"بودكاست سليماني" والتَّأدُّبُ في حضرةِ "الجزيرة"

2020.05.23 | 00:18 دمشق

medium_2020-05-13-2a9c7fe169.jpg
+A
حجم الخط
-A
  • معالم السّياق

ما إن نشرت بودكاست الجزيرة حلقتها عن قاسم سليماني بعنوان "سليماني .. رأس حربة إيران" حتّى اشتعل الغضب الشّعبيّ في بلاد الثّورات التي اصطلت بنيران سليماني وجنوده لا سيما في سوريا والعراق واليمن، وسرى الغضب بسرعةٍ ليتحوّل إلى موجةٍ عارمةٍ من الاحتجاج اجتاحت وسائل التّواصل الاجتماعيّ مطالبةً الجزيرة بحذف الحلقة والاعتذار لدماء الضّحايا وعذابات المكلومين الذين رأوا في الحلقة تمجيدًا لقاتلهم ومدحًا لمن تسبّب بدمار بلدانِهم التي ما تزال تنزف حتّى الآن شهداءً ومعتقلين ومهجّرين.

أمّا بودكاست الجزيرة فاكتفت بحلقة استثنائيّة تحت ضغط هذه الهجمة تحاول فيها تبريرَ الحلقة من خلال طرح فلسفة البرنامج، والتدليل على أنّ الحديث التَّمجيديّ للشخصيّة لا يعكس بالضرورة وجهة نظر المتحدّث بلسانها مدلّلين على ذلك بإجراء حلقاتٍ عن حافظ الأسد وصدّام حسين وعلي عبدالله صالح، ولكنّ هذا التبريرَ بدل إطفاء النّار المشتعلة زادَ أوارَها؛ فهو في حقيقته تبريرٌ غير منطقيّ ومقاربةٌ غير عادلة، فمن تابع الحلقات الأخرى يعرفُ جيّدًا الفرق بين حلقةِ قاسم سليماني وحلقة حافظ الأسد على سبيل المثال، فالرّسالة التي وصلت للمستمع من حلقة حافظ الأسد كانت واضحةً في أنَّ حافظ الأسد كان سبب دمار بلاده بينما الرّسائل التي أرسلتها حلقة سليماني كانت رسائل تمجيد للشخص ومدحٍ لأفعالِه والاعتراضات عليه كانت اعتراضاتٍ ضعيفةً باهتة.

 

  • البودكاست وميثاق الشّرف المهني

إنّ التّمجيدُ الفجّ لشخصيّة سليماني بحجّة أنَّ الحلقة تتحدّث بلسانه هو مبرّر غيرُ مقنعٍ ويتناقضُ مع المهنيّة والحياديّة الإعلاميّة.

وإنَّ الحلقة تحملُ من الاستفزاز ما يتناقض مع ميثاق الشرف المهني الذي أعلنته الجزيرة ميثاقًا لها في مسيرتها الإعلاميّة؛ فالمادّة الثّالثة فيه:

"معاملةُ جمهورنا بما يستحقّه من احترام، والتّعامل مع كلّ قضيّةٍ أو خبرٍ بالاهتمام المناسب لتقديم صورةٍ واضحةٍ واقعيةٍ ودقيقةٍ مع مراعاةِ مشاعرِ ضحايا الجريمةِ والحروبِ والاضطهادِ والكوارثِ وأحاسيسِ ذويهم والمشاهدينَ واحترام خصوصيّات الأفرادِ والذوق العام".

ولو أنّنا سلّمنا جدلًا بواقعيّة ما تضمّنته الحلقة من حديث سليماني عن نفسه بصيغة المتكلّم؛ ألا يتناقضُ هذا الأسلوب مع مراعاة مشاعر ضحايا الجريمة والحروب والاضطهاد الذين ذاقوا الكأس العلقم على يدَي سليماني؟!

ثمّ ألا تتناقضُ هذه الواقعيّة التي جعلت القائمين على الحلقة يختارون صورةً خاصّةً لسليماني وهو يتجوّل على أنقاض مدينة حلب بعد إخراج الثّوار السورييّن منها مع مشاعر هؤلاء الضّحايا الذين يعتبرون هذه الصّورة لا تقلّ ألمًا عن حزّ رقابهم بسكاكين جنود سليماني؟!!

إنَّ تحويل هذه الصّورة إلى إحدى الرّسومات المركزّية للحلقة واعتماد مقطع ترويجيّ للحلقة يتضمّن فقرةً تمجيديّة خالصةً بسليماني تظهره بطلًا عظيمًا دون إعطاء أيّ انطباعٍ آخر عن الوجه الآخر للشخصيّة مخالفٌ تمامًا لدليل السّلوك المهني الذي أعلنته شبكة الجزيرة وينصّ على:

"عند إعداد العناوين والمواد الترويجيّة أو استخدام الصّور والرّسومات التوضيحيّة (الغرافيكس) والمقتطفات والأقوال للتنويه بمادةٍ معيّنة، ينبغي تفادي التّهويل أو التّبسيط الذي يجافي محتوى المادة المذاعة، ويجب أن تكونَ المادة الترويجية خاليةً من الأحكام المسبقة، وبعيدةً عن التحيّز"

وأمام هذه المخالفة الصّريحة لحلقة سليماني لكلّ من ميثاق الشّرف المهني ودليل السّوك الإعلاميّ الذي تبنّته الجزيرة كان عليها أن تبادرَ إلى الاعتذار عن هذا الخطأ المهنيّ ولو كان غير مقصودٍ وتحذفَ الحلقة تنفيذًا للمادّة السابعة من ميثاق الشّرف المهني ونصّها:

"الاعترافُ بالخطأ فورَ وقوعه والمبادرة إلى تصحيحه وتفادي تكراره".

 

  • التّأدبُ في حضرةِ الجزيرة

من الطبيعيّ جدَّا أن يدخل الذّباب الإلكترونيّ على خطّ الاحتجاج على بودكاست سليماني، ويجدَ في ذلك فرصةً ليجعل من الموجة حفلةَ انتقامٍ من الامبراطوريّة الإعلاميّة التي ذاق بسببها وبال أمره والتي كانت صاحبة السبق في تسميته بالذّباب الإلكتروني هذا الاسم الذي سيبقى وصمة عارٍ تلاحقه أزمنةً مديدة.

وقد بيّنت شبكة الجزيرة في ميثاقِها أنّها لا تحجرُ على آراء العاملين فيها؛ ولكنّ هذا لا ينفي أنّ مواقف كثيرٍ من العاملين في أيّة مؤسّسةٍ ـ لاسيما إن كانت هذه المواقفَ منافحةً ومدافعةً عن المؤسّسة ـ تنعكسُ على هذه المؤسّسة.

ولهذا كان حريٌّ بالعاملين في الشّبكة لا سيما ممّن لهم أسماء معروفةٌ أن لا يدخلوا في مواجهةٍ ومعركةٍ مباشرةٍ بألسنةٍ حادّةٍ وعباراتٍ لاذعةٍ مع الجمهور المحتجّ والغاضب.

وكان حريٌّ بشبكة الجزيرة أن تصدر محدّداتِها للعاملين فيها لاستيعاب الغضبة الجامحة وعدم صبّ الزّيت على النّار من خلال الاستعلاء على الغاضبين وسلقهم بألسنةٍ حداد.

نعم لقد كانت هناك صورٌ من الشّطط في الخصومة من خلال محاولات شيطنة شبكة الجزيرة وتحويلها إلى عدوّ وهذا قام به صنفان؛ الذباب الإلكتروني السّعوديّ الذي ركب الموجة، وشريحةٌ من الثّوار الذين جمحوا وشطّوا بغير وعيٍ وغير عقل.

ولكن وجود هذين الصّنفين لا يبرّر مطلقًا لغة التّعميم التي وردت في ردود عدد من شخصيّات الجزيرة التي تحدّثت باستعلاءٍ مطالبةً المنتقدين بالتّأدب في حضرة الجزيرة أو ذمّتهم وجعلتهم مجرد شخصيّات فاشلة بارعةٍ بالعواطف والمشاعر.

لقد عوّدنا الخطاب الإعلاميّ للجزيرة منذ بداية الربيع العربيّ أنّه مع الإنسان ومع الشّعوب ومع جراحها وأنّه يخشع في حضرة جراح المظلومين، وكم هو مناقضٌ لهذه الصّورة أن تتمّ مطالبة المكلومين الغاضبين بالتّأدب في حضرة الجزيرة!!

 

  • غيابُ التّوازن الثّوريّ

إنَّ زادَ الثائر هو الغضب والحنق، وعنوانه هو الرَّفض؛ فالثّائرُ بلا رفضٍ لا يغدو ثائرًا؛ لكن حتّى الغضب والرفض ينبغي أن يحملَ وجهًا راشدًا لتحقيق نفع القضيّة التي ينافحُ لأجلِها والوصول إلى نتائج حقيقيّة، فإن صارَ الغضبُ والرّفض غايةً فقد أودى بالقضايا وأزرى بالثّائرين.

وإنَّ تعامُلَ بعض النّاشطين والثوار بمنطق إطلاق النّار العشوائيّ في كلّ الاتجاهات والرّدح المتبادل؛ لا يقلّ سوءًا في آثاره السلبيّة عن ردح بعض الشّخصيّات في الجزيرة؛ ممّا جعلنا أمام ثنائيّة الرّدح والرّدح الآخر بامتياز.

إنّ التّعامل مع الجزيرة بمنطق "الأبيض والأسود" وبمنطق "كلّ شيء أو لا شيء" وبمنطق "معنا بالمطلق أو ضدّنا بالمطلق" هو منطق غير سليم ومضرّ بالقضايا العادلة التي يحملها الثّائرون.

فالرفض ينبغي أن يتمّ تسليطه إلى المثالب والسَّقطات، والبرامج والتقارير المرفوضة، وأن تتمّ مهاجمتها ورفضها بشدّة دون مواربةٍ لكن دون إسقاط الجزيرة وشيطنتها بالكليّة؛ فاستعداء الجزيرة لن يعودَ بالنفع على القضايا العادلة، كما أن جعل الجزيرة عدوًّا ووضعها في مصاف قنوات العربية وسكاي نيوز والميادين مجانبةٌ للإنصاف والحقّ والعدل ورحم الله ابن تيمية حين يقول: "فإذا لم يحصل النّور الصّافي بأن لم يوجد إلّا النّور الذي ليسَ بصافٍ؛ وإلّا بقي الإنسان في الظلمة؛ فلا ينبغي أن يعيبَ الرَّجل وينهى عن نورٍ فيه ظلمةٌ إلَّا إذا حصلَ نورٌ لا ظلمة فيه".

 

صحيحٌ أنَّ الجزيرة ليست قناة الثّورة السّوريّة ولا قناة الثّورة العراقيّة أو اليمنيّة ولكنّها يقينًا شبكة الشّعوب المقهورة والمكلومة، وهي الإمبراطوريّة الإعلاميّة الأكبر في العالم العربيّ، وإنّ اعتذار الكبيرِ وإقرارُه بخطئه يزيدُه رفعةً في أعين جمهوره، ويعمّق رسوخَه في وعي الجماهير التي هي الرّصيد الأغلى والأثمن لهذه الشبكة التي كانت حلم الشّعوب الذي تحقّق فصارَ حقيقةً كالحلم.