icon
التغطية الحية

بعد مرور 8 سنوات: أستاذة جامعية سورية تبدأ من الصفر لتعيل أسرتها في ألمانيا

2023.07.18 | 14:25 دمشق

السوريون وتعلم اللغة في ألمانيا - المصدر: الإنترنت
السوريون وتعلم اللغة في ألمانيا - المصدر: الإنترنت
The New Humanitarian- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

كان يوم سبت من شهر نيسان في عام 2022، عندما أخذت ندوى جزان تعد الفلافل والحمص والتبولة لصالح منظمة محلية تهدف لدعم اللاجئين الأوكرانيين بمدينة موهلينبيكر الصغيرة القريبة من برلين والتي انتقلت إليها ندوة برفقة زوجها أدهم قبل أربع سنوات.

من الصعب على ندوة تخصيص وقت للطهي، لكنها بحاجة لذلك، فقد دعمتها تلك المنظمة عند وصولها في عام 2018، ولهذا تعاطفت مع الأوكرانيين الذين توافدوا على ألمانيا عقب هروبهم من بيوتهم، لكونها سورية، فقد نزحت هي الأخرى من بيتها بسبب الحرب.

إلا أن ما كانت بحاجته في ذلك الحين هو أن تدرس لامتحان اللغة الألمانية الذي ستخضع له بعد شهر، ومن خلاله سيتحدد مصيرها ومستقبلها في هذا البلد.

تحسس الطريق في بلد أجنبي

كمعظم السوريين الذين وصلوا إلى أوروبا منذ عام 2015، تنتمي ندوى إلى الطبقة المتوسطة العليا التي تحترف مهناً معينة في بلدها، فقد كانت أستاذة جامعية تدرس اللغة الإنكليزية بجامعة دمشق قبل قيام الثورة حيث انقلبت حياتها رأساً على عقب. وكان هدفها هو أن تتمكن من العمل في مجالها من جديد في ألمانيا، وأن تصل للمكانة عينها، إلا أن الوصول إلى هناك تحد بحد ذاته، وذلك لأن سوق العمل الذي يتسم بالبيروقراطية في ألمانيا يحتاج إلى معرفة وكفاءة باللغة الألمانية حتى فيما يتصل بالوظائف والمهن البسيطة مثل قيادة سيارات الأجرة أو غسل الصحون. ولهذا ماتزال ندوى في طور تعلم اللغة، بما أن المؤهلات والخبرات العملية في دول أخرى غير معترف بها هناك، لذا يجب على القادمين أن ينفقوا وقتهم ومالهم في الحصول على شهادة من جديد أو تغيير مهنهم كلية.

في سوريا، حصلت ندوة على شهادة الماجستير بعد خمس سنوات، بيد أن النظام التعليمي في ألمانيا عدّل شهادتها لشهادة بكالوريوس يحصل عليها الطالب بعد ثلاث سنوات من الدراسة والتحصيل.

وعن ذلك تعلق ندوة بالقول: "شعرت بأني أبدأ من الصفر، إذ عندما أدخل الصف وأغلق الباب، أنسى كل شيء عن العالم، وعندما لم يقبلوا بدرجتي العلمية، انقطعت كل الأمور فجأة".

إن عدم الاعتراف بالشهادات الصادرة عن دولة غير ألمانيا هو أحد الأسباب الذي أبقت ثلثي السوريين في سن العمل ممن يعيشون في ألمانيا يعتمدون على الدولة بطريقة أو بأخرى حتى عام 2021، وهذا بحد ذاته ما يصعّب أمور اندماجهم في المجتمع.

تعلق هبة غويد، وهي أستاذة علم الاجتماع بجامعة بوسطن ومؤلفة كتاب: "اللجوء: كيف ترسم الدولة معالم الإمكانيات البشرية"، فتقول: "ثمة توقعات حول ضرورة إعادة التدريب حتى يدخل المرء لسوق العمل، وهذا ما يشعره بالعزلة والتهميش"، وتتساءل: "كيف سيكون شعورك وأنت تكتشف بأن كل ما فعلته في حياتك أضحى فجأة عديم الصلة بكل من حولك؟"

بسبب هذه العوائق، أدركت ندوة استحالة أن تصبح أستاذة جامعية في ألمانيا، ولكن لعلها قد تصبح معلمة لغة إنكليزية فتدخل الصف من جديد على أقل تقدير.

يتعين على ندوة أن تحصل على شهادة لتدريس مادة ثانية، بما أن ذلك شرط في النظام التعليمي الألماني، كما يجب عليها هي وغيرها من السوريين أن تحارب حالة كره الأجانب وألا تتوقع من الألمانيين طريقة لاستيعاب اللاجئين في المجتمع، فهذه القواعد غير المكتوبة تمثل عوائق غير رسمية أمام التوظيف وغير ذلك من الفرص، ثم إن ندوة لا ترتدي الحجاب، لكنها تعرف غيرها من المعلمات السوريات اللواتي اشتُرط عليهن، أو شعرن بضغوطات ليكشفن عن شعرهن في حال رغبتهن بالحصول على عمل، على الرغم من أن ذلك غير وارد في القانون من الناحية الفعلية.

على الرغم من المصاعب، شارفت ندوة التي تبلغ من العمر اليوم 49 عاماً على النجاح بحلول عام 2022، فقد عثرت على عمل كمساعدة لمدرس، وكل ما تحتاجه اليوم هو أن تجتاز الامتحان المتقدم في اللغة الألمانية، وبعدها سيصبح بمقدورها أن تعمل في مجال التدريس بألمانيا، وعن ذلك تقول: "كان عملي رائع وحياتي عظيمة في سوريا، ولهذا لا أريد أن أفقد هذا الإحساس".

قرار صعب

تعمل ندوة لساعات طويلة ومضنية، بيد أن قيمة ما تحصله في هبوط، فضلاً عن اتهامها بالتآمر على البلد منذ أن غادر زوجها أدهم عامر سوريا ليصل إلى ألمانيا 2015، إثر اختطاف ابنه وقتله، وبعد مرور عام واحد فقط على زواجهما.

التقى الزوجان عبر الشابكة بعدما رأى أدهم صور ندوة على فيس بوك وهي في رحلة لها إلى الولايات المتحدة في تموز 2011.

وعن ذلك يعلق بالقول: "كانت واثقة بنفسها للغاية، وعندما التقينا بشكل شخصي، أبدت طموحاً شديداً تجاه عملها، وهذا ما شدني إليها".

خلال لقائهما الأول، لمست ندوة مدى لطف أدهم ودعمه لها، وعنه تقول: "كان أدهم ومايزال رجلاً دمثاً، إذ كان يؤمن بأنه بوسعي القيام بأي شي، ومايزال يحتفظ بتلك القناعة".

عندما وصل أدهم إلى ألمانيا بعد عبوره لبحر إيجة من تركيا إلى اليونان، وسفره براً عبر دول البلقان، تمنى الزوجان أن تتمكن ندوة من اللحاق بزوجها قريباً، إلا أن الأمر استغرق أكثر من ثلاث سنين حتى يلم شمل ندوة بأسرتها من خلال نظام لم الشمل في ألمانيا بسبب تراكم الطلبات وكثرتها هناك.

وعندما حصلت على الموافقة في عام 2018، أصبحت ندوة أمام قرار لا يحتمل، وهو عدم سماح زوجها السابق الذي أساء معاملتها لابنهما البالغ من العمر 14 عاماً، واسمه تمام، بالرحيل معها. وهكذا أصبح السفر إلى ألمانيا رديفاً لتركها لابنها، في حين أصبح البقاء في سوريا رديفاً لانفصالها عن أدهم لأجل غير مسمى وبقائها في بلد مزقته الحرب إرباً.

أريدك معي...

تراجع القتال في معظم أجزاء سوريا بحلول عام 2018، إلا أن الاقتصاد في البلد انهار عقب سنوات الحرب، فلم تعد ندوة الأستاذة الجامعية تحصل سوى على نحو 30 دولار كراتب شهري، كما لم يعد لديها ما يكفي من المال لتشتري لابنها تمام بنطالاً، ناهيك عن قدرتها على دفع رسوم تعليمه.

خلال السنوات التي تلت رحيل أدهم، حاولت ندوة الابتعاد عن المشكلات، فهي تعرف كيف يمكن للصدفة أن تجعل من أي شخص شخصاً مريباً بعين النظام السوري.

إذ في عام 2012، طلبت ندوة لمراجعة أمنية لدى المخابرات إثر خروج أطفال في ميتم تطوعت فيه لسنوات في مظاهرة ضد بشار الأسد، كما أن سفرها إلى الولايات المتحدة في عام 2011، أي قبيل قيام الثورة في سوريا، كان سبباً كافياً للبحث في أمرها، وهل كانت من المحرضين على التظاهر والاحتجاج أم لا، إلا أن ذلك التحقيق لم يفض إلى شيء، لكنها من بعده لم تعد تحس بالأمان في سوريا.

بعد التشاور مع تمام، قررت ندوة أن ساعة الرحيل قد أزفت، إذ بعد أن يبلغ تمام الثامنة عشرة من عمره لن يكون بحاجة لموافقة أبيه على السفر، وبعدها سيصبح بمقدورهما العثور على سبيل لوصوله إلى ألمانيا، وإلى أن يحين ذلك عهدت ندوة بابنها لدى أهلها في السويداء ليقوموا برعايته في غيابها.

وقبل أسابيع من عيد ميلاد ابنها الخامس عشر، عانقته ندوة مودعة وهي تقول باكية: "أريدك معي".

في مواجهة البيروقراطية

في ألمانيا، بقيت ندوة تتواصل بشكل منتظم مع تمام عبر واتساب لتتأكد من أنه يأكل ويدرس جيداً، كما ترسل إليه المال كلما استطاعت، ولكن في نيسان عام 2021، ومع انتشار جائحة كوفيد، أصيب والد تمام بالفيروس وفارق الحياة إثر ذلك.

كانت علاقة تمام بأبيه متوترة، لكنه حزن لفقده على الرغم من أن وفاته فتحت أمامه باباً جديداً، إذ أصبح حراً اليوم وبوسعه السفر إلى ألمانيا.

لم ترغب ندوة وزوجها بالمرور عبر نظام لم الشمل المتعثر بسبب كثرة الطلبات من جديد وانتظار سنوات حتى يصل تمام إلى ألمانيا، ولهذا فضلا برنامج الهجرة لغير اللاجئين، والذي يتيح لتمام القدوم إلى ألمانيا في حال توافر الدعم المالي له، ولكن في نيسان 2021، كانت ندوة ماتزال تبحث عن عمل بدوام كامل.

خصصت ندوة 16 ساعة يومياً لدراسة الألمانية عقب وصولها إلى ألمانيا في عام 2018، واجتازت امتحان المستوى المتوسط عقب تسعة أشهر، أي أنها سبقت أقرانها في تعلم اللغة، لذا سرعان ما اكتشفت منظمة العودة إلى المسار في برلين التي تساعد المعلمين والمدرسين السوريين الذين قدموا مؤخراً إلى ألمانيا في العثور على عمل لهم ضمن المنظومة التعليمية، وقد كانت تلك المنظمة تبحث عن كوادر مؤهلة في مجال التعليم، وهذا ما ساعد ندوة أخيراً في الحصول على فرصة لها ضمن هذا البرنامج، على أمل العودة إلى المدرسة في نهاية المطاف. وفي تلك الأثناء، لم يعد لدى ندوة سوى القليل من المال حتى تمول عملية استقدام تمام.

ثم وصلت المعونة مرة أخرى، وتمثلت بجارها أوليريك هاس الذي صادق أدهم عندما وصل إلى ألمانيا وساعده في تأمين أمور استقدام ندوة بعد ثلاث سنوات، إذ تدخل هذا الجار مرة أخرى ليساعد أدهم وندوة في التغلب على العوائق البيروقراطية، وفي العثور على قريب له تعهد بتكفل تمام مالياً في حال عدم قدرة ندوة وأدهم على ذلك.

وبعد تأمين كفيل، أصبحت أمور استصدار تأشيرة لتمام تسير بسلاسة، وأخيراً صعد تمام على متن طائرة متوجهة لألمانيا في حزيران 2021، أي بعد مرور أقل من ثلاث سنوات على رحيل أمه ندوة عن سوريا، فكان اليوم الذي التقت به ندوة في المطار أسعد يوم بحياتها، ولهذا أخذت تفكر: لن يحرمني منه أحد بعد اليوم.

العودة إلى الصف

بعدما أصبح تمام مع أمه تحت سقف بيت واحد، تجددت لهفة ندوة وحماستها تجاه العثور على عمل، ومن خلال منظمة العودة إلى المسار، وجدت وظيفة مساعدة مدرس في مدرسة تعلم اللغة الألمانية والإنكليزية ببرلين.

دخلت ندوة المنظومة التعليمية الألمانية بسبب نقص حاد في كوادر المدرسين، بما أن القوى العاملة في ألمانيا هرمت ويحتاج الجيل الجديد من الشبان أن يخضع لعملية تدريب مكثفة، وهكذا أصبحت ندوة تقتحم الصفوف الدراسية الفوضوية بمفردها لتدرس طلاباً لا تعرف عنهم شيئاً. وبنهاية اليوم، تمضي الوقت في الطريق الذي يمتد لساعة قبل أن تعود إلى بيتها منهكة، لكنها مفعمة بالزهو، فقد أصبحت تحصل اليوم على 2100 يورو بالشهر، أي ما يكفي لدفع إيجار السكن وحاجيات الأسرة من البقالية، وهذا ما دفعها للقول: "قطعت بنفسي دعم الحكومة عن أسرتي، وهذا ما يشعرني بأني أحلق بعيداً".

ما بين عملها ودروس اللغة الألمانية، خصصت 14 ساعة من يومها لتطهو وتنظف أثناء حضورها للدروس عبر الشابكة، بيد أن العمل وتعلم اللغة والاعتناء بالأسرة أرهقها، فأصبحت تصاب بالسعال والصداع في كثير من الأحيان، وتردى وضع جسمها، لكنها خضعت في شباط عام 2022 لمراجعة أداء، وهكذا تبين للجميع تميزها في تدريس صفها.

قررت المدرسة في خريف ذلك العام أن تعينها مدرسة للصف الأول، على الرغم من عدم اجتيازها للامتحان المتقدم باللغة أو حصولها على شهادة لتدريس مادة ثانية، وفقاً للشروط العامة. ولكن بسبب نقص الكوادر التدريسية، ظهرت الحاجة لتعيين مزيد من المدرسين، ولقد أثبتت ندوة جدارتها في ذلك، وهذا المنصب الجديد حمل معه زيادة وقدرها ستمئة يورو بالشهر، لتفاوض عليها ندوة لاحقاً وترفعها لتصل إلى ألف يورو بالشهر، وهكذا خططت للبدء بسداد دين للحكومة على أسرتها قدره خمسة آلاف يورو، إلا أنها أحست بالغبن عندما فرض عليها سداد هذا المبلغ الذي ترتب عليهم مقابل دفع بدل الإيجار بدعم من الدولة.

قررت ندوة تقديم الامتحان المتقدم باللغة لتثبت لنفسها بأنها بوسعها أن تنجح، على الرغم من أن عملها لا يتطلب نجاحها في هذا الامتحان، كما إنها تعرف بأن هذا الامتحان لابد وأن يفتح فرصاً جديدة أمامها، وعنه تقول: "علي أن أنجح حتى أصبح قدوة لطلابي، إلا أن أخشى ما أخشاه هو ألا أنجح، عندها سيتعين علي لقاء طلابي وأنا معلمة لغة لم تتمكن من اجتياز امتحان اللغة، وفي ذلك فشل ذريع".

بيد أن ندوة اجتازت الامتحان في أيار 2022 على الرغم من تشكيكها بالأمر، فخططت بعد ذلك لقضاء فترة الصيف في تزيين صفها الدراسي الجديد، لكنها تقول: "مايزال أدهم يعاني في البحث عن عمل، وكذلك تمام، وذلك لأنه لا يحب دروس اللغة الألمانية".

في الوقت الذي بدأت فيه ندوة تجد طريقها في ألمانيا، بعدما صارت تكسب رزقها، وأصبح لديها أصدقاء وصديقات، وأسست حياة جديدة لنفسها، بقي أدهم يعاني في العمل، لكن أحلام وطموحات ندوة تجاه ابنها تمام كبيرة هي أيضاً، إلا أنه جديد في ألمانيا وتأخر كثيراً عن أقرانه في تعلم اللغة، ولهذا يخبرنا تمام الذي مايزال يحز في نفسه فقدانه لأبيه: "بعدما هربت من الحرب وبعد ابعتادي عن أمي، ثم محاولتي رسم معالم حياة جديدة هنا، لم يعد يهمني أمر تعلم اللغة".

بعد يوم طويل في حياة ندوة، تتوجه تلك المرأة إلى غرفة ابنها وهي قلقة عليه وتتمنى له أن يشفى من الألم الذي عاشه وهو طفل ثم وهو مراهق شاب، ولذلك تقول له: "دعني أساعدك بوظيفتك، إذ بوسعنا أن ننجزها سوية".

المصدر: The New Humanitarian