icon
التغطية الحية

"اليبرق" مفتاح جنة المتعة المتخيلة.. الأكل الشرقي في عمق موسيقا الجاز

2024.04.15 | 14:09 دمشق

578898675657
+A
حجم الخط
-A

على الهامش، وقبل أن تنفجر أفلام الطبيخ السوري والشرقي عموماً، خلال السنوات الماضية، في موقع تيك توك، وقبله موقع يوتيوب، وجد اللاجئون السوريون في أوروبا والولايات المتحدة أمامهم فرصة كبيرة للاستفادة من ثقافة الطعام التي يعرفونها، وتسخيرها لتخدم مصالحهم، وجعلها بوابة للعمل، من خلال افتتاح المطاعم الشرقية وتسويق الأكلات المعروفة وغير المعروفة، في سوق الطعام المزدهر بشكل عام.

وبعد مرور عقد وبضع سنوات، سيكون من اللافت أن الطعام السوري بات له عنوان في كل المدن، حتى الصغيرة منها، لا تخلو من مطعم يقدم الفلافل أو الشاورما!

وبالتوازي مع تمدد حضور الوجبات السورية واللبنانية شرقاً وغرباً، ستظهر على الخريطة أسماء أكلات أشد محلية، لتصبح متوفرة في سوق تنافسية، يلعب فيها أبناء البلد الواحد، ممن يحاولون الحصول على الحصة الأكبر من مستهلكين تتعدد مشاربهم القومية.

غير أن ظن العاملين بأنهم يخوضون مجالاً لم يسبقهم إليه أحد من مواطنيهم، أو أبناء المشرق، يبدو بعيداً عن الواقع، وعن التاريخ، حيث إن تحري حضور الوجبات السورية اللبنانية في الفضاءات الغربية، يكشف أن بعضاً من الجمهور الأوروبي تعرف خلال الفترة الاستعمارية على أنواع الطعام الشرقي، كما أن تواصل موجهات الهجرة الفردية أو الجماعية من المنطقة العربية إلى أوروبا والأمريكيتين، جعل هذه النوعية من الأكل متوفرة لمن يرغب من المستهلكين.

وقد شكلت ثقافة الطعام مادة ثرية للدراسات الأنثروبولوجية، التي حاولت قراءة تطور علاقة المشرقيين مع طعامهم، والنظر إلى التحولات التي تحدثها العوامل الاقتصادية والمناخية في عالم الغذاء، ودور الفتوحات الإسلامية في توسع قائمة مفردات الغذاء المعروفة للسكان البدو أو الحضر، وصولاً إلى الدمج الذي يصنعه الأفراد في حيواتهم بين متعة الأكل ومتع أخرى مختلفة. لكن هذه الدراسات ظلت قاصرة عن تحري حضور الطعام الشرقي في الثقافة الغربية، وعن دوره في تقريب الغربيين من الشرق، وأيضاً عن تحوله إلى سياق اقتصادي قائم بذاته كما هو الحال الآن!

ربما، لا يمكننا العثور على دراسات تؤرخ لهذه العلاقة، لكن من الممكن لتفصيل هنا أو هناك أن يؤشر إلى دور ما للطعام الشرقي في ثقافة فرد أو جماعة، وفي هذا المسار، وبين ركام كبير في عالم التشابكات الثقافية، يبرز وبشكل متفرد مغني الجاز وعازف البيانو الشهير سليم جيلارد (1916-1991) بتقديم أغنية غريبة، لا تزال حاضرة حتى الآن في فضاء محبي أغاني الجاز، إلى درجة جعلت عنوانها Yip Roc Heresy مرغوباً ليكون اسماً لشركة تسجيل شهيرة حاضرة في سوقها التخصصي، وسيكون من الصادم أن كلماتها تشكّل قائمة كاملة من الوجبات الشرقية!

أغنية "يبرق هريسة" التي غناها جيلارد عام 1949، وصدرت في ألبوم Opera In Vout في العام 1953، تشير بشكل واضح إلى أن صاحبها الذي اشتهر بمعرفته لعدد من اللغات، وغنى لوجبات أخرى في أوقات متعددة، أراد أن يضيف لقائمة المفردات الغرائبية التي يستخدمها في أغانيه كلمات تدل إلى أشياء يعرفها، ويستطيع أن يديرها بشكل متقن مع الإيقاعات التي يقدمها، ويرقص عليها الحاضرون في البارات التي يغني فيها.

656859899

ضمن هذا المسار، سيسمع المستمعون أسماء أكلات كـ اليبرق، والكبة بالصينية، وكبة البطاطا، واللحم المشوي، والكباب، والهريسة، وصينية اللحمة، وغيرها تتالى في الأغنية، بالتجاور مع كلمات غير مفهومة، هي جزء من طقوس جيلارد في صناعة عالمه الموسيقي، دون أن يثير الأمر تساؤل الحاضرين حول ما يقال هنا، ففي لحظات كهذه، لا يمكن لمن يستمتع أن يقطع متعته، من أجل أن يعرف، طالما أن الإيقاع يجره إلى الأعلى، على سلم تتصاعد فيه الأشياء، من دون مقدمات أو تحديدات، لتفضي إلى لذة مصنوعة من صخب الموسيقا، المخلوط بالكحول.

في وقت ما، ومع استعادة هذه الأغنية من الأرشيف، التي وصفها الناقد شارلز بيري في صحيفة "لوس أنجلس تايمز" بأنها " كانت بلا شك، أعظم قصيدة غنائية ل موسيقا الجاز في الخمسينيات من حيث ذكر الأطباق المبنية على لحم الضأن"؛ سيسأل أحد ما عن سر الوجبات الشرقية في أغنية سليم جيلارد، وعلاقته باللغة العربية. لكن الإجابة ستكون موزعة بين موردين، أولهما أنه خلال عمله في مدينة ديترويت في أحد مصانع السيارات، لا بد أنه تعرف على عمال مهاجرين جاءوا من الشرق الأوسط، وقد نهل منهم بعضاً من مفردات وتعابير لغتهم، وهذا ما ظهر في أغنية أخرى حملت عنوان Arabian Boogie (الغول العربي) استخدم فيها عدة تعابير بسيطة، حيث تقول كلماتها: "كيفك؟ كيف الصحة؟ سعيدة! شو بدك؟ إنتا مجنون! إيه...!"

أما الثاني فهو ما يقود إلى علاقته بوجبات الطعام ذاتها، حيث تردد في وقت ما على امرأة أرمنية جاءت من الشرق، وتعرف في مطبخها على الأكلات، التي يذكرها في الأغنية الشهيرة.

تأثير الأغنية التي نتحدث عنها هنا لم يكن عابراً، فهي تفصيل راسخ من بين كومة من الموضوعات، التي جرى تداولها في فضاءات جيل من المبدعين الأميركيين، ولا سيما منهم (جيل بيت)* الذين عاشوا في عوالم مختلفة عن السائد، وكانت علاقتهم مع العوالم الغرائبية، جزءاً من تكوينهم المؤثر محلياً وخارج الحدود. وفي هذا السياق سيذكر الروائي والشاعر جاك كيرواك، بشكل مخصص سليم جيلارد، في روايته المكرسة (على الطريق) في جزئها الثاني وتحديداً في الفصل الحادي عشر، حيث يصف أسلوب المغني الشهير في الاستحواذ على أسماع وعيون الحاضرين في الوقت نفسه.

ر56ع65عه67

وبعد عقود من تاريخ طباعة الرواية، سينقل المخرج والتر ساليس، الذي تولى تحويلها إلى الشاشة الكبيرة في فيلم نفس الاسم، في العام 2012، هذا المشهد بطريقة آسرة، يظهر فيه أبطال الحكاية المتخلية، وهم فعلياً شخصياً معروفة في الوسط الأدبي الأمريكي، وهم يهتفون مع جيلارد بكلمة "يبرق" وكأنها مفتاح بوابة جنة المتعة المتخيلة.


*حركة ثقافية أدبية مغايرة، ظهرت في خمسينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وكان لها تأثير على أجيال لاحقة، لجهة تبنيها الاختلاف والمغايرة، عن السائد، واتباع أدوات إبداعية تسمح للمبدعين الذهاب إلى أعلى درجات الغضب، في رفضهم للتبعية والامتثال للسلطة الراسخة، وربما تمثل قصيدة (عواء) للشاعر "ألن جيسينبرغ" الأنموذج الدال على طبيعة حراك الجماعة، حيث تعرض للمحاكمة بسببها.