icon
التغطية الحية

بين عالمين.. صعود الدولة العثمانية في التأريخ الحديث

2023.06.27 | 14:33 دمشق

آخر تحديث: 28.06.2023 | 08:54 دمشق

بين عالمين.. بناء الدولة العثمانية
"بين عالمين.. بناء الدولة العثمانية" صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تلفزيون سوريا ـ وائل قيس
+A
حجم الخط
-A

يصنف كتاب "بين عالمين.. بناء الدولة العثمانية" للمؤرخ التركي جمال قفادار الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات للمترجم محمد عثمانلي، على أنه واحد من أبرز الدراسات العثمانية المرتبطة بعهدها الكلاسيكي، لما يقدمه من مناقشة للنظريات التي تناولت تأسيس الدولة العثمانية في الكتابات الأكاديمية التركية والغربية معاً، إضافة إلى مصادر التاريخ الأساسية مثل السجلات التجارية والمنمنمات لدراسة حدود الأناضول في القرون الوسطى بدينامياتها الاجتماعية والثقافية التي ساهمت بصعود الدولة العثمانية.

صعود الدولة العثمانية في التأريخ الحديث

يخصص مؤرخنا الفصل الأول "الدراسات الحديثة" لمناقشة البحوث العملية الحديثة التي أرخت لصعود الدولة العثمانية، ويرى أنها تنقسم إلى فئتين، الفئة الأولى خاصة بالتواريخ العثمانية منذ أوائل الأعمال المكتوبة في القرن الـ15 حتى أواخر العهد الإمبراطوري، التي تميل إلى البدء من نسب عثمان (ابن أرطغرل)، وحلمه على خلفية الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في غرب آسيا، بينما تعود الفئة الثانية تعود للمصادر الأوروبية التي ركّزت على الأصول الإثنية أو العرقية بدلاً من نسب عثمان، وهي المقدمة التي ينطلق منها لمناقشة هذه المصادر، والمقارنة بينها.

من بين النقاشات التي تضمنها هذا الفصل – على سبيل المثال لا الحصر نظراً لتعدد المؤرخين – يمكننا الإشارة إلى مناقشة قفادار لدراسة "أطروحة الغزاة" للمستشرق والمؤرخ النمساوي باول ويتك، وملخصها أن "القيادة السياسية والعسكرية لمناطق الحدود كانت تابعة دائماً للغزاة؛ فمنذ أواخر القرن الحادي عشر، جرت السيطرة على المناطق الحدودية في الأناضول من الغزاة الذين لم تتوافق نشاطاتهم المستقلة والمتقطعة وغير المستقرة دائماً مع السياسة الواقعية المستقرة لإدارة السلاجقة"، حيثُ يُعرف عن العثمانيين أنهم كانوا مجموعة قبائل موزعة على حدود الأناضول مع البيزنطيين، قبل أن يمهد عثمان لمرحلة توحيدهم، ويكمل أتباعه المهمة من بعد وفاته.

يبني ويتك نظريته على فكرة أن أتباع عثمان الذين كانوا واحدة من بين مجموعة الدويلات الصغيرة غرب الأناضول هم الذين قاموا بتأسس الدولة العثمانية، ونجاحهم جاء بسبب "تموضعهم في ضواحي المنطقة الحدودية غير المستقرة"، ما جعلهم المجموعة الأقرب إلى واحدة من أضعف نقاط بيزنطة دفاعياً. وكان لهذا القرب أن منحهم "ميزة نسبية في استغلال روح الغزوة بالنسبة إلى الإمارات الأخرى التي لم تكن ذات موقع استراتيجي أو ذات تنظيم قوي؛ فنجاحاتهم المبكرة، بدورها، زودت العثمانيين بمصادر جديدة للمحاربين (بمن في ذلك معتنقو الإسلام)، ما ساعد على مزيد من نموهم".

من بين المؤرخين الذين اشتغلوا على نقض "أطروحة الغزاة"، يوجد المؤرخ رودي بول ليندنر الذي يرى أن ويتك بنى أطروحته على نقش بورصة 1337 وتاريخ أحمدي، وهو يحاجج في نظريته – وفقاً لما ينقل قفادار – مفسراً هذين المصدرين "بأنهما يعكسان أيديولوجيا لاحقة للدولة العثمانية المستقرة بدلاً من الروح [الحقيقية] للعثمانيين الأوائل"، ويضيف مقترحاً "تجنّب مثل هذه [التصريحات الأيديولوجية اللاحقة]، ويؤسس لحجته على أفعال العثمانيين المبكرة"، ويتابع ليندنر معززاً نظريته بالإشارة إلى أنه لو كان العثمانيون بالفعل متحمسين لـ"روح الغزوة"، فإنهم ما كانوا ليجندوا البيزنطيين، أو يقاتلوا ضد قوى إسلامية أخرى، أو يمارسوا أي ضغط على المسيحيين لتحويلهم عن دينهم، أو حتى المؤرخون البيزنطيون المعاصرون كانوا يسجلون العداء الديني كعامل في الحملة العثمانية في مصادرهم.

في تعليقه على نظرية "أطروحة الغزاة" يرى قفادار أن ويتك استند في وصفه لـ"بيئة الغزاة وروحهم الجماعية إلى ما اعتبره حقائق تاريخية لا إلى تعريف مسبق للغزوة والتي لم تكن تعريفاً قانونياً بل كانت تعريفاً تاريخياً أخذ في الاعتبار توصيفات المؤلفين في العصور الوسطى (...) لنوع اجتماعي معين يسمى الغازي ويرتبط بالمناطق الحدودية للإسلام". فالغزاة كما حددهم منتقدو "أطروحة الغزاة" "هم رجال قساة يقاتلون بلا هوادة من أجل مثلهم النبيلة الجامحة"، ويضيف موضحاً بأنه "ليس من المستغرب أن يُعثر على هؤلاء الرجال لا كعامل حقيقي في التاريخ العثماني المبكر، وإنما ببساطة كابتكار أيديولوجي للتأريخ العثماني اللاحق"، من خلال تفسير للمصادر التي تصف "نشاطاتها وعلاقاتها بالفئات الاجتماعية الأخرى، وخصائصها الثقافية كما تتجلى في سياقات تاريخية معينة".

الغزاة والغزوة في سرديات المناطق الحدودية في عصر الأناضول الوسيط

يقدم قفادار في الفصل الثاني "المصادر" قراءة تقارن لبعض الفترات في مجموعة ذات صلة خاصة من المصادر المترابطة، مؤكداً على أنه ليس هناك حتى وثيقة واحدة مكتوبة بطريقة غير قابلة للجدل تعود إلى أيام عثمان منذ أن حصل على لقب "البك"، ويدعم وجهة نظره بالإشارة إلى أن أجزاء الكتابة الوحيدة التي بقيت من أيام عثمان ليست مكتوبة على الورق بل على العملات المعدنية، إذ إن شعوب الحدود لم تكتب تاريخها حتى القرن الـ15، ما يجعل  التقاليد الشفهية، وخاصة السرديات التاريخية، تهيمن على الحياة الثقافية للقبائل الحدودية، وكان لهذه السرديات التاريخية المنسوجة حول المحاربين الأسطوريين والدراويش نوعان مترابطان سردياً لهما "دور بارز في تشكيل الوعي التاريخي لشعوب الحدود: ملاحم المحاربين وسيَر الأولياء".

يرى قفادار في هذا الجانب أن القصص المختلفة عن المحاربين العرب، بما في ذلك "التاريخ الإسلامي المبكر أو من تمدُّد الحدود العربية البيزنطية وانحسارها، استمرت آثارها لدى مسلمي الأناضول، وذلك حتى بعد أن اكتسب الناطقون باللغة التركية هيمنة على المنطقة"، فهي لم تكن ملاحم قومية بل "ملاحم صراع بين اتجاهين دينيين حضاريين"، سيطر عليها الجانب المسلم الناطق بالعربية ثم المتحدثين باللغة التركية، إذ إنها كانت تشمل المآثر العسكرية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى "أعمال المغازي" وحكايات عمه حمزة بن عبد المطلب، وصهره علي بن أبي طالب، كما أنها تتمتع بحكايات أخرى متنوعة من اللغتين العربية والفارسية بشعبية كبيرة، مثل عنتر نامه (نسبة لعنترة بن شداد)، وأبو مسلم نامه (نسبة إلى أبي مسلم الخراساني).

مرة أخرى، على سبيل المثال لا الحصر، نقتبس هنا من مناقشة قفادار لـ"دانيشماند نامه" (سيرة سلالة دانيشماند) التي تقع بعد معركة ملاذ كرد (1071)، والمسجلة لأول مرة في القرن الـ13. تخبرنا هذه السيرة بنشاط "الغزوة" منذ الأيام المزدهرة لـ"سيد بطّال غازي"، المحارب العربي الأسطوري، وهي تتضمن شخصيات من سيرة الخراساني "مثل شخصية رفيقه وصهره مِجراب"، وتذهب "دانيشماند نامه" إلى أبعد من ذلك بذكر أن "أبطالها المحاربين يأتون من جوانب مختلفة لا من منظور ديني وإثني فحسب، بل أيضاً من منظور جندري"، مثل قصة المرأة اليونانية أفروميا (حبيبة الأرمني مليك دانيشماند أرتوخي)، التي صورت غاراتها على ظهور الخيول ومشاركتها في قتالات الفروسية الفردية باسم الإسلام.

في الانتقال إلى السجلات الإخبارية عن آل عثمان، يرى مؤرخنا أن تراث المجتمع التركي الشفوي والكتابي الذي كان في شكل تاريخ الأولياء والملاحم "منح أولوية عالية لبطولة الغزوة" في أناضول القرون الوسطى، موضحاً أنها "فكرة معقدة ومدونة لا يمكن اختزالها في الحماسة العنيدة ضمن جزء من أيديولوجية المسلمين المستقيمين"، حيث يمكن لأي فرد طموح أن "يلبس ثوب الغازي"، لكن حتى يطلق عليه "لقب الغازي" يلزمه "تحقيق إنجازات معترف بها وغالباً ما تكون مصحوبة باستحقاقات". في هذا الجانب تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد روايات تاريخية معروفة عن مآثر العثمانيين قبل القرن الـ15، فقد "وجب الانتظار لأجل ازدهار مخيلة تاريخية مألوفة بين ممثلي طاقات مناطق الحدود في ما بعد الفترة السلجوقية حتى القرن الـ15"، إضافة إلى أن الإنتاج التأريخي الجديد للمصادر عن آل عثمان لم يصدر تحت رعايتهم بشكل مباشر.

في تلخيص سريع لوجهة نظر قفادار حول ارتباط "الغزوة" بالعثمانيين الأوائل، يعتبر أن التأريخ العثماني كان "مختزلا" في تطور "أيديولوجية الدولة"، الذي بدأ باعتماد العثمانيين الأوائل "القبليّة"، وعندما جاء المسلمون المتعلمون من الشرق "أقنعوا الحكام باعتناق الأرثوذكسية الإسلامية وأيديولوجية الغزوة كذلك، وبهذا جرى محو ذكريات الماضي [القبليّ] كلها"، وبحلول نهاية القرن الـ15، تم تكليف كتاب القصر "بتمجيد مؤسسي الدولة وذكرهم على أنهم غزاة". ومع ذلك، يرفض مؤرخنا اعتبار الكتابة العثمانية التاريخية في القرن الـ15 سواء كان أمراً مفروغاً منه أو لا  أن تستبعد من حيث أهميتها لفهم الواقع التاريخي للقرن السابق، إنما هو يؤكد على أنه يمكن لـ"قراءة نقدية معتمدة على شك منهجي أن يكون لها باع في كشف الحقائق الأساسية المنطوية تحت التشويهات الظاهرية".

استراتيجية التحالف والصراع: الإمارة الأولى

يناقش الفصل الثالث "العثمانيون: بناء الدولة العثمانية" الجوانب العلمية التي جرى بموجبها تشكيل المؤسسة السياسية برئاسة عثمان في تخوم الأناضول الغربية في أواخر القرن الـ13، إذ إنه على الرغم من أن جميع إمارات تلك المنطقة كانت وارثة لثقافة سلاجقة الأناضول السياسية، وفقاً لاقتباس قفادار عن المؤرخ محمد فؤاد كوبرولي، فإن العثمانيين كانوا أكثر "تجريبية في إعادة تشكيلها"، كما "أنهم كانوا أكثر إبداعاً في تقاليدهم المختلفة، سواء أكانت تلك التقاليد تركية أم إسلامية أم بيزنطية". فالتقليد العثماني، وفقاً لمؤرخنا، يؤكد أن القبيلة التي مثلت في وقت لاحق جوهر قاعدة عثمان الأولى للسلطة، جاءت إلى آسيا الصغرى مع جيل جده، في أعقاب الغزوات الجنكيزية في آسيا الوسطى.

على الرغم من استحالة تحديد تصرفات عثمان في بناء استراتيجيات طويلة الأمد، نظراً لأنه "ربما كان يتبع غرائز النهب ويعمل وفق محفزات اللحظة"، إلا أنه لا يمكن نكران إغفاله لمستقبل العلاقات الأسرية التي أقامها لنفسه، ولابنه أورخان من بعده. فقد "جرى دمج استراتيجيات الزواج في اللعبة السياسية التي مارسها عثمان بنجاح متزايد، وهو ما كان يرجع جزئياً – بلا شك – إلى بعض التعهدات العسكرية"، كذلك كان لقدرة عثمان على جذب المتطوعين الشباب في أثناء الغارات أثر مهم في تأسيس الإمارة الأولى، ومثلها "اعتدال السياسة المالية" في جعل الحكم العثماني مقبولاً أو متسامحاً مصحوباً بأمان واستقرار منطقتهم التي كان يعيش فلاحوها حالة من الإحباط نتيجة للاضطرابات التي كان سببها العثمانيون أو غيرهم.

من بين مجموعة العوامل التي كان لها دور في تأسيس الإمارة الأولى، يبرز أيضاً "المعاملة اللطيفة للأشخاص" التي جذبت الفلاحين، وفقاً لقفادار، وهو يدعم هذه الفرضية بالاستناد إلى وثائق المحفوظات التي تحتوي على سجلات التبرعات بالأراضي أو الإيرادات التي قدمها عثمان للدراويش، وبشكل أكبر للفقهاء. إذ إنه وبحلول منتصف العقد الثاني للقرن الـ14، كان العثمانيون يملكون هيكلاً إدارياً عسكرياً جعلهم يضربون العملات المعدنية بأسمائهم، وخصصوا أماكن لتجمعات العبيد والخدم، وأنشؤوا الأوقاف، وأصدروا وثائق مطبوعة باللغة الفرنسية. ومع ذلك، يبقى الاختراق الأكثر أهمية على مستوى القبيلة "أنها تعايشت مع وفاة عثمان من دون خسارة سلامة كيانها السياسي ووحدته"، إذ يسجل أول صراع على السلطة بين الإخوة العثمانيين في عهد مراد الأول (1362 – 1389)، قبل أن تبدأ شرعنة قتل الإخوة المنافسين للحكم في عهد مراد الثاني (1421 – 1451).

يمكن القول إن أزمة سبعينيات القرن الـ14 التي واجهها العثمانيون عندما شكك البعض بمسؤوليتهم عن الحدود كان لها دور في صعود إمارتهم وبناء التركيبة المؤسساتية، فقد كان لصمودهم أمام ظهور أنظمة حكم منشقة يرأسها أمراء حرب ناجحون، وتعاونهم مع أمراء الحرب الآخرين باتخاذهم تدابير سريعة وعنيفة أهمية في تحول نظام الحكم، فهم بعد خروجهم من هذه الأزمة تحول الأمير العثماني إلى سلطان، والذي كان لا بد من أن يرافقه تحول على الجانب العسكري بإنشاء الجيش الإنكشاري. فعلياً، لقد كان للتضاريس الجغرافية لحدود الأناضول في القرون الوسطى دور هام في مرونة الحركة والتنقل، حيثُ يرجع نجاح العثمانيين إلى "حقيقة أنهم استغلوا تلك الحركة لخدمة مآربهم الخاصة"، كما قاموا "بتشكيلها وترويضها لتتوافق مع رؤيتهم المركزية الساعية إلى الاستقرار".

أخيراً، لا يقدم المؤرخ جمال قفادار في كتاب "بين عالمين: بناء الدولة العثمانية" دراسة نقدية عن العثمانيين في المصادر التركية والغربية، بقدر ما يقدم "مقال تأريخي" موسع عن نشوء الدولة العثمانية تجري معالجته في إطار بحث علمي تاريخي يحاور الباحثين الأتراك والغربيين في الدراسات العثمانية. إذ إن الغرض من هذا الكتاب ليس تفكيك أسئلة الهوية والتأثير المتأصلين بدرجات متفاوتة في تاريخية عن العثمانيين، بل هو اعتراض هذه الأسئلة قبل التعامل مع حقبة تاريخية معينة كانت فيها الهويات في حالة تدفق سريع.