بين الفرح بالثلج والبكاء من المطر

2021.01.19 | 00:03 دمشق

000_1nc32b-1024x683.jpg
+A
حجم الخط
-A

تزدحم حياة السوريين بالمتناقضات؛ لا أعني فرحَ "سوريين" بموت إخوانهم برداً وجوعاً وقهراً، فقط لأنهم اختاروا أن يكونوا في مركب الحرية على الضفّة الأخرى من "الوطن" ذاته!

ولا أعني اغتناء ناس على حساب افتقار آخرين؛ فالحروبُ كلها كذلك، يكبر أناس ويصغر آخرون، يفتقر أناس ويغتني آخرون؛ فلا الغنيّ راضٍ لأنه يشرب ماء مالحة، ولا الفقير راضٍ لأنه لم يكن كذلك!

ولا أعني أن يموت رجل مخرجاً كان أو شيخاً أو سياسياً، فيصطفّ السوريون على جانبَي الجنازة؛ فهؤلاء يدفعونه في النار، وأولئك من "السوريين" أيضاً يرَونه "في مقعد صِدق عند مَليك مقتدر"!

..... بل ما يجعل العاقل يضطرب وتتداخل عنده الخطوط، فيتشوّش عقله وقلبه: أن "السوريين" أنفسهم أمام نعمة الله كالمطر والثلج ينقسمون؛ ولعلهم هذه المرة عن غير وعي ودون قصد.

فالصفحات الزرقاء والخضراء والحمراء "فيس بوك وتويتر وإنستغرام وواتساب" على ضفّتَين، كما هم السوريون في أكثر أمورهم من سنوات؛ فريقٌ ينشر صور الثلوج في إسطنبول وغيرها، ويزيّن بخطوطٍ عليها سيارته، أو يلعب ضاحكاً فرِحاً مع أولاده وأحبابه. وفريقٌ آخر ينشر صور غرق مخيمات "السوريين" في الشمال بسبب العاصفة ذاتها، التي يفرح بثلوجها ويمرح "سوريون" آخرون.

لا سلطة لأحد أن يعقد محكمة يخوّن فيها مَن يخرج ويفرح؛ فهذه هي الدنيا وما أشد دُنوّها! وهذه هي الحروب وما أقسى ظروفها وتقسيماتها!

ليس صعباً أن يُجاب بحال الدنيا في الفرح والحزن، وبتقلُّب الناس بين الشقاء والنعيم، وبالبراءة عن الحَول والقوة في هذا؛ فالناسُ قد افترقوا مع سَوط القدَر عليهم، فآخذٌ في سبيل نجاته يعمل ويجتهد – في حلال كان أو في حرام – بعيداً في غُربته يبحث في أي شيء يُسعده ومَن معه، وآخرُ ممسِكٌ بعنانِ نفسِه يقيم في المخيمات يرجو الفرج ليعود خيراً مما كان حاله، وكثيراً ما يرجو عودةً إلى ما دون حاله الأولى. ولا سلطة لأحد أن يعقد محكمة يخوّن فيها مَن يخرج ويفرح؛ فهذه هي الدنيا وما أشد دُنوّها! وهذه هي الحروب وما أقسى ظروفها وتقسيماتها!

وفي حربٍ كانت في أرضنا ذاتها منذ ما يربو على خمسة وسبعين عاماً حكَى الطنطاوي في مقال له بعنوان "تاجر حرب" عن أكواخ غرقت وشُرد أهلها، وهم بجوار قصرٍ لتاجر حرب من "السوريين" أنفسهم، فقال: "ومضت ساعةٌ؛ وأهلُ الحميَّة مِن الناس يعملون في الوحل والمطر والبرد، ليُواسوا أسرةً نزل بها القضاء، وينقلوا ما يستطيعون إنقاذه من فرشها ومواعينها، وذلك القصرُ ينظر إلينا ثم يُعرض عنا، قد شغلتْه حفلةٌ أقامها تلك الليلة لا أدري فيمَ أقامها، ولا تزال أنواره ساطعة في عيوننا، ونساؤه الكاشفات يتراءَين لنا من وراء الزجاج في الحرير والذهب، وأصوات الغناء والمرح في آذاننا تهزأ بالفقر وأهله، وتضحك وقحةً في مآتمهم وترقص فاجرةً في مقابرهم.... وما هذا القصر لملكٍ ولا أميرٍ؛ ولكنه لتاجرٍ من هؤلاء التجّار الذين يحيَون في أيام الحروب التي يموت فيها الناس، ويغنَون حين يفتقرون، وينسَون أن لهذا الكون إلهاً قادراً عادلاً جبّاراً... لهم بالمرصاد"؛ فدققتُ في الكلام ورجوتُ لو أن الطنطاوي حيٌّ فأتثبّت منه عمّن يتحدث!

وللإنصاف؛ والإنصاف عزيزٌ كما يُقال، فإن كثيراً ممن في الخارج أو في الداخل خارج المخيمات هم مَن يحملون الذين في المخيمات، أو يحملون معهم على الأقل؛ وشرذمةٌ قليلون أولئك الذين انفصلوا عن وطنهم بالكلّيّة مادياً ومعنوياً وأخلاقياً، ولا يُنشغل بمخاطبتهم؛ إذ لا أبصار لهم يرون فيها أهلهم ولا قلوب لهم ليشعروا بحالهم. يقول الطنطاوي في تتمة مقاله: "على أنني لا أعمّم القول ولا أطلقه إطلاقاً؛ وإنَّ مِن الموسرين لَـمُحسِنين، وفي التجّار لَـمُنصِفين، وما تخلو طبقة من خير ولا من شرّ. ولكنّ في الموسرين مَن يريد الإحسان ولا يعرف المستحق له، ومِن المستحقين مَن لا يعرف المحسنين، ومنهم مَن يعرف ولا يسأل؛ وأولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف".

فالحديث هنا بين أهل "القضية" أهل "الدم" الذي أُريق ويُراق، وفيهم مِن الخير ما يرَون به ويسمعون ويشعرون؛ وما أكثرهم!

نعم؛ ليس عيباً أن نفرح ونسعد، وليس حراماً أن يكون لنا ما للناس من مواقف وأحوال، ولكنّ ما ينبغي ألا نقع فيه أن نفرح بشيء يبكي أهلنا له ذاته على الأقل؛ فقبل أن تشارك صور فرحك ولعبك مع أولادك بالثلج وابتساماتكم للمطر تذكّر أن المطر ذاته أغرقَ إخوة لك، فإن رجعتَ أنت من فرحك بالمطر ورميتَ عنك ملابسك لتنعم بالدفء المركزي؛ فإنّ إخوة لك آخرين رجعوا فوجدوا أمتعتهم وقد مشت بها السيول، وبيوتهم من القماش قد تمزقت، فغرقت خيامهم على نحو ما غرقوا في أوحال حياة التشرد والنزوح؛ فهذا هو المشهد الحقيقي، وليس المشهد الدرامي الذي تُنشئه لنفسك، وإن كان على صفحتك الخاصة؛ فمَن غرقوا ومضت الأمطار والسيول بكل ما يملكون قد يقعون عليها وهم يبحثون عمن يجيبهم، فكيف تجد نفسك في أعينهم حينَها؟! هل ستبقى على فرحك أمام جيوش أحزانهم؟! هل تتمسك بخصوصيتك وقد انتثرت خصوصياتهم واختلطت بالوحل في المخيمات وعلى الشاشات؟!

نعم؛ "سنشدّ عضدك بأخيك" حملة طيبة تعكس شعور "السوريين" ببعضهم، وتقرّب المسافات بين قلوبهم وأرواحهم وإن تباعدت أجسامهم وتشتتوا في البلدان؛ ولكن هذا العنوان لا يكفي، وهذه الحملة لا تكفي، فما أقرب الشتاء وراء الشتاء!

الدعاء وحدَه – وما أعظمه من سلاح – لا يكفي، وإن اقتُصر عليه فهو مسلك عجز وتخاذل؛ وإن اعتُذر به فللقواعد من النساء وللعاجزين من الرجال، ليس غير

هنا تتجدد ضرورة بعثِ الثورة في نفوس السوريين "قضيةً" يحملونها، ويُرضعونها أبناءهم وبناتهم ويدرّسونهم مبادئها وتفاصيلها؛ فبهذه الوحدة الروحية والانسجام تتقارب القلوب على الدوام، ولا نحتاج كل عام لإطلاق حملات لمخيمات الشمال وأخرى لمخيمات عرسال، فلا بد من الاستمرار؛ فمَن زعم أن آلام الناس في المخيمات مع المطر وحده؟! أما تابعْنا آلامهم مع الحرّ والحرائق والعطش؟! أما نحسّ بحرمان أطفالهم من التعليم اللازم لهم؟! أم أننا سلّمنا – دون وعي منا – أن هذا قدرهم وحدهم؛ فعليهم أن يصبروا ويحتسبوا وعلينا أن ندعو لهم فحسب؟!

فالدعاء وحدَه – وما أعظمه من سلاح – لا يكفي، وإن اقتُصر عليه فهو مسلك عجز وتخاذل؛ وإن اعتُذر به فللقواعد من النساء وللعاجزين من الرجال، ليس غير.

وطريقُ الهروب باتهام الجهات العاملة كلها مغلقٌ في هذا الاتجاه؛ فأقِمْ صلاتك وحدَك وصلّ منفرداً، فالمهم ألا تترك الصلاة إن لم يعجبك الإمام! فامضِ في عون الناس براحتك، وانظر أي طريق تسلكه لإيصال الخير لأهلك؛ يكفي ألا يصرفك عنهم صارف تقبّل الله منك.

فإن فعلتَ – وأحسِب كل إنسان يفعل ما يستطيعه لأهله وإخوانه – فلا تنظر لأحد، ولا تقدّم كشف حسابك إلا لمن يحاسبُك، وهو مطّلع عليك فعلتَ أو لم تفعل؛ وهذا من خير ما يُعين المرء على العمل، فإنه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"؛ فالحديث على استفراغ الجهد وبذل الوسع نحو أهلنا بما نستطيع، بل بكل ما نستطيع، فإنْ عجزْنَا عن كل شيء فلن نعجزَ عن السعي لهم والشعور بهم؛ ألم نحفظْ معاً - مَن في البيوت وفي المخيمات، مَن في الداخل والخارج – حديث الرسول الأعظم: "مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مَثَلُ الجسدِ؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسدِ بالسهَر والحُمَّى"؛ وإخوانُنا وأهلنا اليومَ في سهرٍ من الألم وفي حمَّى من الغرق، فَلْنكنْ معهم؛ ألا ليتَنا جميعاً نَتَداعَى لإغاثتهم وعونهم.

كلمات مفتاحية