icon
التغطية الحية

"بعدٌ آخر" لـ هيفي قجو.. قصصٌ جريئة عن استباحة فرح السوريات

2021.05.17 | 15:15 دمشق

"بعدٌ آخر" لـ هيفي قجو.. قصصٌ جريئة عن استباحة فرح السوريات
ضاهر عيطة
+A
حجم الخط
-A

بين الغربة وأرض الوطن، تؤدي الكاتبة الكردية السورية "هيفي قجو" معزوفتها القصصية "بعد آخر" بروح مثقلة بذكريات مريرة، لا يكاد يمحوها زمن ولا مكان، فهي راسخة في عوالم شخصياتها، إلى حد لا يتيح لها التحرر من أسر الماضي، أو منحها فرصة لعبور المستقبل، ومعظمهن نساء طحنتهن دكتاتوريات وعادات الشرق، وأمعنت فتكًا في أعمارهن، حتى إذا ما تحررن منها مكانيًا، ظلت آثارها قابعة في حاضرهن.

ذكرى

وها هي الطبيعة تضاعف من معاناتهن في قصة " ذكرى" حين يأتي الثلج في بلاد اللجوء، لينبش أوجاع ماضي البطلة، فإن كان يشكل مصدر فرح وبهجة، للآخرين في الدول الأوروبية، فقد كان بالنسبة إليها ولوالدتها، وربما لجميع النساء في قريتها، كشبح مريب الحضور، نظرًا لما يحدثه من كوارث تطال محتويات البيوت، مفتتًا الأسطح، ومحيلًا إياها إلى ركام من طين، تاركًا المزاريب تقضي على الأغطية والفراش، ومحولًا كل ما يحيط بهن إلى طين ووحل، فالزمن يغدو مثل طين موحل، والمكان، وكذلك التقاليد والعادات الجاثمة فوق صدورهن.

تلك الفتاة كانت مرغمة، بالرغم من عمرها الصغير، على التصدي لهذا الشبح على مدار ساعات تقضيها، وهي تقشط الثلج عن سطح البيت، والبرد ينخر عظامها، ويتلف أعصابها، في حين يغدو الثلج في غربتها مصدر فرح، ودفء للقلوب، لكن وحشة الغربة، لا بد وأن تفجر الحنين لذكريات الماضي، فيصير ذلك البيت الريفي الطيني، مقارنة بالبيت الإسمنتي في بلد اللجوء، أكثر دفئًا وجمالًا، غير أن تكاثف وتراكم الذكريات، لا تجلب معها سوى طعم العلقم، وبذلك يتبين للبطلة، مقدار الهوة الفاصلة بين الحنين، وبين وقائع الماضي الموجعة، ما يضطرها لإشاحة الوجه عن ذلك الماضي، والانكفاء على وحشة الغربة، وكأن الأقدار تطبق على أنفاس السوريين أينما حلوا.  

انتفاضة على الموروثات

ورغم اعتماد الكاتبة هيفي قجو على مستويين في السرد، سرد الشخصيات وهي تروي حكايات أوجاعها ومآسيها، وسرد راوية تجاهد أن تبقى محايدة، غير أن التيمات المطروحة في السياق السردي، وحساسية الولوج فيها، تدفع بالكاتبة للتماهي مع شخصياتها، لتعلن صراحة، ثورتها على عادات وموروثات الشرق، وتفكك عناصر السطوة الذكورية، التي أحالت بطلاتها، إلى كائنات منتهكة في صميمها الإنساني.

سكاكين

ولهذا ربما أوجدت الكاتبة، راوي آخر، يتحدث عن الشخصيات، لتتحرر من مشقة الروي الذاتي، أو لئلا تختلط ذات الكاتبة مع شخصياتها، وهي المنغمسة في أحداثها إلى أقصى حد.

ونلحظ هذا في قصة "سكاكين" فالزوجة هنا مفجوعة بمقتل زوجها، من جراء عادات الثأر المتوارثة، ولم يكن مضى على زواجهما بضع سنين، يحدث ذلك حين يهرب شقيق الزوج مع فتاة من قرية ثانية، تاركًا الزوجة تدفع ثمن حدث لم تساهم فيه.

ومن خلال السرد الذي تأتي به الكاتبة قجّو، نلمح مدى فظاعة الخذلان والمرارات التي تعيشها الزوجة، ففي لحظة وصول خبر ذبح زوجها، يتناهى إلى سمعها، في الطرف الثاني من القرية، أصوات الزغاريد والأهازيج، من قبل أهل الفتاة المخطوفة، بعد أن تسنى لهم الأخذ بثأرهم، في حين، وهي الضحية، تبقى مرغمة على الخرس والصمت، ومداراة هول فاجعتها، بالانكفاء على نفسها، وتحمل مسؤولية تربية أطفالها، وقد أضحت قرباناً يقدم على مذبح عادات وتقاليد القبيلة والعشيرة، ولا تستطيع الإفصاح عن أنين روحها، إلا حين تغادر تلك الحفرة المسماة شرقًا، وقلبها ينفطر حزنًا على النساء، اللواتي بقين هناك، فجاء صوتها السارد للحدث، عميقًا وقويًا، من كونه صوت الضحية، وقد دفن لعقود في أعماقها. 

الإخوة

وها هي المرأة الأربعينية في قصة "الإخوة" تلجأ للحلول العقلانية، وتستشير رجلًا عجوزًا، حول ما يفترض أن تفعله مع شقيقها، الذي يحتكر قطعة أأرض ورثتها عن والدها، فيشير عليها هذا العجوز الحكيم، ألّا تخجل من المطالبة بحقها في التركة.

لكن، وما إن تحلت ببعض الشجاعة مطالبة شقيقها برفع يده عن قطعة الأرض، سرعان ما تثور ثائرته عليها، وكأنها ارتكبت جرمًا تستحق عليه أقسى العقاب، فيضربها ضربًا مبرحًا، لكونها خرجت عن حدود العادات والتقاليد بطلبها هذا، ويتركها مرمية على الأرض، سابحة في دمائها، مستغرقة في صمتها، حتى إذا ما جاء الصبح، لا تجد أمامها من خيار، إلا أن ترتدي ثيابها وتخرج من المنزل، ماضية الى الجهة التي يهب منها النسيم، لعله نسيم الحرية، أو الانتحار، فلا أحد يدرك كنه هذا النسيم، سوى البطلة الشقية.

حبّ عابر

على هذا النحو ترسم الكاتبة هيفي ملامح شخصياتها، ومعظمهن نساء طُعِنّ من قبل رجال، وتحكموا بأعمارهن ومصائرهن. فها هي فتاة بريئة، في قصة "حب عابر" تلتقي في إحدى الأمسيات بشاعرها المفضل، وقد كانت معجبة به، وتبث له الكثير من عواطفها عبر صفحتها علي الفيس بوك، باسم مستعار.

وحين يشعر ذلك "الشاعر"، يشتغل على تأجيج عواطفها أكثر فأكثر، متحدثًا عن كرم أخلاقه ونبله، وعن فتوحاته الثقافية والمعرفية، وعن تقديره لحقوق المرأة في المساواة والعيش الكريم. فما كان منها، إلا أن صدقته، وتضاعف إيمانها به أكثر، كما أمنت وصدقت قصائده، لظنها أنه نقيًا عذبًا مثلها.

ولما أعطته عنوان صفحتها، طلب منها أن ترسل له صورها في المرة الأولى، وفي المرة الثانية طلب أن تتحدث معه على الكاميرا، ثم تطور الأمر، وطالبها أن تظهر أمامه على الكاميرا عارية، والمسكينة كانت تستجيب لجميع طلباته، آملة أن تسمع منه كلمة "أحبكِ، وأريدكِ زوجة لي" ولكنه لم يتلفّظ بها، فتقرر أن تغيب عنه بعض الوقت، عساه يشعر بقيمة وجودها، لكنها لم تجد منه إلا الإهمال والاستهتار بمشاعرها، حتى إذا ما استيقظ أهلها ذات صباح على أمل تحسّن حالها، لم يعثروا منها إلا على رسالة تركتها خلفها، تقول فيها: 

"لا تبحثوا عني، وداعًا".     

تتضافر سلطة وسطوة الثقافة والذكورة، مضافًا إليهما سطوة التنظيم الأسدي والتنظيمات التكفيرية، لإهلاك كيان النساء، فلا يتركوا لهن من خيار إلا الانتحار                                 

حافة النهوض

وعلى هذا النحو تتضافر سلطة وسطوة الثقافة والذكورة، مضافًا إليهما سطوة التنظيم الأسدي والتنظيمات التكفيرية، لإهلاك كيان النساء، فلا يتركوا لهن من خيار إلا الانتحار، أو عطب أرواحهن، وقد استحلن إلى كائنات مستباحة من قبل التنظيم الأسدي، منبوذات من الأهل والمجتمع.

يتضح ذلك في قصة "حافة النهوض"، والراوية هنا تتحدث بصورة مباشرة إلى بطلة القصة المفترضة، حتى يبدو وكأن البطلة هي من تتحدث للقارئات؛ تدعوهن لأن يتخيلن ما حدث لها، وكأنه يحدث لهن، ليستوعبن فداحة المصير الذي آلت إليها حياتها.

الحدث هنا مهول وكارثي، يتطرق إلى ما تتعرض له النساء من تغييب واغتصاب في معتقلات الأسد، فالراوية تصور هنا جغرافية المكان وقد توسطها نهر الفرات، حيث كان الناس يعيشون في وئام وإخاء، إلى أن جاء النظام وقطع أوصال الجغرافية ومن عليها، إلى قطعتين، أو ضفتين، بحواجزه الأمنية التي تعتقل البطلة "عائشة"، وتنتزعها وطفلها، من بين ركاب السرفيس، ليتم سوقهما إلى المعتقل، وهناك تتعرض للاغتصاب على مدار أشهر، من قبل رئيس الفرع الأمني، وبعد استدراك الفرع من أن اعتقالها جاء نتيجة لتشابه في الأسماء، يطلقون سراحها. 

ما إن تصل عائشة بيت زوجها، سرعان ما يطلقها، منذ اللحظة التي قرعت فيها باب البيت، ويحرمها من رؤية أطفالها، وكذلك يفعل الأهل حين تمضي إليهم، رافضين وجودها بينهم. وبذلك تعاقب عائشة مرات ومرات، لكونها غدت "ضحية"، وما من أحد يمد لها يد العون، وكأن سر شرف الشرق يكمن "بين السيقان"، وإذا ما استباحها شبيحة الأسد، يفعلون ذلك، وكأنهم يستبيحون حصون العدو.         

"قمرة يا قمرة"                  

وفي قصة "قمرة يا قمرة" تصور الكاتبة حادثة استئصال قطعة من الأعضاء التناسلية للطفلة "قمرة"، انطلاقًا من الموروث الديني والقبلي. وبينما كانت هذه الطفلة تلاعب دميتها، وتعاين إشراقة القمر من نافذتها، تخطفها يد أمها لتضعها أمام رجل يقدم على بتر جزء من أنوثتها، ويكون لهذه الصدمة، والآلام الناتجة عنها، ومشهد الدماء وهي تنساب من بين ساقيها، سببًا كافيًا، لأن يتشوه كل ما في هذا الكون من جمال في عينيها، حتى أنها تبصر من نافذة غرفتها، القمر وهو يسقط على الأرض وقد استحال إلى حطام.