بوتين، مجرم حرب وغيره كذلك!

2022.04.22 | 08:16 دمشق

bwtyn22222.jpg
+A
حجم الخط
-A

أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي بعد أيام قليلة على شنّ بوتين حربه ضدّ أوكرانيا مشروع قانون يقضي بتصنيفه - أي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذاته - مجرم حرب، ويحثّ القانون في نفس الوقت على ملاحقة الجرائم المرتكبة من قبل القوات الروسية في أوكرانيا. تبع ذلك وصف الرئيس الأميركي جو بايدن لبوتين بالصفة ذاتها، وذلك خلال إجابته عن أسئلة الصحفيين في مقابلة أجراها معهم في البيت الأبيض، ثم تتابعت تصريحاته حتى فُهم من بعضها أنّ بايدن ذاهبٌ بلا رجعة أشواطاً بعيدة في العداء لروسيا.

استدعى ذلك كلّه توضيحات متعاقبة من البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية وأرفع المسؤولين الأميركيين تؤكّد عدم نيّة إدارتهم تغيير النظام في موسكو. بالمقابل كان الردّ الرسمي الروسي واضحاً بأنّ الشعب الروسي هو صاحب القرار في هذا الشأن، وأنّ على الإدارة الأميركية التنبّه لسلوكها العدائي تجاه روسيا.

ليس غريباً بالطبع أن يأتي هذا التصعيد من الرئيس الأميركي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، خاصّة مع معرفتنا بالعلاقة السيئة أساساً بين الرجلين منذ زمن بعيد. لكن على مستوى إدارات الدول يجب أن تكون المقاربة مختلفة نوعاً ما، فلا ينبغي أن تكون متعلقة بحالة عاطفية كتلك التي عبَّر عنها الرئيس بايدن عندما رفض الاعتذار عمّا قال إنها مشاعره الشخصية تجاه الحدث، فالمراقب يرى بوضوح أنّ سلوك الرئيس بوتين لم يتغيّر منذ حربه الأولى في الشيشان عام 1994، مروراً بحربه الثانية فيها عام 1999، وبحربه في جورجيا عام 2008، وصولاً إلى حرب القرم عام 2014، ومن ثم التدخل في سوريا عام 2015. فلماذا اختلف الموقف الأميركي الآن؟ وهل يستند التشدد في التوصيف إلى اعتبارات أخلاقية بحتة، أم إنّ السبب يكمن في تغيّر نتائج أفعال بوتين في أوكرانيا واختلافها عن تلك التي مورست سابقاً في باقي البلدان؟!

في الواقع لا تصلح المعايير الأخلاقية لمحاكمة سلوكيات وتصرفات الدول، فهذه الأخيرة تتصرّف بمكيافيلية واضحة صريحة، وفق معايير المصالح المجرّدة وموازين القوى. مع ذلك، يبقى الرؤساء – في أي حديث يُدلون به أو في أي سلوك يسلكونه أو قرار يتخذونه - ممثلين عن دولهم سواءٌ أرادوا ذلك أم لم يريدوه، فالتاريخ لن يذكر جورج بوش مجرّداً من أية صفة عند إطلاق حكمه عليه بشأن غزو العراق وأفغانستان، بل سيقرن إليه صفته رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. ونحن إذ نتكلّم عن رئيس دولة ما مثل بوتين، فإننا نضع في الخلفية مباشرة روسيا، كما نضع الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا أو فرنسا في خلفية أي حديثٍ عن بايدن أو جونسون أو ماكرون، وبلا شك تتحمّل الدول والشعوب أخلاقياً ومنطقياً وحتى قانونياً تبعات أعمال وقرارات ممثليها، خاصّة إذا كانت محكومة بأنظمة ديمقراطية؛ لأنّ الشعوب في هذه الحالة تكون قد ساهمت في اختيار حكامها عبر صناديق الاقتراع.

 

ما الذي استجدّ إذن في سلوك بوتين حتى يتمّ تصنيفه أميركياً مجرم حرب؟ أو لمْ يكن سلوكه وسلوك جيشه هو ذاته في الحروب السابقة؟ ألم نشهد تدمير غروزني ومحوها عن بكرة أبيها سابقاً؟

قد يختلف الأمرُ قليلاً عندما يتعلّق الحديث بقرار شنّ الحرب على العراق من قبل الإدارة السابقة للولايات المتحدة الأميركية، وبين قرار إدارة بوتين شنّ الحرب على أوكرانيا. لكن على الرغم من كون مؤسسات الدولة في الولايات المتحدة مستقلّة ومنفصلة ولا يمكن التحكم بها من قبل الرئيس، وعلى الرغم من حقيقة توزع السلطات هناك، فإنّ الحالة العارمة من نشوة الانتصار التي أصابت النخبة الأميركية المسيطرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، جعلت من الطبيعي اتخاذ مثل هذا القرار، باعتبار هذه الطبقة من السياسيين وأصحاب النفوذ ورأس المال الحكّامَ الفعليين لتلك البلاد. هكذا كان الأمر تقريباً في روسيا الاتحادية، مع فارقٍ ملحوظٍ طبعاً في قدرة الرئيس هنا على تجاوز مؤسسات الدولة والتصرّف بشكل منفرد، رغم تعارض قراره مع مصلحة الأوليغاشية الروسية التي نشأت معه وثبّتت حكمه عندما ثبّتت مصالحها واستئثارها بثروات البلاد.

ما الذي استجدَّ إذن في سلوك بوتين حتى يتمّ تصنيفه أميركياً مجرم حرب؟ أو لم يكن سلوكه وسلوك جيشه هو ذاته في الحروب السابقة؟ ألم نشهد تدمير غروزني ومحوها عن بكرة أبيها سابقاً؟ ألم تدمّر الطائرات الروسية حلب كذلك، أم هي تفعل ذلك أوّل مرّة في ماريوبول وخاركيف وكييف؟! في الواقع لا شيء من ذلك كلّه، فقط اختلفت الآن الوجهة واختلف شكل الضحية. سابقاً كانت الهمجية الروسية الحاكمة منصبّة شرقاً على الشيشانيين والجورجيين والتتار والسوريين، أما اليوم فوجهتها نحو الغرب حيث الأوكرانيون، وربما بعدهم الأستونيون أو الليتوانيون أو البولنديون أو غيرهم من شعوب أوروبا.

الموقف الأميركي والأوروبي عموماً مما يجري في أوكرانيا ليس أخلاقياً، وإن لم يخلُ من بُعدٍ إنساني أخلاقي، الموقف في جوهره وجودي؛ لأنّ حرب بوتين على أوكرانيا جزء أصيل من فلسفته القائمة على احتقار الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي هي جوهر القيم الغربية. وهذا الموقف لم يأت من فراغ، بل يجد صدى معقولاً عند فئات وازنة من الشعب الروسي الممسوحة أدمغة أفرادها بأوهام العظمة القومية الروسية، وليس صعباً على المتتبع قراءة التشابه في سلوك بوتين مع أفكار الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين عن الفضاء الجيوسياسي الثقافي الروسي والتي بالمناسبة تستمد نسغها من نفس المَعين الشعبي لتعودَ وتصبّ فيه.

مستنداً إلى الوقفة القوية لدول العالم وخاصّة الدول الغربية إلى جانب أوكرانيا، ما فتئ الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي يطالب المجتمع الدولي بإجبار الروس على تعويض بلاده عن الدمار الذي تسببوا به في حربهم عليها، وهذا بكل تأكيدٍ مطلب حق، وقد تُستعمل الأموال الروسية المحجوزة لدى هذه الدول لهذه الغاية في المستقبل. وبالمثل يمكن لنا نحن السوريين كما يمكن للعراقيين والأفغان المطالبة مستقبلاً بالتعويض من جميع الدول التي ساهمت في احتلال بلادنا، وتستند حقوقنا هنا إلى مبدأ عدم سقوط جرائم العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم الدولية الخطيرة وجرائم الإبادة بالتقادم. وإذا ما عرفنا أنّ التعويض عن الأضرار جزءٌ لا يتجزأ من فلسفة العقاب في القوانين الجنائية عامة، فإنّ النتيجة الطبيعية المترتبة على ذلك أنّ الحق بالتعويض لا يسقط بالتقادم أيضاً، وإذا ما كان من المستحيل الآن – في ظروف توازن القوى الراهن – ملاحقة هؤلاء القادة ومطالبة دولهم بالتعويض، فإنّ المستقبل متغيّر، وقد يكون هناك أملٌ في ذلك ولو بعد حين. ليس بوتين وحده مجرم الحرب، وليس الأوكرانيون وحدهم ضحايا الإجرام في العالم، فالمجرمون كثُر، وما أفصحهم حين يحاضرون بالعدالة وحقوق الإنسان!