق، بل يعتمد على الجسد. بينما النحيب الأخلاقي ينشأ من الأفكار والمشاعر الحقيقية ويترافق دائما معها. كما يركز على ثلاثة أنواع من "الدموع الحسنة": الدموع البطولية، والدموع الصادقة الاستثنائية، ودموع الملذة.

يقسم الفسيولوجيون الدموع في فصل الجسد الباكي إلى ثلاثة أنواع: "القاعدية، والانعكاسية، والنفسية". القاعدية، هي الدموع الدائمة التي ترطب أعيننا، والانعكاسية تنتج عند تعرض العين لمهيج مثل البصل، أما الدموع النفسية فتنتج من الحالات العاطفية. وكل نوع من هذه الدموع له وظائف وتركيبات مختلفة.

أما في فصل "سيكولوجيا الدموع"، فيناقش الكاتب فكرة قديمة "قِدم أبقراط، ومعاصرة بنفس الوقت" وهي أن البكاء عملية تطهير وتنفيس وهي مفيدة. والتطهير له تاريخ طويل ومعقد يجمع بين الفسيولوجيا والأخلاق والنفس والجمال والروحانية في وحدة متنوعة. لكن بعض إخصائيي العيون لا يرون الدموع إلا وسيلة للتخلص من فائض "المنغنيز".

وفي فصل "رجال ونساء، رضع وأطفال" يبيّن الكتاب أن تفسيرات الدموع والمعاني التي يمكن أن تستخلص منها، مرتبطة بالجنس والعمر والعرق والثقافة الاجتماعية السائدة.

لم تحظ دموعنا بالاهتمام البحثي اللازم رغم أن الكاتب يذكر أننا نشكل البقعة الجغرافية التي عُثر فيها على أقدم تسجيل للدموع، كان مكتوبا على شظايا متفرقة لألواح طينية كنعانية من القرن الرابع عشر قبل الميلاد في رأس شمرا (أوغاريت)، ويمثل بكاء "عناة" على "بعل"

أما الفصل الخامس فتحدث عن ثقافات الحداد، ليبين من استعراض ثقافات الشعوب في الحداد أن الدموع غالبا ما تكون أداءً تمثيليا خارجيا، مجردا عن أي شعور داخلي. تأتي لتأدية الواجب فقط. فعندما يموت شخص في بعض الثقافات البدائية، تعاني العشيرة بأكملها وتبكي، لأنها تفقد أحد أعضائها، "كأن طرفاً قد نُزع من الجسد، أو غصناً من الشجرة قد قُطع...".

كما يتطرق إلى تفسير بكاء العرائس؛ فأغلبهن يبكين لأن المجتمع يتوقع منهن ذلك! فالدموع ليست مجرد تعبير عفوي عن الانفعالات، بل هي استجابة للتوقعات المجتمعية، وأحيانا قد تكون الدموع معدية تنتقل للآخرين من خلال تهييج مشاعرهم كما يحدث بالجنائز.

ثم يستعرض أسباب البكاء الخمسة في فصل "دموع الانتقام، والإغواء والهروب والتعاطف"، الواردة في كتاب "قانون الخلق" لآرثر كويستلر، وهي: النشوة، الحداد، الراحة، التعاطف، الشفقة على الذات. ثم تأتي "الدموع الفنية والأدبية" كعنوان للفصل الأخير، مستعرضا من خلاله باقة متنوعة من دموع الممثلين على المسرح وفي الأفلام والأعمال القصصية المتنوعة.

ىلاعهن

تاريخ الدموع وعصر شبكات التواصل

تاريخ البكاء كتاب قد يعكس عصر السوشال ميديا، فهو يبدو كفسيفساء تجمع العصور والثقافات والحقائق والآراء بشكل متساوٍ غير خطي، ويستعرض تفسيرات للدموع في سياقات فكرية مختلفة. قد تكون القراءة ممتعة، ولكننا نتساءل أحيانا عن جدوى ذلك. فقراءة فصول الكتاب أشبه بتقليب المقاطع القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي وتصفح القنوات والمحطات التلفزيونية...

يمكننا أن نستمتع بلا شك بمشاركة معلومات غير عادية من خلال قراءتنا الكتاب، مثل كون الدموع التي نذرفها أثناء مشاهدة الأفلام "تحتوي على بروتين أكثر بنسبة 25 بالمائة من الدموع التي نذرفها عند تقطيع البصل"، إلا أن الكتاب يفتقد للإجابة عن سؤال: "ما الفائدة من ذلك؟". فهو يحاول أن لا يتورط في تفسيرات للبكاء كي لا يقع في مطبات التبسيط المفرط، ولعل الكاتب نجح في تعقيد فهمنا للبكاء وتصحيح كثير التبسيطات الرائجة. فهو يصحح على سبيل المثال فكرة أن الرجال في الثقافة الغربية لا يبكون، ويقدم وصفا دقيق لسلوك الناس في ثقافات وأوقات مختلفة، ما يعزز فكرة أن البكاء ليس له تفسير واحد. تحليل لوتز للبكاء أكثر شمولية من أي شيء نشر حتى الآن، ويوضح أن الموضوع أكثر تعقيدا مما نعتقد.

الكتاب، ونظرا لكثافة المعلومات والمراجع والشواهد والتجارب، يعطيك شعورا بأن الكاتب -بعد هذه الكثافة الاستدلالية- يريد برهنة حقيقة يقينية ثابتة بالنسبة له، لكنه لا يفعل ذلك بل يترك الخيار للقارئ باستنتاج ما يريد استنتاجه ويكتفي باستعراض المعلومات وجمعها وتبويبها من مصادرها المتفرقة.

المشرق.. سجلات مستمرة للبكاء

الدراسة ركزت على المصادر الغربية لتاريخ البكاء، وأهملت القصص والتمثيلات الأدبية والشعبية للشعوب الأخرى، وهذا لا يقلل من قيمة دموعنا. بل هو حافز للباحثين العرب في البحث عن تاريخ دموعنا في المشرق ودراستها كما فعل لوتز، فلدينا تاريخ عريق من الدموع في الموروث الشعبي، والتاريخي، والأدبي شعرا وسردا، كما ارتباط منطقتنا بالرسالات السماوية يضيف للدموع لدينا عمقا أكبر، قد يكون أكثر تعقيدا مما حاول لوتز تعقيده.

فلم تحظ دموعنا بالاهتمام البحثي اللازم رغم أن الكاتب يذكر أننا نشكل البقعة الجغرافية التي عُثر فيها على أقدم تسجيل للدموع، كان مكتوبا على شظايا متفرقة لألواح طينية كنعانية من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، في قرية ساحلية شمال غربي سوريا. هذه الألواح، المعروفة بنصوص "رأس شمرا" (أوغاريت)، تحتوي على قصيدة تروي قصة موت إله الأرض "بعل"، الذي كان يُعبد في العديد من ثقافات الشرق الأوسط القديمة، وبكاء الإلهة العذراء "عناة"، أخت/ زوجة بعل، بعد سماعها خبر وفاته. الترجمة العلمية المعتمدة تظهر أن عنات "أتخمت نفسها بكاءً حتى صارت تشرب الدموع كما الخمر!". هذا النص هو أول ذكر مكتوب للدموع.

ولعل الكاتب لم يطّلع على النصّ الأقدم والأعمق، ونقصد "ملحمة جلجامش" وما ورد فيها من صور مدهشة للبكاء والنحيب والنواح الذي صدر من جلجامش على صديقه "إنكيدو" بعد وفاته. حيث جاء في أحد ألواح الملحمة على لسان جلجامش:   

"لتندبك المسالك التي سرت فيها في غابة الأرز

وعسى ألا يبطل النواح عليك مساء نهار

وليندبك شيوخ أوروك، ذات الأسوار

وليبكك الأصبع الذي أشار إلينا من ورائنا وباركنا

فيرجع صدى البكاء في الأرياف

وليندبك الدب والضبع والنمر والأيل والسبع

والعجول والظباء وكل حيوان البرية

ليندبك نهر (أولا) الذي مشينا على ضفافه

وليبكك الفرات الطاهر الذي كنا نسقي منه

لينح عليك محاربو أوروك المحصنة

... ذبحنا الثور... ليندبك ...

ليبكك من عظم أسمك في أريدو

ومن مسح ظهرك بالزيت المعطر وسقاك الجعة

ولينح عليك من أطعمك الغلة

ولتبكك الأخوة والأخوات

اسمعوني أيها الشيبة الشيوخ وأصغوا إلي

من أجل انكيدو،خليّ وصاحبي، أبكي

وأنوح نواح الثكلى...".

وإلى أن يأتي ذلك الباحث الذي يهتم لدموعنا في المشرق البائس، يبقى تحليل لوتز لظاهرة البكاء هو الأكثر شمولية حتى الآن، ويوضح أن موضوعها ما يزال أكثر تعقيدا مما نظنّ.