icon
التغطية الحية

"(بيان) الفلاسفة (العرب)" والقضية الفلسطينية

2024.02.09 | 15:53 دمشق

فغلا
+A
حجم الخط
-A

منذ ثلاثة أسابيع تقريبًا، وفي 19 يناير/ كانون الثاني تحديدًا، أصدرت "وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية"، في "المعهد العالمي للتجديد العربي"، بيانًا بعنوان "بيان الفلاسفة العرب - من أجل فلسطين". ولم يتضمن البيان ذكر أسماء الفلاسفة العرب المتبنين لهذا البيان، او الموقعين عليه، لكن يبقى إصدار مثل هذا البيان، في العالم العربي، حدثًا مميزًا يستحق الوقوف عنده.

لوهلةٍ أو أكثر، يبدو إيجابيًّا أن يكون هناك فلاسفةٌ عربٌ، وأن يكون لهم صوتٌ جماعيٌّ مؤسساتيٌّ، في المجال العام، مع أن هذا الصوت لا يُسمع، أو لا يُسمح له بالصدور أصلًا، في كثيرٍ من الأحيان، إلا إذا كان موجهًا إلى خارجٍ ما، ومن دون أن يمس بالقوى والسلطات (السياسية) المهيمنة في "الداخل". ويبين هذا الصوت الفلسفي (العربي) إمكانية أن يكون المثقف عمومًا، والفيلسوف، أو المشتغل في الفلسفة، خصوصًا، مرتبطًا بقضايا عينيةٍ وراهنةٍ في واقعه ومحيطه، بعيدًا عن (تهمة) الانعزال في البرج العاجي المشهور الذي يشبه الكهف الأفلاطوني. وتبدو أهمية هذا الصوت الفلسفي مضاعفةً، حين يكون، أو حين يسعى إلى أن يكون، كاشفًا وموضوعيًّا وعقلانيًّا ومنصفًا، معرفيًّا وأخلاقيًّا وأيديولوجيًّا. وهذا ما سعى الفلاسفة العرب إلى القيام به، في بيانهم المذكور، بغض النظر عن مدى (عدم) نجاحهم في مسعاهم المذكور. وأقول هذا، انطلاقًا من اطلاعي على بعض كواليس إعداد ذلك البيان، من جهةٍ، ومن قراءتي لمضمون ذلك البيان، من جهةٍ أخرى. ومع أن شرف المحاولة قد يكفي، في بعض الأحيان على الأقل، فإن المراجعة النقدية لتلك المحاولة، وإظهار مدى نجاحها في تحقيق الغاية المرجوة منها، وتبيان أوجه القصور فيها، لمعالجتها وتجاوزها، أمرٌ بالغ الأهمية، من الناحية السياسية والعملية المتصلة بحياة الناس ومصائرهم، ومن الناحية المعرفية والنظرية المتصلة بفلسفية الخطاب الذي يريد أن يكون فلسفيًّا.

***

تبدو إيجابية البيان واضحةً في اتخاذه موقفٍ صريحٍ وجليٍّ مما يحدث في غزة، في الفترة الحالية، وفي فلسطين، عمومًا، منذ النكبة. ولا يتردد البيان في تسمية الأشياء بمسمياتها، عندما يتعلق الأمر بإجرام الاحتلال الإسرائيلي ومسؤولية الدولة (الغربية) الداعمة له، أو بمحاولات بعض المفكرين والفلاسفة تسويغ ذلك الاحتلال والإجرام، والتماس الأعذار له. ويبدو واضحًا أن البيان يتضمن انتقادًا خاصًّا لهابرماس، ولموقفه المساند لإسرائيل الذي ظهر في "بيان التضامن" الذي وقعه مع ثلاث شخصياتٍ ألمانيةٍ أخرى. ويبدو نص بيان الفلاسفة العرب متأثرًا ببيان التضامن الهابرماسي/ الألماني، ويمثِّل رد فعلٍ مباشرٍ عليه، بقدر ما هو متأثرٌ بجرائم الهجوم الإسرائيلي على غزة، ويمثل رد فعلٍ مباشرٍ على ذاك الهجوم. tهابرماس هو الفيلسوف أو الشخص الوحيد الذي يرد ذكر اسمه في البيان. كما أن الإحالة على أفكار هابرماس حاضرةٌ، بشكلٍ متكررٍ، في أكثر من موضعٍ في البيان.

أثار "بيان التضامن الهابرماسي" ضجةً كبيرةً، في الأوساط المتابعة للقضية الفلسطينية، وللصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيلي. وعمومًا، يستحق ذلك البيان الهابرماسي" الكثير من الانتقادات التي وجهت إليه، ومنها تلك الحاضرة، صراحةً أو ضمنًا، في "بيان الفلاسفة العرب". وقد أشرت في نصٍّ سابقٍ – "الفلسفة وألمانيا والقضية الفلسطينية: "العار، العار"" – إلى ضرورة تجنب بعض ردود الفعل التي تضمنت بعض التعميمات المجحفة في حق ألمانيا والغرب عمومًا، من جهةٍ، وفي حق الفلسفة (الغربية) وقيم التنوير، من جهةٍ أخرى. ونجد مثل هذه التعميمات، على سبيل المثال، في حديث الفيلسوف والناقد الثقافي الإيراني الأمريكي حميد دباشي، عن أن "حرب غزة قد كشفت الإفلاس الأخلاقي للفلسفة الغربية"! ويحاول بيان الفلاسفة العرب تجنب هذه التعميمات، أحيانًا، من خلال استخدام الصيغ التبعيضية. ويبدو ذلك واضحًا وبارزًا، على سبيل المثال، في انتقاده ﻟ "تناقضات بعض فلاسفة الغرب وتصريحاتهم ومواقفهم العلنية بخصوص القضية الفلسطينية"، والإشارة النقدية إلى أن "نظرةً استعلائيةً تمييزيةً عنصريةً لا تزال تحكُمُ ذهنيَّةَ بعض فلاسفة الدول الكبرى الغربية تجاه الإنسان عمومًا".

في المقابل، ما يمكن أخذه على البيان، بالدرجة الأولى، هو الاقتصار على التركيز على ذلك "البعض"، مع اللامبالاة الكاملة بوجود بعضٍ (فلسفيٍّ) غربيٍّ آخر مختلفٍ عن "البعض الأول"، ومخالفٍ أو مناقضٍ له، ولا يقل أهميةً عنه، بل قد يفوقه أهميةً وقيمةً، كمًّا و/ أو كيفًا. فهابرماس وصحابته لم يكونوا لا أول ولا آخر من أدلى بدلوه، أو سطل بسطله، من الفلاسفة، الغربيين، وغير الغربيين، في هذا الموضوع، موضوع الصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيل، أو ما حدث في غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. فقد سبقهم إلى ذلك مئات وربما آلاف الفلاسفة الذين تناولوا تلك المسألة، في البيانات التي أصدروها أو وقعوا عليها، و/ أو في المقالات أو النصوص التي كتبوها ونشروها، و/ أو في الكلمات والخطاب التي قدموها أو ألقوها في عديدٍ من المناسبات، و/ أو في الحوارات الفكرية والإعلامية التي أجريت معهم خلال تلك الفترة. وقد أشرت، في مقالي المذكور آنفًا، إلى أن التوازن والاعتدال المنصف هو السمة الغالبة للمواقف الصادرة عن معظم الفلاسفة في خصوص "الصراع الفلسطيني/ العربي الإسرائيلي". وكان حريًّا ﺑ "الفلاسفة العرب"، أن يشيروا إلى ذلك، في بيانهم، وينوهوا به، ويأخذوه في حسبانهم، بدلًا من جعل بيانهم أقرب إلى رد فعلٍ أحاديٍّ منفعلٍ على "البيان الهابرماسي".

أراد "الفلاسفة العرب"، في أو من بيانهم، أن يقولوا إنهم يتبنون فلسفةً إنسانيةً عقلانيةً كونيةً تتضمن قيم "الإنسانية والكونية والحق والعدل والحياة" ولكن خطاب البيان بدا أقرب إلى أن يكون أيديولوجيًّا متحيزًا إلى روابط النسب، ومفتقرًا إلى الرؤية المبدئية الشاملة والمتوازنة والمنصفة

و"بيان الفلاسفة العرب" أحاديٌّ، بمعنيين أو من ناحيتين. فهو أحاديٌّ، من ناحيةٍ أولى، لكونه يركز على "البعض الهابرماسي"، من دون إظهار أي اهتمامٍ – ولو حتى بالذكر أو الإشارة (الصريحة) – ﺑ "البعض الآخر" الذي يشكل، وفقًا لاطلاعي (غير) المتواضع، الأغلبية السائدة، في الخطاب الفلسفي الحاضر في المجال العام الأكاديمي وغير الاكاديمي، الغربي وغير الغربي. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، البيان المذكور أحاديٌّ، لأنه يقتصر على تبني رؤيةٍ بسيطةٍ أو تبسيطيةً للصراع والمسائل المتصلة به. ووفقًا لتلك الرؤية، ثمة حقٌّ فلسطينيٌّ مطلقٌ لا تشوبه شائبةٌ، ولا يأتيه الباطل من أيٍّ من جهاته، مقابل باطلٍ إسرائيليٍّ/ صهيونيٍّ مطلقٍ ليس فيه ذرة حقٍ ولا أي قيمةٍ، معرفيةٍ أو أخلاقيةٍ، إيجابيةٍ. ويبدو واضحًا أن هذا التقسيم أو التصنيف المانوي مناسبٌ للخطاب الأيديولوجي، أو معبرٌ عن أيديولوجية حطاب البيان، ولا يتناسب (كثيرًا) مع مقتضيات الخطاب الفلسفي. صحيحٌ أن الفلسفة بحثٌ في المجردات التي قد تتخذ صيغة مطلقاتٍ نظريةٍ: "الحقيقة، الخير، الجمال". لكن ثمة تواضعٌ على أنه ليس ثمة تعينٌ أو تجسدٌ كاملٌ لتلك المجردات المطلقة إلا في عالمٍ مثاليٍّ أفلاطونيٍّ أو في إلهٍ عند المتدينين. أما عالمنا الإنساني المعيش فخالٍ ليس من الآلهة فحسب، بل من الملائكة والشياطين أيضًا. وبدلًا من الاقتصار على تصوير الإسرائيليين على أنهم مجرمون، وليس لهم أي حقٍّ، وتصوير الفلسطينيين على أنهم ضحايا، وليس عليهم أي لومٍ ولا يتحملون أي مسؤوليةٍ، كان من الضروري إضفاء طابعٍ فلسفيٍّ ونسبيٍّ على تناول الأمور، دون أن يعني ذلك المساواة الجائرة بين الطرفين. فالحق الفلسطيني واضحٌ وقويٌّ معرفيًّا وقانونيًا وأخلاقيًّا، ولا حاجة إلى تنزيهه، وجعله مطلقًا، وباطل الاحتلال الإسرائيلي واضحٌ وقويٌّ، أيضًا، ولا حاجة إلى المغالاة، في هذا الخصوص، وشيطنة كل ما يمت لإسرائيل أو للإسرائيلي بصلةٍ، شيطنةً مطلقةً. فمثل هذه الملأكة وتلك الشيطنة تليقان بخطابٍ سياسيٍّ أو أيديولوجيٍّ تبسيطيٍّ، وليس بخطاب فلسفيٍّ أو يريد أن يكون فلسفيًّا ومتعمقًا.

في مثل هذه السياقات، النقد الذاتي، في حدوده الدنيا على الأقل، مطلوبٌ وضروريٌّ. ويمكن لذلك النقد الذاتي، "من الداخل"، أن يكون، في أحيانٍ كثيرةٍ، أكثر أهميةً ومشروعية وتأثيرًا من النقد الذي يوجهه الآخرون، "من الخارج". وهذا هو حال النقد الذي يوجهه الفلاسفة إلى الفلسفة أو إلى فلاسفة آخرين، أو النقد الذي يوجهه الفلاسفة الغربيون إلى الغرب أو الفلسفة الغربية، أو النقد الذي يوجهه (الفلاسفة) اليهود إلى إسرائيل وإلى احتلالها وجرائمها. فلمثل ذلك النقد (الذاتي) قيمةٌ أكبر من تلك التي يتمتع بها النقد الذي يوجهه الآخرون إلى الأطراف المذكورة. ومعروفٌ، على سبيل المثال، أن أصوات اليهود المعارضين للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه هي أكثر الأصوات المنتقدة لإسرائيل، أهميةً وعلوًّا وحضورًا وتأثيرًا في ألمانيا وغيرها من "الدول الغربية". والجدير ذكره، في هذا السياق، أن الفيلسوفة "اليهودية نسبًا" جوديث بتلر كانت من أبرز وأول الأصوات الفلسفية الناقدة للجرائم الإسرائيلية الحالية في قطاع غزة، والمبرزة للحقوق الفلسطينية المغتصبة أو المقموعة. وإضافةً إلى نصها المهم "بوصلة الحِداد"، أصدرت بتلر، مع مئاتٍ من الفلاسفة، الغربيين وغير الغربيين، بيانًا يتضمن إدانةً صريحةً وجليةً للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، ومن ضمنها هجومه الأخير على قطاع غزة.

في كل خطابات الفلسفية الغربية الناقدة لإسرائيل، والمقرة بكامل حقوق الفلسطينيين، هناك نقدٌ أو انتقادٌ موجه للفلسطينيين أو لحماس تحديدًا. ويحصل هذا النقد/ الانتقاد، في إطار الإدانة المبدئية الحازمة لاستهداف المدنيين عمومًا، ولاستهداف الأطفال والعجائز والمستضعفين خصوصًا. وفي حين أن الخطاب الإسرائيلي/ الغربي، المتحيز بتطرفٍ لصالح إسرائيل، يتحدث عن "حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها"؛ فإن الخطاب المتطرف الذي يقابله يتضمن حديثًا مشابهًا عن حقٍّ فلسطينيٍّ مطلقٍ لا تشوبه أي شائبةٍ، لا نظريًّا ولا عمليًّا. ومن هذا المنظور، وبهذا المعنى، يمكن الحديث عن تطرف خطاب "بيان الفلسفة العرب" وأيديولوجيته ولا-فلسفيته، في الوقت نفسه.

***

أراد "الفلاسفة العرب"، في أو من بيانهم، أن يقولوا إنهم يتبنون فلسفةً إنسانيةً عقلانيةً كونيةً تتضمن قيم "الإنسانية والكونية والحق والعدل والحياة"، لكن خطاب البيان بدا أقرب إلى أن يكون خطابًا أيديولوجيًّا متحيزًا إلى روابط النسب، ومفتقرًا إلى الرؤية المبدئية الشاملة والمتوازنة والمنصفة لكل الأطراف، وهي الرؤية المفترض وجودها في كل خطابٍ يريد أن يكون "إنسانيًّا" و"كونيًّا" و"فلسفيًّا". وفي مثل هذه الخطابات الأيديولوجية، تُستخدم القيم ومنظومة حقوق الإنسان لنقد الآخر أو جلده أو حتى "تعييره"، لكن من دون اتخاذ موقفٍ مماثلٍ من الأنا الفردية و/ أو الجمعية وما يتصل بها. ويصعب على ذلك الخطاب المتحيِّز لمحليته ولنسبه، أكثر من تحيزه المبدئي والفعلي للمبادئ الكونية التي يعتقد أنه ينتسب إليها ويتبناها، أن يشغل المكان أو المكانة اللذين يود أن يشغلهما في النقاشات العالمية الموازية والمتوازنة، معرفيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا أو أيديولوجيًّا.

وينوس "بيان الفلاسفة العرب"، في خصوص القيم أو المبادئ الكونية والحداثية والعقلانية، بين "ندمٍ (ضمنيٍّ)" على تبني رؤيةٍ عالميةٍ تجاه تلك القيم، من جهةٍ، وتبنٍ صريحٍ لتلك القيم، لاستخدامها في عملية لومٍ لبعض الفلاسفة الغربيين على تناقض أقوالهم و/ أو أفعالهم مع تنظيراتهم وفلسفاتهم، من جهةٍ أخرى. ويبدو الندم (الضمني) المذكور، واضحًا، على سبيل المثال، في حديث البيان عن الاعتقاد ﺑ "الاشتراك مع الإنسانية جمعاء في أصول الفكر العقلاني". فالبيان يتحدث عن ذلك الاعتقاد بصيغة الماضي وعن كونه قد حصل سابقًا لفترةٍ طويلةٍ، بما يوحي أو يعطي الانطباع بأنه لم يعد مستمرًّا أو حاضرًا، في الوقت الراهن، كما كان الحال سابقًا. أما عملية لوم بعض الفلاسفة الغربيين فتتضمن، أحيانًا، شخصنةً للفلسفة أو الفكر، وتعطي الانطباع أن التناقض المذكور بين أقوال الفلاسفة و/ أو أفعالهم وتنظيراتهم وفلسفاتهم يقلل من قيمة تلك القيم والفلسفات أو التنظيرات المستندة إليها.

ولعل التوترات المعرفية التي يتضمنها "بيان الفلاسفة العرب" تتجلى وتتكثف، خصوصًا، في الدعوة التي يتضمنها البيان والموجهة إلى كل "المفكرين والفلاسفة في كل أنحاء العالم إلى الانضمام إلى صوت الفلاسفة العرب". فهذه الدعوة تجهل أو تتجاهل أن أصوات مفكرين وفلاسفة كثر، من كل أنحاء العالم، قد علت، مسبقًا، في هذا الخصوص، حتى قبل أن يفكر "الفلاسفة العرب" بإصدار بيانهم المذكور. وكان حريًّا بهؤلاء الفلاسفة العرب أن يعلنوا، هم، التحاقهم بالفلاسفة غير العرب، مع التنويه بريادتهم، بدلًا من أن يكتفوا بدعوة الآخرين إلى الانضمام إليهم، مع ما يتضمنه ذلك الاكتفاء من زعمٍ، صريحٍ أو ضمنيٍّ، بالريادة، وجهلٍ أو تجاهلٍ، فعليٍّ، لمبادرات الآخرين وأسبقيتهم، في هذا الخصوص. وربما كان من الضروري إبراز تلك المبادرات والأسبقية المذكورة، في مثل هذه السياقات، لتجاوز حالة الانقسام المصطنعة التي يريد كثيرون فرضها واستغلالها بين "شرقٍ" و"غربٍ"، أو بين "نحن" و"هُم" ... إلخ. ففي مثل هذه السياقات، وفي غيرها، ينبغي الابتعاد عن وهْم أن "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدًا". فمن الممكن لشرقٍ أن يلتقي بغربٍ، بدون أن يكون، هو ذاته، قادرًا على الالتقاء بذاته أو بشرقٍ آخر، فعليًّا كان أم متخيلًا. كما أن الشرق ليس شرقًا فقط، والغرب ليس غربًا فقط، ولا معنى للحديث عن هذين الطرفين، المتخيلين أو الفعليين، بوصفهما مثنويةً ثقافيةً، يقصي كل طرفٍ فيها الطرف الآخر، بالضرورة. وعلى الرغم من أن بيان الفلاسفة العرب قد حاول تجنب الوقوع في مطب المثنوية الموهومة والمؤذية المذكورة، فإن حضور بعض الأفكار فيه، وغياب أو تغييب بعض الأفكار الأخرى، يمكن أن يدفعا في اتجاه تبني تلك المثنوية، أو استحضار طيفها على الأقل.