الهوية الوطنيّة بين وعيين

2022.12.20 | 06:21 دمشق

ساحة يوسف العظمة بدمشق
+A
حجم الخط
-A

رغم أنّ مراجعة تاريخيّة بسيطة يمكنها تأكيد أن جيل الثورة الذي طالب بالحريّة وبالكرامة سنة 2011 كان لحظة اندلاعها يتراوح سنّه ما بين (15و35)، أي أنّ وعيه كان قد نضج في ظل حكم آل الأسد، في حين كانت المعارضة -مع بالغ الأسف - في السجون أو في المهجر، وهذا مؤشّر على عدم تأثير المعارضة –كوعي سابق ومغاير للثورة- على جيل الثورة، ويفترض ذلك عدم التأثير على أهدافها أيضاً!

استغرقت المعارضة، التي نصّبها المجتمع الدّولي ممثلة عن السوريّين، سنوات طويلة للاعتراف -لفظيّا في السنوات الأخيرة- أنّ الثورة لم تخرج من تحت عباءتها. وفي حين كانت التبعات السياسيّة لمثل هذا الاعتراف متعذّرة بحكم أنّ القرار السياسي صار "مرهونا لدى الدول الداعمة"؛ إلّا أنّ المسار السياسي التفاوضي ظلّ يعمل، وظل معه الوعي المعارض يمارس دوراً يحتاج للكشف عن مزيدٍ من بؤسه!

إذا كانت أهداف ثورة السوريين عام 2011 ما تزال معيارا فيمكننا القول بصراحة: لقد فشلت المعارضة وأفشلت الثورة، فانحدر المسار التفاوضي السياسي إلى سلال ديمستورا (الحكم، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب)  من دون تحديد جدول زمني ملزِمٍ، أو مزامنة بين مسارات تلك السلال؛ حتّى انحسر المسار كلّه في "لجنة دستوريّة".

تأخير سلّة الانتقال السياسي على وجه الخصوص ترك فجوة مهمّة تحول دون صلاحيّة مناقشة قضايا تتعلّق بالدستور: "كالهويّة الوطنيّة، أو هويّة الدّولة"؛ إذ كانت تحتاج مثل هذه القضايا إلى مشاركة حقيقيّة من مجتمع مدني سوري يصوغ مضامينها قبل طرحها لعموم الشعب السوري للتصويت، في حين تمكّن النّظام والتنظيمات الإرهابيّة الراديكاليّة والشوفينيّة من سحق المجتمع السوري الثائر، أو تهجيره، أو السيطرة عليه عبر قوى الأمر الواقع!

 ولعلّ إتباع الوفدين المتفاوضين بوفد عن "المجتمع المدني" جاء لسد مثل هذه الثغرة، وفي حين تستند المعارضة السياسيّة إلى القرار 2254،  فإنّ وفد المجتمع المدني المشارك يستند إلى فقرة من القرار ذاته تؤكّد ضرورة إشراك المجتمع المحلّي.

رغم أنّ الأسماء والهياكل القانونيّة موضبة شكلاً بمسمّيات صحيحة؛ فإنّ السوريين الذين يعرفون يتمهم السياسي يكادون يعرفون كذلك غيابهم الفعلي في المسألة المدنيّة حتّى الآن. فهل يمكن أن تنوب "منظمات المجتمع المدني" عن دور المجتمع المدني الحقيقي في الهيكل المؤسّسي للدولة الحديثة؟!

تناقش المعارضة السياسيّة غير المخوّلة شعبيّا- "هويّة الدّولة"، وتناقش منظمات المجتمع المدني -نيابة عن الأغلبيّة الصّامتة-: الهويّة الوطنيّة. بل إنّ مراكز الأبحاث بالتزامن مع ذلك تبحث في الهويّة الوطنيّة، ولعلّ أسلوب معالجة موضوعة الهويّة الوطنيّة السوريّة يكون مؤشّرا على توجّه الوعي. إذ تتكوّن الهويّة الوطنيّة أساسا في الميدان الاجتماعي المدني، أي في ميدان تمثّله تماما تلك المنظّمات، فهل ستحاول المنظمات تمثيل وعي المجتمع والتّعبير عنه، أم ستميل إلى وعي المعارضة!

هل كان لدينا هويّة وطنيّة سوريّة؟

إذا لم يكن ثمّة هويّة وطنيّة فماذا كانت تعني هتافات من مثل:( عاشت سوريّة ويسقط بشّار الأسد) أو (يا درعا -سويدا -حمص  -حلب .. حنّا معاكي للموت)!

من خلال الاستقراء يمكن ملاحظة أنّ المجتمعات السوريّة في غالب المحافظات السوريّة هتفت للحريّة، ولم يقترن الهتاف للحريّة بلاحقة تشير إلى طائفة أو عِرق أو منطقة، ويمكن بقليل من العناء تفسير أنّ تلك المطالبات بالحريّة يشير إلى هويّة مواطنة خارج القوميّات والإثنيّات والطّوائف، ولعلّ هذا هو الوعي المدني للثورة السوريّة الذي تمكّن السوريّون بوساطته من إعلان 70% من المساحة السوريّة خالية من النّظام.

تزعزع هذا الوعي بوساطة مؤثّرين اثنين:

الثورة تعني أنّ المجتمع سيّد قال قولته، وأنّ على النّظام والمعارضة معاً مراجعة مفاهيمهم بكونهم أطراف أزمة المجتمع السوري

الأول كان عمل مؤسّسات النظام، الأمنيّة والعسكريّة على تأجيج الفتنة الطائفيّة.

الثّاني كان استثمار وعي المعارضة في البحث عن مبرّرات ظهوره. فخضع تفسير "الحريّة" ذاتها  إلى تأويلات مسيّسة، ليجني مصالح حزبيّة أو فئويّة.

سنتصوّر أنّا نكرّر السؤال ذاته على وعي معارض: هل كان السوريّون يمتلكون هويّة وطنيّة؟

لعلّ الجواب: "لا". أمّا الدليل: فجملة مبرّرات مناسبة  لـ "لا". من مثل:

- "لا" والدليل هجوم عشائر من مكوّن ما على مكوّن آخر؛ فنفهم أن صائغ التبرير قوميّ قرّر تبرئة مخابرات النّظام من مثل هذه الحادثة، واتّهام المجتمع لجني مصالح حزبيّة!.

ويمكن أن تكون "لا" بدليل المجازر التي ارتكبتها طائفة بحق طائفة أخرى.. فنفهم أنّ لدى المتحدّث أزمة مع الدّولة الوطنيّة منذ نشوئها، قرّر تناسي دور النظام واتهام مجتمع!

والأكثر خطورة أن يكون الجواب "لا"؛ بذريعة جهل السوريين وتعصّبهم حتى أنتجوا إرهاباً!. إذ فضلا عن أنّ مثل هذا الوعي المعارض ينتمي أساساً إلى جذور متعلّقة بالاستشراق منذ نشوء الدّولة السوريّة، فإنّ مثل هذه النّظرة تنفي توفّر مجتمع مدني سوري فضلا عن مجتمع وهويّة وطنيّة!

ولعلّ قليلا من الإنصاف يكفي لإدراك الفرق بين وعي سوري نسمّيه وعي ثورة، ووعي يتّهم السوريين لتحصل مكاسب!

العجيب أنّ  الأدلّة التي يمكن أن تسوقها الجهات البديلة عن السوريّين لإثبات أنّ السوريين لم يكونوا يمتلكون هويّة وطنيّة، تكاد تتطابق مع التّهم التي كان بشّار الأسد يرمي الشعب السوري الثائر بها!

بالنسبة إلى وعي سياسي يعمل للحصول على السلطة، أو اقتسامها مع النّظام فإنّ الفرق بين الحرب الأهلية -أو ما يمكن أن تشير إليه مثل "الأدلّة" السابقة- وبين الثورة لا يكاد يشكّل أثراً، أما بالنسبة للثائر السوري فالأمر يتعلّق بوجوده وبمصيره!

فالثورة التي طالبت بالحريّة دليل على الهويّة السوريّة، والحريّة -بهذا السياق- استحقاق مواطَنة سوريّة لا مؤامرة كونيّة على "السّيد الرئيس"!

والثورة تعني مطالب ينبغي تحقيقها، أمّا الحرب الأهليّة فتحتاج إلى حلّ عبر تسويات بين قوى الأمر الواقع!

الثورة تعني أنّ المجتمع سيّد قال قولته، وأنّ على النّظام والمعارضة معاً مراجعة مفاهيمهم بكونهم أطراف أزمة المجتمع السوري، أمّا الحرب الأهليّة  فتعفي المعارضة والنظام كليهما من كلّ مراجعة، وتتهم المجتمع!

ثورة الحريّة تعني الاعتراف بحق الإنسان في أن لا يهان حتّى بذريعة تنويره وهذا يتناقض مع دور المثقّف النخبوي التنويري، إذ ماذا يفعل هو إنّ كان المجتمع سليما!

تعرّض المجتمع الأوروبي والأميركي في أثناء تفشّي وباء كورونا، ثمّ من جرّاء الضائقة الاقتصاديّة بسبب الحرب الروسيّة الأخيرة على أوكرانيا، إلى هزّات تعتبر بسيطة نسبة إلى مآسي الشعب السوري؛ ورغم ذلك خرج الأوروبيون والأميركان عن طورهم واقتحموا المحال، وأشعلوا الإطارات بل واقتحموا مراكز حكوميّة.. ولم نسمع عن مثقف أو ناشط مجتمع مدني غربي زعم أنّ المجتمعات الغربيّة لم تعرف الهويّة الوطنيّة؛ أو أنّها ينبغي أن تتنوّر حتى تستحقّ الحريّة!

أخيرا تقتضي منّا الإشارة إلى أنّ الحديث عن "الوعي المعارض" لا يشمل بكل تأكيد معارضين سابقين تخلّوا عن مناهجهم الإيدولوجية وانخرطوا في الوعي الثوري والعمل لصالح حريّة الشعب السوري، أو ظلّوا بحسب مناهجهم لكن لم يسيئوا إلى السوريين، وكذلك لا يشمل العاملين بنزاهة ضمن منظمات المجتمع المدني، إنّما غاية المقال لفت النّظر إلى أنّ السوريين لم يختاروا ممثليهم السياسيّين، ولم يُفرٍزوا-كذلك- نخب مجتمعهم المدني المختلف بطبيعة الحال عن مسمّى "منظمات المجتمع المدني" الحاليّة. ونظنّ أنّ هذا هو واقع الأمر على أيّ حال.