icon
التغطية الحية

بِنْتُ الشاي

2023.11.18 | 16:26 دمشق

ثورة
إلقاء شحنة الشاي من السفن البريطانية في ميناء بوسطن 1773
+A
حجم الخط
-A

يحتل الشاي المرتبة الثانية بعد الماء بين أكثر المشروبات رواجًا في زماننا هذا. ولأن فقيرَنا وغنيَّنا يتناوله عدة مرات في اليوم، فقد صار في نظرنا من المُسَلَّمات التي لا يخطر ببالنا أن نبحث في نشأته وتاريخه. أمّا أن يكون للشاي ارتباطٌ بالسياسة والدبلوماسية في بعض الأحيان، فهذا أبعد ما يكون عن تفكيرنا. لكن الشاي لم يكن في الحقيقة دومًا في متناول الجميع. بل كان مشروبَ النخبة، وسلعةً نادرةً وثمينةً حتى أن الملوك والأباطرة والقياصرة كانوا يتهادون به. كما كان في بدايته حِكرًا على رجال الدين (في الصين واليابان)، أو باهظَ الثمن بحيث لا تستطيع شراءه إلا الطبقة الأرستقراطية الثرية (في أوروبا).

دبلوماسية الشاي

يقال إن العينات الأولى من الشاي الصيني جاء بها إلى روسيا عام 1616 قوزاقٌ يُدعى تَيّوميِينيِتس وهو عائدٌ من بعثة دبلوماسية إلى منغوليا. وبعد ذلك بعامين، قدَّمت سِفارةٌ صينيةٌ عدة صناديق من الشاي إلى البلاط الروسي في موسكو. وفي عام 1638، أرسل خانُ المغول 200 علبة شاي هديةً ثمينةً إلى القيصر ميخائيل فيدوروڤِچ. في ذلك الوقت، لم يكن الروس يعرفون عن الصين والشاي إلا القليل جدًا.

وفي عام 1662، تزوج ملك إنجلترا چارلز الثاني الأميرةَ البرتغالية كاتَرينا دي براغانسا، وكانت من أوائل عُشّاق الشاي، وكان من جملة مَهْرِها صندوقٌ من الشاي الصيني. ويقال إن أول شيء طلبته عندما هبطت في ميناء پورتسمِث كان كوبًا من الشاي. وفي عام 1664، تلقى چارلز الثاني هديةً من الشاي من شركة الهند الشرقية. أرادت كل الطبقة الراقية تجربة هذا المشروب الجديد ولكنه كان باهظ الثمن، ولذلك ظل في تلك الأيام الأولى مشروبَ الأغنياء.

كان الشاي المشروبَ المفضَّلَ لدى المستوطِنين في القرنين السابع عشر والثامن عشر حتى أدت الضريبة المفروضة عليه إلى اندلاع الثورة الأمريكية عام 1775.

ربما وصل الشاي إلى بلاد فارس من الصين عن طريق القوافل المبكرة التي كانت تسلك طريق الحرير، لكنه لم يترك إلا أثرًا ضئيلًا. فقد ظلت القهوة، التي وصلت من الجزيرة العربية في القرن التاسع، مشروبَ الفُرْسِ المفضَّل لمئات السنين. لكن في عشرينيات القرن الماضي، شكَّ شاه إيران، رضا بهلوي، أن المقاهي كانت أوكارًا للمعارضة السياسية، فقرر إقناع الناس بالتحول إلى شرب الشاي. فاستورد من الصين أصنافًا جديدةً من الشاي وجنَّد عائلاتٍ صينيةً للإشراف على إنتاجه في إيران وتطويره. وقد نجحت جهوده، فأصبح الشايُ المشروبَ الأكثرَ شعبيةً.

يبدو أن الشاه أراد أن يكون الشاي بمثابة الأفيون الذي يُخَدِّر به مواطنيه. وهذه الرغبة تتناقض مع طبيعة الشاي التي تُبقي شاربَه مستيقظًا، كما هو معروف. ففي اليابان، دعا الإمبراطور شومو 100 راهب بوذي إلى قصره لقراءة الكتب البوذية المقدسة لمدة أربعة أيام. كان ذلك سنة 729 ميلادية. حينها قدَّم لهم الإمبراطور الشاي الذي كان قد أحضره له مبعوثون في بلاط تانغ الصيني. وهكذا تمكَّن الرُّهبانُ من البقاء مستيقِّظين خلال الساعات الطويلة من قراءة الكتب المقدسة. وحتى حين تراجع شرب الشاي بسبب الحرب الأهلية في اليابان وكذلك الاضطرابات السياسية في الصين، ظل شرب الشاي جزءاً من الطقوس الدينية في المعابد البوذية لأنه يساعد على إبقاء الرهبان مستيقظين خلال ساعات التأمل الطويلة. وكذلك كانت وظيفته في الصين. ففي عهد أسرة سونغ الصينية (960-1279 ميلادية)، كان الرهبان والكهنة يشربون الشاي لمساعدتهم على البقاء مُسْتَيْقظين في أثناء التأمل. ثم اتخذه الشعراء والكُتّاب بديلاً من النبيذ، وكانوا يشربونه لاستنزال الإلهام.

تَمَخَّض الشايُ فَوَلَدَ أمريكا!

كل هذا يُفْهَم بيسر، أمّا أن يكون استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن بريطانيا العظمى بسبب الشاي، هذا المشروب المُنَبِّه البريء، فهذا من عجائب الاقتصاد السياسي. كانت أول مستعمرة بريطانية قد تأسست في ولاية ڤِرجينيا سنة 1607، وتأسست آخر مستعمرة في ولاية جورجيا سنة 1732. كان مجموع الولايات الخاضعة للسيطرة البريطانية بين هذين التاريخين 13، وهي الولايات التي سعت إلى الاستقلال عن بريطانيا لاحقًا.

كان الشاي المشروبَ المفضَّلَ لدى المستوطِنين في القرنين السابع عشر والثامن عشر حتى أدت الضريبة المفروضة عليه إلى اندلاع الثورة الأمريكية عام 1775. ظل الشاي، الذي كانت تورِّده شركة الهند الشرقية، حتى خمسينيات القرن الثامن عشر باهظَ الثمن. لكن بعد ذلك بدأ تدريجيًا يصل إلى الأُسَر ذات الإمكانات المتواضعة. لكن الحكومة البريطانية فرضت ضرائب باهظة عليه، وكان لا بد من دفع هذه الضرائب في لندن حتى قبل شحنه عبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا. وفي عام 1765، فرضت الحكومة البريطانية ضريبة الطوابع، وكان الغرض الأكبر منها هو دفع تكاليف الحروب المكلفة الأخيرة ضد الفرنسيين والأمريكيين الأصليين. تسببت هذه على الفور في حدوث أعمال شغب ومقاطعة البضائع البريطانية، وهذه أجبرت الحكومة على التراجع وإلغاء الضريبة. لكن في عام 1767 فُرِضت ضريبةٌ جديدةٌ على أربع سلع تستوردها المستوطنات الأمريكية: الورق والزجاج والرصاص والشاي. فاندلعت عاصفة أخرى من احتجاجات المستوطنين، فاضْطُرَّت الحكومة البريطانية مرةً أخرى إلى إلغاء الضرائب ما عدا ضريبة الشاي، إذ قررت فرض ضريبة ثلاث پنْسات على كل رطل. وبدلًا من دفع الضريبة، لجأ المستوطنون إما إلى مقاطعة الشاي تمامًا وإما إلى تهريبه من هولندا. ونتيجةً لذلك، وجدت شركة الهند الشرقية نفسها تمتلك مخزونًا كبيرًا من فائض الشاي وواجهت خطر الإفلاس. لذلك، وبمساعدة البرلمان، تمكنت من استصدار قانون الشاي لعام 1773 الذي سمح لها بشحن الشاي إلى أمريكا مباشرةً من دون دفع الرسوم الإنجليزية.

في هذه الأثناء أصبح الشاي رمزًا للعمل الثوري، لأنه لو دفعت المستعمرات ضريبة الشاي، فإنها بذلك تُقِرُّ بحق البرلمان في فرض الضرائب عليها. وكانت الحكومة البريطانية قد ظنَّت أن المستوطنين سيدفعون الضريبة ولا يحرمون أنفسهم من متعة الشاي، لكنها كانت واهمة. فقد انخفض استهلاك الشاي وأصبح الوطنيون يشربون "شاي الحرية" المصنوع من أوراق نبتة برية اسمها الفَرَندل أو أوراق التوت والبابونج والمريمية. ولجأ بعضهم إلى شرب القهوة. ثم أعلنت مجموعة تُدعى "أبناء الحرية" أنه لا ينبغي السماح بتفريغ الشاي في الموانئ وأن كل من يحاول ذلك سيُعَدُّ من أعداء البلاد.

كانت مدينة بوسطن في ولاية ماساشوسِتس منذ البداية مركزًا للمقاومة الأمريكية للحكم البريطاني، فعندما أبحرت ثلاث سفن إنجليزية إلى الميناء في أواخر تشرين الثاني 1773، لم يُسْمَح لها بتفريغ حمولتها من الشاي. ومع ذلك، فقد صدرت لها أيضًا أوامر بعدم الإبحار من دون تفريغ حمولتها بالكامل. وفي ليلة 16 كانون الأول 1773، صعدت تحت جُنح الظلام مجموعةٌ من المستوطنين المتنكرين بزي هنود أمريكيين على متن السفن الثلاث وألقوا 342 صندوقًا من الشاي في مياه المحيط. أدى هذا الحدث، الذي أصبح يُعْرَف باسم "حفل شاي بوسطن،" في النهاية إلى إشعال فتيل حرب الاستقلال.

فقد رأت الحكومةُ البريطانيةُ في هذا "الحفل" استفزازًا وتحديًا صريحًا لسلطتها، فقررت توكيد سيطرتها. أقر البرلمانُ مجموعةً من الإجراءات العقابية التي عُرِفت باسم "القوانين القسرية" لمعاقبة ولاية ماساشوسِتس. كان أحد هذه القوانين يقضي بإغلاق ميناء بوسطن إلى أن تدفع المدينة ثمن الشاي الذي أتلفه المتمردون في المحيط. ما لم تتوقعه الحكومة البريطانية هو أن إجراءاتها هذه وحَّدت الولايات الأخرى التي تضامنت جميعًا مع ماساشوسِتس. وانعقد الكونغرس القارِّي الأول سنة 1774 لتنسيق الرد على الاضطهاد البريطاني.

صاغ الكونغرس إعلان الحقوق والمظالم، وأكَّد حق المستعمرات في الوحدة والمقاومة. تصاعد التوتر بين الحكومة البريطانية والمستعمرات الأمريكية، فاندلعت معركتا لِكسِنغتِن وكونكورد في نيسان 1775، فأصبح الصراع علنيًا. وفي 1776 تبنى الكونغرس القارّي الثاني إعلان الاستقلال الذي حدد المظالم ضد الملك جورج الثالث. وبهذا الإعلان بدأت الثورة الأمريكية رسميًا. استمر الصراع عدة سنوات، ولم ينتهِ إلا بمعاهدة باريس (1783) التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة. صِيغَ الدستور الأمريكي سنة 1787، وتولّى جورج واشنطن منصب أول رئيس للولايات المتحدة سنة 1789.

وهكذا تسبب مشروبٌ بريءٌ في ولادةِ أمةٍ جديدةٍ!