بوتين فرصة لا تعوض!

2022.03.27 | 07:08 دمشق

thumbs_b_c_bf3ee0f77e78e0aebf0d3a1ef6737846.jpg
+A
حجم الخط
-A

يستحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشكر على ما بذله من جهود لتوحيد الغرب ضده بعد إعطائه الأوامر بالاعتداء على الجار الأوكراني.

شهدت العاصمة البلجيكية قبل أيام انعقاد 3 قمم مركزها روسيا وسياساتها وسبل مواجهتها وعزلها وإضعافها إقليميا ودوليا بعد المغامرة الانتحارية التي نفذتها في أوكرانيا: قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقمة مجموعة الدول السبع، والقمة الأوروبية الموسعة بمشاركة الرئيس الأميركي. عرض العضلات الأطلسية في بروكسل حمل معه أكثر من رسالة. كلها مرتبطة بالغزو العسكري الروسي لأوكرانيا لكن ارتداداتها وصداها سيشمل أكثر من ملف سياسي وأمني واقتصادي يقلق الرئيس الروسي بوتين شئنا أم أبينا.

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أواخر شهر أيلول 2017 ومن على منبر جامعة السوربون العريقة "أن أوروبا تواجه تحديا مزدوجا يتمثل في فك الارتباط التدريجي والحتمي مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التهديد الإرهابي. أوروبا يجب أن تتمتع بقدرة تدخل مستقلة مكملة لحلف شمال الأطلسي، وتحتاج إلى تطوير ثقافة استراتيجية مشتركة". الرد على ماكرون الذي دعا أوروبا للابتعاد التدريجي عن الأطلسي وضرورة بناء قوتها العسكرية المستقلة جاء من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "تعليقات الرئيس الفرنسي، تعكس فهماً مريضاً وضحلاً.. يجب عليك أن تتأكد أولاً مما إذا كنت ميتاً إكلينيكياً". اليوم وبعد أكثر من 5 سنوات على تصريحات الرئيس الفرنسي نراه يردد بعد اجتماعه بالرئيس التركي على هامش القمة الاستثنائية للحلف "إن الوضع الذي تسببت به الأزمة الأوكرانية فرصة لـتوضيح استراتيجي لـدور تركيا في علاقتنا داخل الحلف الأطلسي". ونرى أردوغان يكرر أن القمة المقبلة للحلف في حزيران المقبل ستكون مهمة لناحية رسم سياساته المستقبلية والمفهوم الاستراتيجي الجديد حيث ستقدم تركيا رؤيتها هناك".

لو لم يهاجم بوتين المدن الأوكرانية لما رأينا هذا التحول في المواقف وترك أوروبا لخلافاتها والعودة إلى الحضن الأطلسي

قبل عام كان البعض في الغرب يتحدث عن تجميد عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي بسبب صفقة الصواريخ الروسية. اليوم الحديث تبدل تماما، تركيا تقول إنها تستعد لبحث دور الحلف الاستراتيجي في الحقبة المقبلة. لو لم يهاجم بوتين المدن الأوكرانية لما رأينا هذا التحول في المواقف وترك أوروبا لخلافاتها والعودة إلى الحضن الأطلسي.

الرسالة العلنية الرسمية الثانية التي وجهها الحلف إلى بوتين هي دعوته لوقف عملياته العسكرية وسحب جنوده من أوكرانيا. الأطلسي يتريث لكنه سيتدخل عند امتلاكه للمبررات التي ينتظر من بوتين تقديمه لها مثل استخدام الأسلحة المحرمة ضد المدنيين. لا أحد في الغرب يفهم أسباب اعتراض بوتين على أي تدخل في الملف الأوكراني ويعتبر المسألة خطا أحمرَ لا ينبغي تجاوزه حتى ولو طلبت كييف رسميا هذا التدخل، بينما يسمح هو لنفسه بالتدخل في سوريا بدعوة من نظامها في دمشق كما يقول؟

الرسالة الثالثة التي تعني بوتين مرتبطة بالانتقادات التي وجهها أردوغان لدول الحلف المتمسكة بقرارات حظر التكنولوجيا العسكرية الغربية عن تركيا بسبب صفقة صواريخ إس 400 الروسية، بينما يستعد الغرب لإعادة تفعيل المشروع التركي الفرنسي الإيطالي الثلاثي المتعلق بصواريخ سامب – تي التي تعتبر بديلا للسلاح الروسي. لماذا مواصلة الحظر إذا ما كانت أوروبا تريد استرداد تركيا؟ هل هذا هو السيناريو الجديد المتفق عليه بين شركاء الغرب للخروج من أزمة الصفقة الروسية؟ وهل هذا هو الاقتراح الذي حملته مساعدة وزير الخارجية الأميركية شيرمان إلى أنقرة قبل 3 أسابيع، خصوصا أن سيناريو مقايضة إرسال شحنات الصواريخ التركية إلى أوكرانيا بعودة تركيا إلى مشروع المقاتلة إف 35 لم يكن منطقيا؟

هدية أخرى قدمها بوتين لأردوغان مباشرة هذه المرة. حيث بدأت تركيا ترى أن الحرب الروسية الأوكرانية منحتها فرصة الجلوس أمام خارطة خطوط نقل الغاز الجديدة بين الشرق والغرب وتفعيل خططها في مشروع نقل غاز شرق المتوسط عبر أراضيها إلى أوروبا. التقارب التركي الإسرائيلي الأخير يهدف إلى التنسيق باتجاه إيجاد تسوية سياسية للأزمة في أوكرانيا لكنه يهدف أيضا إلى لعب دور إقليمي أساسي في "إنقاذ" أوروبا من ورطتها الغازية. إدارة بايدن وألمانيا وبريطانيا يدعمون هذا السيناريو ويريدون أن تكون اليونان طرفا فيه خصوصا بعدما أعلنت واشنطن تخليها عن دعم مشروع "إيست ميد" لنقل الغاز الإسرائيلي واليوناني من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا. لكن الغامض حتى الآن هو الموقف المصري وما تريده القاهرة.

يقول أردوغان إنه يعد للالتقاء بنظيريه الأوكراني والروسي ويتوقف عند ما سيطلبه من بوتين "أن يكون صانع سلام وأن يوقف الحرب في أوكرانيا.. خطوة أولى مشرفة". قد يعطي بوتين نظيره التركي مثل هذه الهدية في إطار سياسة برغماتية روسية تعودنا عليها في مسار العلاقات بين أنقرة وموسكو في السنوات الأخيرة. لكن قرار حلف شمال الأطلسي، مدّ أوكرانيا بمعدات وقائية من الهجمات الكيميائية والبيولوجية والنووية، وحماية قواته المنتشرة في الجناح الشرقي من هذه التهديدات، إلى جانب تزويد كييف بأسلحة نوعية جديدة بينها الصواريخ المضادة للدروع والطائرات والسفن الحربية. وإنشاء أربع مجموعات قتالية جديدة في رومانيا والمجر وبلغاريا وسلوفاكيا، يكاد يقول أيضا إن الغرب لن يتوقف كثيرا عند ما سيقوله بوتين الذي عليه أن يتحمل نتائج ما فعله في أوكرانيا.

أن تلعب تركيا دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا لا يعني أنها تتخلى عن مواقفها وثوابتها الأساسية حيال الاعتداء الروسي ورفض أي مساس بسيادة وأراضي أوكرانيا أو أنها ستقنع الغرب بالتراجع عن مواقفه واصطفافه ضد الكرملين لمساءلته عن هذا الغزو من النواحي القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وإلا فما هو المقصود بقول أردوغان إن الحل النهائي في أوكرانيا ينبغي أن يحصل على دعم موسكو وكييف والمجتمع الدولي أيضا؟

يقول الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ستولتنبيرغ "هناك إشارات توحي بأن روسيا قد تكون تحضر الأرضية لهجوم بأسلحة كيماوية وبيولوجية ضد أوكرانيا".  ما الذي يريده الرئيس التركي أكثر من ذلك وهو يحاور نظيره الروسي مجددا حول سبل وقف الحرب؟ الغرب يعطي أنقرة مساحة دعم أكبر وهي تفاوض بوتين، وأردوغان سيقول له حتما إن مشكلتك بعد الآن ليست مع أوكرانيا بل مع المجتمع الدولي الذي أصدر قبل أيام قرارا جديدا يدين الغزو.

كان بوتين يمني النفس عند إعلان ساعة الصفر قبل شهر بمواجهة 30 دولة غربية مشرذمة مفككة داخل الأطلسي، فوجد نفسه يواجه 30 دولة موحدة أمام سياسة مشتركة ضده. رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يلخص الكثير هنا "نحن نتفق جميعا على أن ما فعله بوتين كارثة لم نشاهد مثلها في أوروبا منذ 80 عاما".

المستفيد الأول من كل هذه التطورات هو أميركا ورئيسها بايدن الذي يقود اليوم عملية توحيد الغرب بشقيه الأوروبي والأطلسي في مواجهة روسيا

الحصيلة الأخرى المرتقبة أشار إليها الرئيس الأميركي جو بايدن الذي كرر أكثر من مرة عبارة أهمية وحدة الغرب ضد روسيا في أوكرانيا. لكنه هذه المرة يتحدث عن "أهمية الاصطفاف الغربي ضد روسيا في الأشهر المقبلة". ما الذي يعنيه بايدن هنا؟ هل هناك مفاجآت عسكرية سياسية ستحدث في إطار الحرب الأوكرانية في الأشهر المقبلة؟ أم أن بوتين سيغامر ويوسع رقعة العمليات العسكرية في شرق أوروبا وحوض البحر الأسود وهو ما يتطلب إبقاء الصفوف الغربية مرصوصة في مواجهته؟ 

المستفيد الأول من كل هذه التطورات هو أميركا ورئيسها بايدن الذي يقود اليوم عملية توحيد الغرب بشقيه الأوروبي والأطلسي في مواجهة روسيا فمن الذي منح بايدن هذه الفرصة؟ قد يكون الرئيس الأوكراني زيلينسكي قدم خدماته بهذا الخصوص، لكن الجهد الحقيقي بذله ولا يزال بوتين الذي لا يعرف أين وكيف ستتوقف واشنطن تحت ذريعة الرد على خرق موسكو للتوازنات والقواعد المرسومة في شرق أوروبا وحوض البحر الأسود منذ 3 عقود؟