"بيبي" السيد رئيس الشعب (1)

2021.05.25 | 06:01 دمشق

thumbs_b_c_40380ef6096952f501ef05b5bb0951b8.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل أوحى لكم العنوان أني سوف أتحدث عما يدعونه انتخابات ستُرتَكب يوم غدٍ؟ لا لن أفعل. ولو كنت سأفعلها، فما كنت لأرتضي أن أصف كائناً طارئاً في التاريخ، لا بالسيد ولا بالرئيس. أنا أضع عنواناً حقيقياً، ما يعني أنني سوف أتحدث عن سيّد حقيقي ورئيس حقيقي.

حين بدأ المخرج الصربي "إمير كوستوريكا" التفكير بصنع فيلم عنه، وضع له عنواناً مبدئياً هو "رئيس الشعب"، لكن فيما بعد تحول العنوان ليكون "بيبي: حياة عظيمة"، في إحدى مقابلاته سيصف كوستوريكا رئيس الشعب بأنه "بطل السياسة الأخير". على كل حال، أنتم تعرفونه على نحوٍ ما، فسيارته الفولكس فاغن "بيتل" الزرقاء موديل 1987 التي تحمل اللوحة رقم SAO-1653""، باتت من أشهر السيارات في العالم، كما أنكم تعرفون الوصف الأثير الذي تداولته عنه كل وسائل الإعلام العالمية "أفقر رؤساء العالم". هو، على غير ما اعتدنا، رئيسٌ بمثابة نموذج لتذكير القادة بأن السياسة يجب أن تتحوّل إلى مهنة متواضعة ومشرفة.

نعم إنه كما خمّنتم، رئيس أورغواي "خوسيه موخيكا"، الذي قدّم إقرار الثروة الشخصية قبل تسلمه منصبه، فكانت تبلغ 1800 دولار، هو ثمن سيارته التي لا يملك غيرها أي شيء آخر. لموخيكا قول لافت وطريف: "لقد فعلت كل ما بوسعي لجعل الرئاسة أقل تبجيلاً"، وقد يكون أهم ما قيل عنه "إنه الرئيس الذي يرغب كل شعب آخر في الحصول عليه". في الإيديولوجيا (اللعينة)، يتساوى الحب الأعمى مع الكُره الأعمى. الأول يجعلنا نرى أمامنا ملائكة بلا خطايا ولا عيوب، والثاني يرينا شياطين مكتملين دون أي نقطة نور. يمكن لهذه الفكرة أن تجعلنا نقترب من هذا الرجل بطريقة معقولة.

كان واحداً من أهم قادة حرب العصابات التي شنتها مجموعة "توباماروس" اليسارية بمواجهة الديكتاتورية، نهاية ستينيات القرن الماضي في الأرغواي

خلف الوداعة الطفولية البادية على قسمات وجه الرجل العجوز (أنهى قبل أسبوع عامه السادس والثمانين)، تاريخ طويل من العمل المسلح، حين كان واحداً من أهم قادة حرب العصابات التي شنتها مجموعة "توباماروس" اليسارية بمواجهة الديكتاتورية، نهاية ستينيات القرن الماضي في الأرغواي، (سآتي على بعض تفاصيل هذا لاحقاً). تفككت منظمة توباماروس، وانتهت تنظيمياً عام 1972 بمقتل أكثر من 300 من أعضائها، واعتقال حوالي 3000 آخرين. سيقضي موخيكا حوالي ثلاثة عشر عاماً في السجن، ولن يخرج للنور ثانية إلا عام 1985 بعد عودة الديمقراطية إلى الأورغواي. سيبدي موخيكا في سنوات ما بعد السجن الكثير من الملاحظات على أسلوب الكفاح الذي انتهجه مع رفاقه، ومع ذلك، فإن أرضيته اليسارية، ستجعل ملاحظاته مخفّفة على نحوٍ ما. يعترف مثلاً أن السطو على بنك جريمة ولا شك، ولكنها أقل شأناً من جريمة إنشاء بنك يعتاش على نهب أموال الناس. على أية حال، مهما كانت ميول الإنسان السياسية، فمن المستحيل ألا تسحره فرادة هذا الرجل عندما يراجع ويبحث في تاريخ حياة موخيكا الشخصية والعامة.

في أكثر من مناسبة، يتحدّث عن فترة سجنه: هناك، كان أصدقائي بضعة جرذان وضفدع صغير، أتقاسم معهم فتات الخبز. ويضيف: ليس لدي شك في أنني لو لم أعش تلك التجربة، لما كنت سأغدو هكذا، وعلى الأرجح كنت لأصبح أكثر سطحية وتفاهة وانسياقاً خلف النجاح والوقار، وهو ما لست عليه اليوم. كان للسجن والحبس الانفرادي، والعيش بوحشة شديدة خلال ثلاث عشرة سنة، تأثير كبير علي. في تلك الأيام، كان علي أن أجد قوة داخلية هائلة كي أستمر، وأغدو أنا.

نجح "بيبي"، وهو لقبه في بلاده ويعني "الصغير"، في انتخابات رئاسة الأورغواي التي جرت في خريف عام 2009، وتسلم منصبه في مطلع مارس 2010. منذ ذلك التاريخ، سيصبح علامة فارقة ليس بين رؤساء الأورغواي، وترتيبه الأربعون بينهم، بل بين جميع رؤساء العالم وعلى مرّ التاريخ. فقد بدا الرجل في منصبه صورة شاذة عن باقي الرؤساء، لا لشيء سوى أنه تمسّك ببقائه إنساناً طبيعياً، بل فظاً في بعض الأحيان. يطرح الأسئلة والمواضيع العادية بطريقة طبيعية ومباشرة، على غير عادة الرؤساء، دون شعور بالإحراج. ستكون مفاجأة، ونحن نرى بساطة ثيابه وتواضع اهتمامه بشكله حالياً وخلال رئاسته، أن نعرف بأنه بدأ يهتم بهندامه هذا، وحتى بتصفيف شعره بعد ترشحه للمنصب، وبإلحاح من مدير حملته الانتخابية، وأن هيئته اليوم هي نقلة نوعية حدثت خلال فترة الرئاسة.

في عام 1994 عندما أصبح موخيكا عضواً في البرلمان بصفته أحد ممثلي تحالف "الجبهة العريضة" اليساري، كان يذهب لجلسات النواب بواسطة دراجته النارية (فيسبا)، الأمر الذي لم يفعله أي زميل آخر. وغالباً بثياب لا تليق بنائب برلماني حسب الصورة النمطية لنواب البرلمان، ببدلاتهم الرسمية وربطات عنقهم الأنيقة. في أول حضور له في البرلمان سيوقف "بيبي" دراجته أمام المبنى ويترجل، فيسأله الشرطي: سيدي هل ستبقى هنا طويلاً؟ كان الشرطي يقصد وقوف الدراجة في مكان غير مناسب. فيجيب موخيكا: لا أعلم، ولكن أتمنى ذلك. وكان يقصد عضويته في البرلمان.

تخلى عن ولايته كعضو في مجلس الشيوخ بسبب الشيخوخة، رفض أن يكون له راتب تقاعدي، كأي عضو متقاعد من المجلس

حاز "بيبي" على لقب "أفقر رئيس في العالم"، بعد أن عُرف عنه تقشفه، وتبرعه براتب الرئيس الشهري، البالغ اثنا عشر ألف دولار، لأعمال خيرية وخاصة لبرامج الإسكان الاجتماعي للأمهات العازبات، ولم يحتفظ لنفسه سوى بأقل من 800 دولار شهرياً لمصاريفه. رفض الانتقال والسكن في القصر الرئاسي، وتابع حياته مع زوجته " لوسيا توبولانسكي" في مزرعتها الريفية، حيث كان موخيكا بستانيّاً يزرع ورد الأقحوان ويبيعه في السوق المحلّي. هناك تابعا حياتهما الرئاسية، ضمن بيت متهالك إلى حدّ كبير، مكوّن من غرفتين إحداهما للنوم والأخرى للمعيشة، مع كلبتهما ذات الأرجل الثلاثة "مانوليا"، وبدون خدم على الإطلاق. فقد رفضا استخدام أي من الموظفين العاملين في القصر الرئاسي. لم يكن في مكان إقامتهما هذا، سوى ضابطي أمنٍ لحراسة الرئيس حسب الأنظمة، لكنهما كانا يبقيان على الطريق، بعيداً عن البيت والجيران وبلباس مدني. في أكتوبر 2020 عاد موخيكا ثانية لموقف مشابه لزهده بميزات الرئاسة. فحين تخلى عن ولايته كعضو في مجلس الشيوخ بسبب الشيخوخة، رفض أن يكون له راتب تقاعدي، كأي عضو متقاعد من المجلس.

قد يكون هناك بعض السياسيين على درجة عالية من المثالية والصدق في شتى أنحاء العالم، لكن بالتأكيد فإن أحداً لن يشبه "بيبي" حين تكون المقارنة حول الالتزام الصارم للعيش في الواقع، بما ينسجم مع الأفكار والمبادئ الخاصّة. شخصيّة وحياة موخيكا تشبه إلى حد التطابق، كلماته ومبادئه.

كلمات مفتاحية