الوجوه الحيادية للطغاة

2022.05.26 | 06:34 دمشق

كيم وبشار
+A
حجم الخط
-A

شارك ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون في جنازة الماريشال في جيش الشعب هيون شول هيي، الذي قيل إنه أشرف على تعليمه وتوجيهه بعد خلافته والده كيم جونغ إيل.

وفي الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء ظهر الوريث بملامح معتادة على وجهه، أمام القبر وبين الجموع، فلم ندرِ كيف يُصاغ الحزن لدى رجل يقود موت شعب كامل، وهو يظهر بوجه (Poker Face) بلا أي علامات!؟

أعادنا الأمر إلى صورة ديكتاتور وريث آخر، نعرفه ونعرف أفعاله جيداً هو بشار الأسد، الذي ما انفك يحاول إقناع القوى المؤثرة في العالم بأنه قابل للتدوير، ليس من بوابة إمكانية التكفير عن الجرائم التي ارتكبها طيلة 11 سنة بحق السوريين الثائرين ضده، بل من دائرة صغيرة، هي عدسة الكاميرا التي تصوره زائراً لدار الأيتام قبل فترة وجيزة، وساهراً برفقة زوجته في حفل موسيقي، حمل عنوان "نفوسٌ كرام" أقيم في المتحف الوطني بمناسبة عيد الشهداء.

أيضاً كان وجها الزوجين ممتلئين بالحيادية، أو لِنقل حجريَّين، بلا مشاعر، وكأنهما تمثالان بمتحف، أو (على الأقل) رجلان آليَّان جرى تصويرهما وهما يدخلان الممرات بين القطع الأثرية، ليتطابقا في حركاتهما مع مشهد مسير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته مع مجموعة من الأطفال في ليلة إعلان فوزه بالولاية الرئاسية الثانية!

المشكلة ليست في تقليد أفعال الزعماء الآخرين، فهذه عادة متبعة لدى مبهرجي صورة رأس النظام، وقد فعلوا مثل هذا مرات عدة، كان أطرفها إخراج مشهد دخوله إلى "قصر الشعب" بالطريقة ذاتها التي يدخل فيها بوتين إلى الكرملين! بل هي تكمن في أن ما يتم صنعه هنا، إنما هو محاولة إكساب ملمح بشري على ما هو غير ذلك!

يمكن لكيم ولبشار أن يُظهرا أنهما حزينان، مع إصرارهما الدائم على أن تدوي ضحكاتهما المستفزة لضحاياهما، لكن أحداً لن يقتنع بأن وجوه الطغاة، الصلفة القاسية، الخالية من ملامح المشاعر البشرية المحسوسة، يمكن أن تعيدهم إلى ذات الدائرة التي تجمعهم مع البشر الآخرين!

ذات يوم، وقبل أن يُحمل بشار الأسد إلى كرسي الرئاسة على أيدي حرس النظام وخدمه، حضرتُ في العام 1999 في صالة مكتبة "الأسد" عرضاً تجريبياً لأول فيلم رسوم متحركة سوري حمل عنوان الجرة، وقد أنتجته شركة النجم، جلست في مكان مناسب للمشاهدة، وجاء الوريث العتيد مع حرسه ليحضر الفيلم أيضاً فاختار كرسياً قريباً.

كنت أحاول استراق النظر، إلى ملامحه، وهو يشاهد الفيلم الطفولي الطريف، لكن شيئاً لم يك يظهر، فعزوت الأمر إلى قاعدة الوجه الحيادي، التي يتعلمها هؤلاء، منذ بداية تأهيلهم لهذه الأدوار، وتقول بضرورة إخفاء المشاعر، وعدم إظهارها من خلال ملامح الوجه أو حركات الأيدي، أو العيون!

كلما كان القامع مبهم الانفعالات خاف منه المقموعون! وعلى الخوف أن يتأبد في أرواح هؤلاء، وإذا كُسر هذا الحاجز بين الديكتاتور وبين الشعب، تجرأ الأخير على الأول، لأن معرفة الطبيعة الإنسانية وجغرافيتها لدى أي بشري، تجعل الجميع على قدم المساواة، وتمحو الفوارق بينهم، فلا يبقى من الخوف العميق كشعور مؤسس له عبر ممارسات طويلة الأمد، أي أثر!

اختار السوريون ذات يوم في ثورتهم، أن يحطموا الوجوه الصارمة، فسخروا منها، ولم يعد بالإمكان السيطرة على حريتهم، إلا من خلال قتلهم بأبشع الطرق، وجعلهم يعيشون الرعب

اختار السوريون ذات يوم في ثورتهم، أن يحطموا الوجوه الصارمة، فسخروا منها، ولم يعد بالإمكان السيطرة على حريتهم، إلا من خلال قتلهم بأبشع الطرق، وجعلهم يعيشون الرعب، وهكذا صارت حياة السوريين تمضي على حواف الموت!

وما الأفلام المنتشرة حالياً عن مجازر عناصر النظام بحق المدنيين، الذين تصادف مرورهم على هذا الحاجز أو ذاك، إلا أمثلة على الفكرة التي طُبقت بحذافيرها؛ يأتي القتلة بوجوه مبهمة، دون مشاعر، يطلقون الرصاص، وحتى حين ينالون مرادهم بإبادة الآخرين، لا يفرحون، ولا يحزنون، وكأنهم آلات مصممة لمحو البشر!

حين شاهد ديكتاتور روسيا جوزيف ستالين فيلم إيفان الرهيب، بحضور مخرجه سيرغي إيزنشتين، في جلسة رقابة للبت في إجازة عرضه في الصالات من عدمها، كان على عبقري السينما، أن ينتظر ظهور الانفعالات على وجه الطاغية ليتبين مصير عمله، لكن ستالين الذي لم يعجب بطروحات الفيلم، وضع بعد المشاهدة ملاحظات ملزمة، تسببت بتخريبه، وقد تم نشر محضر هذه الجلسة بعد نصف قرن من حدوثها، ليتبين فعلياً أن عالم الطغاة منفصل ومنعزل عن عالم البشر الطبيعيين.

اكتفى بمشاهدة الشريط، ولم تصدر عنه أي إشارة بالإيجاب أو السلب، بالفرح أو الحزن، بالغضب أو الارتياح. بل قام من مكانه صامتاً، ولم ينطق بشيء، فمُنع الفيلم من العرض أمام السوريين، حتى اليوم، وتم إرساله إلى المهرجانات ليحصد الجوائز باسم "سوريا الأسد"!

الطاغية الشهير نطق بتوجيهاته وليس رأيه، أمام المخرج الأشهر في تاريخ الإبداع السينمائي الروسي، لكن الأسد الأب الذي كانت صورته متجهماً تسد آفاق الحياة اليومية السورية، ولم يُعرف عنه حضور السينما أو العروض المسرحية، حين جلبت له وزيرة الثقافة السابقة نجاح العطار (نائبة وريثه حالياً) فيلم "نجوم النهار" للمخرج أسامة محمد، لكي تعرف ماذا ستفعل بهذه "المصيبة"؟ اكتفى بمشاهدة الشريط، ولم تصدر عنه أي إشارة بالإيجاب أو السلب، بالفرح أو الحزن، بالغضب أو الارتياح. بل قام من مكانه صامتاً، ولم ينطق بشيء، فمُنع الفيلم من العرض أمام السوريين، حتى اليوم، وتم إرساله إلى المهرجانات ليحصد الجوائز باسم "سوريا الأسد"!