icon
التغطية الحية

"بدايات" أمين معلوف وترحالٌ في مكامن التاريخ العائلي

2022.03.25 | 09:47 دمشق

amyn_mlwf-_tlfzywn_swrya.jpg
أحمد عبد الحميد
+A
حجم الخط
-A

"أنتمي إلى عشيرة ترتحل منذ الأزل في صحراء بحجم الكون، مواطننا واحات نفارقها متى جف الينبوع، وبيوتنا خيام من حجارة، وجنسياتنا مسألة تواريخ أو سفن. كل مايصل بيننا، وراء الأجيال، ووراء البحار، ووراء بابل اللغات، رنين اسم...".

/أمين معلوف- "بدايات"/

من لبنان إلى فرنسا ثم هافانا بكوبا، وثّق الكاتب اللبناني الفرنسي "أمين معلوف" رحلة بحثٍ استقصائية باحثًا عن إرث أسلافه في الوطن لبنان.

لعل المصادفة هي التي سمحت لذلك الصندوق الخشبي القديم بأن يصل إلى يد الكاتب اللبناني هي بادرة إنتاج عمل روائي أدبي حاز على جائزة المتوسط، الصندوق الذي لخّص تاريخ عائلته عبر احتوائه رسائل صفراء قديمة وأحداث مفصلية واستكشافية لطبيعة المجتمع اللبناني وتاريخه بما احتوى من مآسٍ وحساسية تناول واقعه كما هو. إذ شجعت تلك الرسائل والدفاتر القديمة والصور والمذكرات وقصاصات الأشعار الحفيد اللبناني لتخليد هذا الإرث المنسي وتحويله لذاكرة توثّيقية.

"بدايات" اسم اختاره الحفيد الفرنسي اللبناني لسيرة عائلته صدرت في العام 2004 عن دار الفارابي في 456 صفحة، استندت إلى وقائع حقيقية، إذ غطت "بدايات" حقبة تاريخية ما بين الحربين الأهلية اللبنانية الأولى والثانية عبر وثائق تاريخية تعد روح روايته ومادة خاما لتفاصيلها.

أما عن المصادفة، فهي زيارة والدته من بيروت إلى مكان إقامته في فرنسا، حاملة معها ثلاث رسائل صفراء قديمة مذيلة بالعنوان "هافانا"، وهي رسائل من عمه جبرائيل المقيم في كوبا إلى جده بطرس.

مع تسلم أمين تلك الرسائل  انطلق مباشرة إلى قريته "المشرع" بيت الأسرة الكبير على السفوح اللبنانية وهو المحب للمغامرة والتقصي، وقد برز ذلك من خلال عمله الصحفي في تحرير جريدة النهار اللبنانية، وفي الملحق الاقتصادي للجريدة، كذلك تغطيته أحداثًا سياسيةً دوليةً كبرى من بينها حرب فيتنام.

اطلع معلوف على صندوق تلك الرسائل، فإذا برسائل وأوراق ووثائق وصور قديمة خاصة بجده بطرس، إلا أنها تحمل معها أحداث سنوات طويلة تمس العائلة، ومعلومات دقيقة، قرر عبرها معلوف أن يخطّ تاريخ عائلته:

"في صباح اليوم التالي فقط أحسست بما يكفي من الارتياح للقبض من جديد على صندوق أجدادي.. كنت أقرأ وأصنف وأعاود القراءة والتصنيف وتدوين بعض الأجوبة، عن تساؤلات سابقة؛ ثم تدوين تساؤلات جديدة.. كان يخالجني على الدوام الإحساس بالضياع، وسط كل هذه الرسائل غير المحددة الهدف، غير المقروءة، وغير المؤرخة والموقعة، وسط كل هؤلاء الذين نسيهم أحفادهم".

"كان مسيحيو لبنان يعتبرون أنفسهم سوريين، والسوريون يبحثون عن ملك في مكة، واليهود في الأراضي المقدسة يعدون أنفسهم فلسطينيين. وكان جدي بطرس يحب أن يرى في نفسه مواطنًا عثمانيًا"- معلوف

 بدأ معلوف رواية "بدايات" بشرح تفاصيل دقيقة لعائلة معلوف، انطلق فيها من الجانب  العقائدي للأسرة المولودة على المسيحية الأرثوذكسية، والمتأصلة بتعاليمها، والتي انقسمت فيما بعد  إلى فرعين متضادين بروتستانت وكاثوليك، مع جدٍّ كاثوليكي (بطرس) متطلع للتحرر، وشقيقه المبشر البروتستانتي المتشدد، وآخر  ثالث متحرر من كل ذلك هاجر إلى ما وراء البحار في كوبا، وهو ما جعل لروايته تفرعات شيقة عبّرت عن واقع لبنان الديني المتعدد الطوائف،  والمتمرد على نفسه، وانتهاء بعرض رسائل شقيق جده "جبرائيل" المقيم في كوبا مع جده الأصيل بطرس، وما احتوت من تفاصيل توضّح طبائع الجد بطرس ونمطية تفكيره مع شقيقه جبرائيل، فبطرس شخصية متناقضة ساعية لإنشاء مدرسة دينية حداثية متمردة على الأعراف، خاصة أنه عرف بهواه الأرثوذكسي رغم التأصيل الكاثوليكي، والمحب لأتاتورك صانع تركيا الحديثة والمتغني بأمجاد عبد الحميد:

"كان مسيحيو لبنان يعتبرون أنفسهم عن طيب خاطر سوريين، والسوريون يبحثون عن ملك في مكة، واليهود في الأراضي المقدسة يعدون أنفسهم فلسطينيين... وكان جدي بطرس يحب أن يرى في نفسه مواطنًا عثمانيًا".

أما جبرائيل فقد سلك طريقًا آخر في كوبا عبر تأسيسه إمارة مالية ضخمة وإنشائه سلسلة محال تجارية ( La Verdaf) كما تفضح مراسلاتهما، حتى غيّبه الموت بظروف غامضة.

معلوف في كوبا

رأى معلوف في غموض موت شقيق جده جبرائيل في كوبا ما يستدعي السفر إليها لإكمال تأريخ سيرة عائلته، وهي سمة لازمت معلوف المغامر، إذ برز ذلك واضحاً في أعمال معلوف الأخرى كرواية "ليون الإفريقي" التي استخدم فيها سردية رحلية وتمثيلًا معاصرًا لحقب تاريخية، فانطلق إلى كوبا ليبحث عن قبر عمه بهدف إماطة اللثام عن تفاصيل حياة عمه المهاجر اللبناني الذي حمل معه وجه لبنان الغريب.

ورافق رحلة معلوف عناءُ البحث والاستكشاف والتجربة المليئة بالمتعة والمغامرة والمخاطرة بهدف وضع لمسات أخيرة على تاريخ الأسرة، وفكّ لغز موت عمه المجهول.

وبكل ما حوت رحلة معلوف في شوارع هافانا الكوبية والتنقل بين فنادقها عبر اعتماد المراسلات التي كانت بين جده وعمه وما تضمنته من خرائط قديمة وعناوين مهمة ووصف دقيق لقصره الأندلسي الفاخر، وفي أعلى نقطة أرادها العم لقصره الشاهق وصل معلوف إليه عبر وثيقة مرسلة من جبرائيل لجده بطرس يصف فيها قصره، وهو ما عاينه معلوف واقعاً، إذ يقول العم مفتخرا بقصره:

"حجرةٌ فسيحةٌ غطي سقفها العالي وجدرانها بالخزف والجبس وبزخارف، ونقوش مستوحاة من الزخارف والنقوش في قصر الحمراء، ولاسيما شعار (بني نصر) آخر ملوك غرناطة المسلمين (لا غالب الا الله)".

تمكن معلوف من العثور على قبر عمه، من خلال براعته في استيعاب المراسلات التي ساقته إلى المكتبة الوطنية في هافانا، والبحث عن نسخ الصحف الصادرة تلك الفترة، بهدف العثور على عنوان يتناول خبر وفاة عمه رجل الأعمال، وبالفعل وجد نسخة قديمة لصحيفة تناولت خبر وفاة رجل الأعمال "غابرييل" الاسم الذي اختاره عمه له، عام 1918، إثر حادث أليم أودى بحياته، ليصل إلى ضريحه المنقوش عليه اسم عمه GABRIEL M.M في المدفن الحقيقي في مقبرة كولومبوس.

ومع العثور على القبر وزيارة معلوف لأولاد عمه استطاع أن يختم روايته ويعود إلى فرنسا بعد أن رسم عقودًا طويلةً لأحداثٍ سرديةٍ ممتعةٍ حول أسرة مثّلت بأفرادها ارتباطها بالأرض من جهة والثورة والبحث عن الأمل خارج الأوطان من جهة أخرى، ليحيي مع تلك السردية جولة بحثية استقصائية لم تكن سهلة بما احتوته من تعقب دقيق وغموض في كثير من أحداثها، مستفيداً من تجاربه الصحفية، رافضًا أن يكون تاريخ سرديته الروائية التي تمثل وجهًا لعائلات لبنان بشكلها الحقيقي ضمن صندوق خشبي فقط، مصيره التلف بما يحوي، مصراً على تحويل تلك التركة لتاريخ وذاكرة حية.

"وفي كل الأحوال إن اقتفاء الأصول هو بمنزلة الانتصار على الموت والنسيان"- معلوف.

أمين معلوف

من مواليد 1949 في بيروت، وهو الابن الثاني لأسرة مؤلفة من أربعة أطفال. حاز على البكالوريوس في علم الاجتماع وفي الاقتصاد، إلا أنه ورث موهبته الأدبية من عائلته، حيث أنهم مشهورون بقص الحكايات وتأليف وإلقاء الشعر والكتابة والصحافة.

انضم معلوف إلى صحيفة النهار اللبنانية التي سافر من خلالها إلى عدة دولٍ في العالم. أُجبر على الهجرة هربًا من الحرب التي اندلعت في لبنان واستقر في باريس. أصبح رئيس تحرير الطبعة الدولية لجريدة 'النهار" ثم رئيس التحرير للجريدة الأسبوعية Jeune Afrique قبل أن يتخلى عن جميع مناصبه هذه ويترك الصحافة ليُسخر نفسه للأدب.

يكتب معلوف مؤلفاته باللغة الفرنسية ولكنها ترجمت إلى أكثر من 40 لغة. وتشمل تلك المؤلفات أكثر من 10 روايات والعديد من المقالات العامة والأدبية بالإضافة إلى 4 مؤلفات أوبرالية.

فازت أعماله بالعديد من الجوائز من بينها جائزة أمير إسبانيا للأدب في عام 2010؛ وجائزة غونكورت وهي جائزة أدبية فرنسية مرموقة في عام 1993 لروايته "صخرة طانيوس" والتي تدور أحداثها في لبنان خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر. وفي رواية "بدايات" التي نشرت في عام 2004، فاز بجائزة الأدب لمنطقة البحر الأبيض المتوسط.

مؤلفات معلوف

"الحروب الصليبية كما رآها العرب" – عرض تاريخي (1983)، " ليون الأفريقي" – رواية (1984)، سمرقند – رواية (1986)، حدائق النور – رواية (1 صخرة طانيوس – رواية (1993)، سلالم الشرق أو موانئ المشرق – رواية (1996)، "رحلة بالداسار" – رواية (2000)، "الحب عن بعد" – مسرحية شعرية (2001)، "الهويات القاتلة" – مقالات سياسية (1998 و 2002)، "بدايات" – سيرة عائلية (2004)، "الأم أدريانا" – مسرحية شعرية (2006)، "اختلال العالم" – مقالات سياسية (2009)، "التائهون"- رواية (2012).