icon
التغطية الحية

بعض أوهام "محمد عابد الجابري" كما يراها "أحمد برقاوي"

2021.09.03 | 06:39 دمشق

asry_alwm-_aljabry-_tlfzywn_swrya.png
محمد علاء الدين عبد المولى
+A
حجم الخط
-A

شكل المفكر المغربي محمد عابد الجابري ميدانا خصبا للنقد والانتقاد في حقل الفكر الفلسفي العربي. ومما يلفت النظر حقا أن ثلاثة من أبرز منتقدي مشروع الجابري هم من المشرق: أحمد برقاوي - طيب تيزيني – جورج طرابيشي.

وإذا ما عرفنا السبب أدركنا الخلفية المشتركة وإن كانت في مجالات شتى التي جمعت هؤلاء الثلاثة. فالجابري كان يصبّ نقده وتحليلاته على الفلسفة في المشرق ليظهرها ضمن ما اصطلح على تسميته بالعقل (العرفاني) غامزا بذلك من مكانة الفكر الفلسفي في المشرق بحسب تصنيفاته. في حين استأثر المغرب من ابن رشد حتى الجابري نفسه بالعقل (البرهاني). أي أن العقل كمنتج لفلسفة عقلانية لم يكن متوفرا في المشرق العربي حيث ابن سينا والفارابي وابن عربي على سبيل المثال. وهؤلاء يشكلون قسما من أعمدة العقل العرفاني الصوفي الوجداني الذي لا يرى الجابري له أهمية في تشكيل فلسفة حقيقة!

لكن سوف نتناول في هذا المقال – وبتكثيف وإيجاز - بعض ملاحظات انتقادية كوّنها أحمد برقاوي ووجهها إلى بعض أفكار الجابري في موضوعات أخرى وأشهرها مفهوم (الكتلة التاريخية) وهو مفهوم لا يكاد يذكر إلا مصحوبا بمفهوم (الاستقلال التاريخي التام). وهما كما بات معروفا من صلب مشاغل المفكر الإيطالي غرامشي.

في كتابه (أسرى الوهم) –صادر عن دار الأهالي في دمشق 1996– تناول أحمد برقاوي فكرة "الاستقلال التاريخي التام" بين (غرامشي) و(محمد عابد الجابري) منطلقاً من أن الجابري يسعى إلى تأسيس عقلانية نقدية من أجل تحقيق مثل هذا الاستقلال التاريخي للذات العربية. ويقدم برقاوي ملاحظته حول اشتراك الجابري مع غرامشي في عدد من المفاهيم مثل "الكتلة التاريخية" و"الاستقلال التاريخي التام".

يريد الجابري من مفهوم الكتلة التاريخية جماعة ممتدة مختلطة من "فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها ونضالاتها".

والاستقلال التاريخي عند غرامشي يعني الوصول إلى وعي منسجم ذي وحدة داخلية، كما يعبر د.برقاوي، وحدة تلغي ثنائية المواقع داخل الجماعة نفسها المنقسمة إلى فئات "تعبر في بعض الجوانب عن التطور العالي للعصر وفي جوانب أخرى تكون متخلفة في علاقتها بموقعها الاجتماعي الخاص". إن غياب الاستقلال التاريخي يعني "استمرار ثنائية القديم والجديد في فكر واحد" ويعني غياب النقد وعدم الاتصال بمنجزات المعرفة، ولا بد للفئة الاجتماعية من تجاوز هذه العقبات لتحقيق الاستقلال التاريخي التام. لكن فكرة (غرامشي) هذه مندرجة في إطار "نسق فكري عام. أي ليست منفصلة عن تصوره للكتلة التاريخية" فكيف تعين مفهوم الاستقلال التاريخي التام في أطروحات الجابري؟ يرى الجابري أن الذات العربية تفتقد ما يعبر عنه غرامشي بالاستقلال التاريخي التام، ويرى أن هذه الذات ما زال يتعايش فيها نموذجان: قديم (إسلامي) وجديد (غربي) ولا بد من إعادة بناء الذات بالتعامل معها عن طريق "النقد الذاتي والهدم والبناء. ذلك هو سبيل الاستقلال التاريخي التام للذات العربية" كما يراه الجابري.

إن الجابري يدعو للتحرر من سلطة السلف عبر دعوته لبعث العقلانية الرشدية ويدعو للتحرر من سلطة الأوروبي ولكنه يتبنى آليات ومفاهيم كل من فرويد وباشلار وفوكو،

والوهم الذي يضبط به برقاوي فكر الجابري متلبساً به، هو اعتقاده بأنه المفكر الذي يبدأ من نقطة الصفر. فلا عقلانية قبله، وهو "ينسف بجرة قلم كل ما سبقه من إنجازات مفكرين" وثمة (هراء) في بعض مقولات الجابري حول خلو الفكر العربي الحديث من أي نقطة مضيئة يمكن الاستناد عليها. فماذا كان يفعل إذاً الطهطاوي وطه حسين ومحمد عبده وفرح أنطون وعلي عبد الرزاق من قبله؟ بل حتى ماذا كان يفعل العروي وهو مواطن الجابري المغربي؟ ثمة استئثار إذاً يزعمه الجابري في جدّة طروحاته، وهذا الزعم يجعل برقاوي يصف ذهنية الجابري بأنها "ذهنية مستبدة، ذهنية حاكم جديد" يقضي أول ما يقضي على كل ما أنجزه أسلافه ليظهر بمظهر مطلق مقدس. إن الجابري يدعو للتحرر من سلطة السلف عبر دعوته لبعث العقلانية الرشدية، ويدعو للتحرر من سلطة الأوروبي ولكنه يتبنى آليات ومفاهيم كل من فرويد وباشلار وفوكو، فماذا يميزه في هذا عن غيره وهو يتحدث عن (الاستقلالية)؟

ولا يجافي برقاوي الصواب الواثق في هذا. فهناك حتى على صعيد مفهوم الكتلة التاريخية الذي اشتهر بنسبه إلى غرامشي وحده، هناك قراءات بحثية اكتشفتْ ورود هذا المفهوم عند آخرين وليس غرامشي إلا مستعيدا للمفهوم بعد تكييفه بحسب الشرط المحلي لمجتمعه الرازح تحت الحكم الفاشي. بل إن كاتبا مثل علاء اللامي يقول إن "غرامشي ذاتَه أخذ هذا المفهومَ عن كتابات المفكّر الفرنسيّ جورج أوجين سوريل (1847- 1922)، صاحبِ كتاب تأمّلات في العنف".

أما الجديد عند الجابري وهو اعتباره النقد السبيل الوحيد لتحقيق الاستقلال التاريخي التام، فيرى فيه د. برقاوي نقداً وكأنه قوة سحرية عجيبة تشفي الذات من جميع الأمراض "إن فكرة غرامشي حول الاستقلال التاريخي التام تتحول عند الجابري من فكرة جاءت في سياق كفاح إنساني" إلى "فكرة لا معنى لها ولا مضمون. إنها بالأصل غير مرتبطة بهم أصيل من هموم المجتمع" تتحول من "فكرة تسلح الحزب والبشر" إلى "سلاح يواجه عدواً وهمياً من الأفكار التي لا علاقة لها بتناقضات الأمة الواقعية".

ولأن برقاوي يرى رؤية الجابري للتاريخ رؤية سكونية، فإن إمكانية الاستقلال التاريخي معدومة إذاً بالطريقة التي ينظر بها الجابري. ويختم نقده للجابري بوصفه بأنه "يتمتع بعبقرية فذة خاصة لم تؤت لغيره إطلاقا" وهذه سخرية لاذعة يمارسها برقاوي في ثنايا سطوره وهي السخرية المرة التي تضمر شماتة (من النوع المعرفي والثقافي) بهذا المفكر أو ذاك عندما ينتقده برقاوي ويفكك له منظومته القائمة على مغالطات وأوهام. وبطبيعة الحال فالسخرية أداة ذكية من أدوات الحوار السقراطي. وهي عنصر موجود دائما في كتابات برقاوي الفلسفية. خاصة حين يشير إلى أن الجابري وكأنه عثر على حلّ سحريّ لمشكلات الذات العربية، وهي فقط في تحرره من السلف، وحينذاك سوف نصل إلى مبتغانا ونفرح بحريتنا واستقلالنا التاريخي وكفى الله المؤمنين شر القتال.

لكن برقاوي لا يهدف إلى التقليل من شأن مشروع الجابري. بل على العكس. يلخص أبرز جوانب هذا المشروع باقتضاب وتقدير. ممارسا درجة قصوى من درجات الموضوعية وحق الاختلاف والنقد معاً.

فالجابري يريد تعميم النزعة العقلية والنقدية، وهو يمارس العقلانية النقدية التي تضع مكونات العقل العربي كلها على طاولة التحليل بأدوات إبستمولوجية بحتة. وذلك في الجانب المتصل بنقد الفكر. أي أن نقد العقل لدى الجابري ينطلق ويتبلور من خلال نقد الفكر. وهذه مسألة نظرية. أما المسألة الواقعية المتعينة فالجابري ينشغل باستعمال مفهوم الكتلة التاريخية، القادرة على إنجاز فعلٍ ملموس على أرض الواقع وفي منظور التاريخ المرئي وليس في المجال النظري فقط. ويسمي برقاوي عمل الجابري هذا، الانطلاق من نقد الفكر إلى الممارسة الواقعية عبر كتلة تاريخية تنجز، يسميه (مشروع الجابري). وهذا إقرار عادل بأن الجابري لم يكن يطلق الأفكار والطروحات إلا وهي في اتّساق متكامل ذي أهداف معينة وطرائق محددة.

لكن برقاوي يرى لهذا المشروع أيضا ضمن مشروعية النقد والنقض إذا اقتضى الأمر. فالاتّساق المنطقي للدراسات والأفكار لا يعفيها من وقوعها في مغالطات معرفية مثلا. فيأتي العقل الناقد ليفحص لنا طبيعة هذه المغالطات ويبين أن هذا الاتّساق مخترقٌ من جوانب معينة فيه.

ومن المسائل الجديرة بالاحتفاء نقديا في هذا الصدد، الحديث عن ضرورة تحقيق تراكم فلسفي ونقدي وجداليّ عبر الزمن للوصول إلى اللحظة التي يولد فيها مفكر جديد ينبثق من داخل هذا التراكم. وهذا أمر شرعيّ ومطلوب تاريخيا. حيث لا يمكن لتجربة فكرية أن تدّعي ولادتها من الصفر وكأنها طفرةٌ نشاز في السياق. وهذا أقوى ضعف يكشفه برقاوي لدى الجابري الذي "يطيح بقرنين من التفكير ولا يرى فيهما الجابري إلا هراءً. لا شك أن الجابري باستطاعته أن يجد كل الأنماط الفكرية التي تحدث عنها، لكنه بالمقابل سيجد نقيضها أيضا".

ويرجع برقاوي إلى منجزات كل من محمد عبده وطه حسين وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم، ليرى فيها تأسيساً لنمط من الفكر المستجيب لمسائل راهنة نعايشها الآن. ولا يمكن للجابري أن ينسف كل هذه الأفكار قبله في سبيل تثبيت أسبقية طروحاته هو. خاصة أنه ينتقي أحيانا المسائل انتقاءً غير مبرّأ. فهو في مقام دعوته للتحرر من نموذج سلفٍ ونموذج غربي، نراه كما كشفه الجابري واقعا في إسار تمثّلهِ لمنجز ابن خلدون من السلف،ـ ولمنجز فرويد وباشلار كمنجز غربي. وفي هذا تناقض فجّ. وهذا الانتقاء منافٍ لطبيعة الموقف الإبيستمولوجي.

وفي عودة إلى غرامشي، يستعيد برقاوي فهم غرامشي لدور شخصية الفيلسوف التي هي حاصل علاقة فاعلة مثمرة بينه وبين "المحيط الثقافي الذي يريد تغييره. هذا المحيط الذي يؤثر على الفيلسوف ويجبره على نقد ذاتيّ دائم يقوم بوظيفة المعلم". ويصل برقاوي إلى زبدة القول في تسمية (الفيلسوف الديمقراطي) الذي يؤمن بأن شخصيته مكوّنة ليست فقط من وجوده الفردي، بل إن ذلك مشروط بانتماء للمحيط، أي للواقع في تجسده التاريخي. فكيف يريد الجابري تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية، وهو يلغي دور التاريخ من منظومته الفكرية؟ "إن الفيلسوف الديمقراطي هو الذي يوحّد بين الفلسفة والواقع". فأين الجابري من هذا وهو يقفز فوق التاريخ وكأنه مستبدّ؟

الحقيقة أن توصيفات برقاوي للجابري قاسية جدا، لكن برقاوي يحتكم في نقده ذاك إلى جرأة باهرة في استعمال كل أدوات النقد والانتقاد والهدم والتفكيك.