الهجوم الأميركي _الروسي المضاد على العالم

2023.08.22 | 06:11 دمشق

آخر تحديث: 22.08.2023 | 06:11 دمشق

الهجوم الأميركي _الروسي المضاد على العالم
+A
حجم الخط
-A

يخوض العالم حروباً متعددة، منها بالمباشر كالحرب الروسية الأوكرانية، ومنها اقتصادية كتلك الواقعة بين واشنطن وبكين، ومحاولة تطويق كل طرف للآخر لمنع توسُّع نشاطاته، وكذلك الحروب بالواسطة عبر الانقلابات العسكرية وتفكيك التحالفات الكلاسيكية الاستعمارية التي للغرب مكانة فيها وسط وغرب إفريقيا. لكن المهم، أنَّ النظام الدولي القائم بعد الحرب العالمية الثانية لم يَعُد يصلح، بغض النظر عن الإيديولوجيات التي حكمته، وبات هذا النظام يُعيد ترتيب نفسه ليس عبر موازين القوى للدول المنتصرة، بل عبر فوضى الحروب والاضطرابات حول العالم، وهذه آلية ونظرية جديدة في علم العلاقات الدولية، متعلِّقة بإعادة إنتاج نظام دولي غير معهود، وليس كالذي حكمته الإيديولوجيات الرأسمالية والاشتراكية وتقاسمت النفوذ فيه على ما مقداره 82% من الناتج المحلي العالمي الإجمالي، في حين تستحوذ اليوم هذه القوى الدولية المؤثرة على معدَّل لا يتجاوز 66% من حجم هذا الناتج المحلي الإجمالي العالمي... فهل يخوض العالم مواجهة مفتوحة اليوم وما هي أدواتها؟ وما المسموح به أو حدود استخدام وسائل السيطرة والتطويع حول العالم؟ وهل يتحمل العالم وبلدان الجنوب وطأة الفقر وأزمات الغذاء والطاقة والنزوح؟

هدفَ اتفاقُ الحبوب بين روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة إلى تخفيف حدَّة أزمة الغذاء العالمية، بعد اندلاع الحرب بين موسكو وكييف واضطراب سلاسل التوريد، وبرغم بنود الاتفاق الواضحة، كانت رغبة روسيا قائمة على الدوام بالانسحاب من هذا الاتفاق الذي اعتبره بوتين "مخادعاً" بعد أن شعر بالنقص في تنفيذ بنوده، عدا أنَّ أوروبا هي المستفيد الأكبر منه كأكبر مستورد للحبوب وكمصدِّر أساسي للعملة الأجنبية التي تدعم حكم كييف.

هذه هي المرة الأولى التي تُستخدم فيها الحبوب للتأثير في التوازنات العسكرية. والذي اعتبرته الأمم المتحدة بأنه سيؤثر في حياة الملايين في المجتمعات الأكثر فقراً

عدم الرضى الروسي عن اتفاقية الحبوب والانسحاب منها، جاء استكمالاً لهجوم مضاد على أوكرانيا، إذ صعّدت موسكو هجماتها على البنى التحتية لميناء البحر الأسود الأوكراني والمرافق التي تستخدمها كييف لتصدير الحبوب عبر نهر الدانوب، وذلك بعد ممانعة الغرب بإعادة ربط البنك الزراعي الروسي بنظام "سويفت" العالمي الذي تمَّ قطعه، وهذا مطلب أساسي لموسكو في الاتفاقية، بالإضافة لما تسبَّبت به هجمات الدرونز الأوكرانية على ميناء سيفاستوبول، حيث اعتبر بوتين أنه لم تنفَّذ أي من بنود الاتفاقية المتعلقة بمصالح روسيا، منها تصدير الأسمدة والأغذية، بعد أن ضمنت عبور السفن الأوكرانية المحمَّلة بالحبوب بأمان، من دون وصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية.

فالعالم دخل في أزمة غذائية بعد تعرُّض مساحات زراعية أوكرانية شاسعة للتَلَف والتدمير، وصار انخفاض إنتاج القمح الأوكراني مؤكداً، فهذه هي المرة الأولى التي تُستخدم فيها الحبوب للتأثير في التوازنات العسكرية. والذي اعتبرته الأمم المتحدة بأنه سيؤثر في حياة الملايين في المجتمعات الأكثر فقراً، ولهذا حذرت المنظمة الأممية من أن ملايين الأشخاص في العالم سيدفعون الثمن.

ومع القرار الروسي بالانسحاب من اتفاقية الحبوب، والارتفاع المتوقَّع لأسعاره بسبب نقص المعروض، بدأ الأوروبيون يعدِّلون سياساتهم تجاه موسكو بواقعية، بعد الدعم اللامحدود الذي ظهر في طريق أوكرانيا عسكرياً، والتوافق مع الأميركي رغم الكلفة الباهظة التي تحمَّلوها، والضرر البالغ لاقتصاداتها من جراء العقوبات المفروضة على روسيا والتي انعكست على معظم دول أوروبا، فصار الاتحاد الأوروبي واقعاً بين مطرقة الروس، وسندان الأميركيين، وعاد ليفعِّل مقترحاً للبنك الزراعي الروسي، بإنشاء شركة فرعية تتيح له إعادة الاتصال بالشبكة المالية العالمية كوسيلة لإرضاء موسكو، والعمل للتوصل إلى تفاهمات اقتصادية لتصدير الحبوب واتفاقات مرضية لجميع الأطراف.

فهناك حقائق على الأرض ربما تشهد متغيِّرات، فبولندا أمام مواعيد واستحقاقات انتخابية جديدة، وأميركا دخلت معارك انتخابية للرئاسة، والسياسة البريطانية تبدَّلت وخفَّت حدة دعمها العسكري بعد الانتكاسات وعدم تحقيق التقدم المطلوب على الجبهة الشرقية الأوكرانية، بحيث تولَّد لدى الأوروبيين قناعة بالسعي لإبقاء خطوط الاتصال مفتوحة مع روسيا، بعد أن كلَّفت تبعيتهم لواشنطن الكثير رغم التضحيات الكبيرة التي قدمتها أوروبا لدعم أوكرانيا، فلم يُقدَّم للأوروبيين منافع، بل باعوا لهم النفط والحبوب بأسعار مضاعفة.

المشهد العالمي بعد انسحاب موسكو الأخير، وتهديدها بالتعامل مع أي سفينة أوكرانية تحمل شحنات من الحبوب في البحر الأسود كأنها تحمل أسلحة، يُعد تطوراً خطيراً، وهو يوحي أن بوتين أراد الانتقام المزدوج من أوروبا وأوكرانيا، أولاً بسبب دعمها العسكري لأوكرانيا بعد صفقات الأسلحة الحديثة من دبابات وصواريخ، ثانياً عن طريق حرمانها من الحصول على العائدات بالعملة الصعبة بالدولار واليورو.

في المقابل، جاءت الهجمة الأميركية المرتدة إلى الشرق الأوسط سريعة، إذ استنفرت واشنطن واستجمعت قواها ليتبدَّل المشهد السياسي والعسكري من دون الخوض في حرب أو إعلان فتح جبهات عسكرية جديدة، فالعالم لا يتحمَّل حربين في وقت واحد في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وهذا يتعلَّق بالتحضير للانتخابات الرئاسية الأميركية من أجل فوز الرئيس جو بايدن بولاية ثانية، ولإظهار قوة واشنطن داخلياً وخارجياً مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي، مستنداً ومنطلقاً من نجاحه في إعادة ربط الولايات المتحدة بحلفائها الأوروبيين واكتساب ثقتهم، خاصة بعد الهجوم الروسي، وتجاوز المساعدات الأميركية لكييف الـ 70 مليار دولار.

يريد بايدن بذلك القول، إنه أعاد الحلفاء في أوروبا وحلف الأطلسي والشرق الأوسط والخليج العربي إلى الحضن الأميركي، وتمكّن من إشغال وإضعاف الروس، وأبعد الخطر الصيني مؤقتاً

فعلامات الهجمة الأميركية المضادة في الشرق الأوسط بعد الانشغال الروسي، ومواجهة الصين الطامحة إلى التمدُّد سياسياً واقتصادياً عبر آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، هي إعادة الحليف السعودي الذي خرج من الكَنَف الأميركي وإبرام اتفاقٍ مع إيران في بكين وتحت رعايتها، فصارت واشنطن أمام تحدِّيين: صيني وإيراني، ولأن مدرسة الإدارة الأميركية تعتبر أنَّ رسم الخطط كفيل بالحدِّ من طموحات الدول بدل المواجهات التي ستُفرض على الأميركيين، فقد سلمت بحرِّية التفاوض السعودي مع إيران وتبادل العلاقات لحل الخلافات المستحكمة، وتحفَّظت بشدة حيال العلاقات الاقتصادية للرياض مع بكين، إذ سيكون الدخول إلى حسابات من هذا النوع شائكاً ومعقداً، ولهذا تدخَّل بايدن مع الرياض لدفعها للتراجع عن اتفاق بكين ولإبعاد المملكة عن الصين، مقابل الدعم الذي تحتاج إليه سياسياً وعسكرياً، حفاظاً على استقرارها وأمن الخليج عموماً.

يريد بايدن بذلك القول، إنه أعاد الحلفاء في أوروبا وحلف الأطلسي والشرق الأوسط والخليج العربي إلى الحضن الأميركي، وتمكّن من إشغال وإضعاف الروس، وأبْعد الخطر الصيني مؤقتاً، وأبْقى إيران في حال المراوحة وعقد الصفقات الجانبية معها خصوصاً ما حصل مؤخراً بعد الإفراج عن 6 مليارات دولار، بحيث لا يمكنها الانفتاح على أية دولة في محيطها، إلاَّ إذا حصلت على الضوء الأخضر الأميركي.

وبهذا، ستظهر واشنطن من جديد قوية وقادرة على التلاعب في طبيعة العلاقات العربية مع إيران، كونها مركَّبة ومتشابكة، ونجاحها برعاية الصين مملوء بالرهانات والاختبارات والعَثَرات. رهانات تتعلَّق بالاستقرار الإقليمي والتنمية المستدامة وهي مفقودة بكلِّ الأحوال، واختبارات في المسار العملي لتسوية الخلافات وتصفية الأزمات والحروب، وهذا دونه عقبات تتعلَّق بالصراع العربي_الإسرائيلي بعد الغضب الإيراني إثر الحديث الأميركي عن تسوية شاملة للقضية الفلسطينية مقابل التطبيع مع إسرائيل، التي على إثرها تبعْثَرت أوراق التسوية الرئاسية في لبنان، ونشأ صراع مسلَّح في المخيمات الفلسطينية، وتفلَّت الوضع الأمني في هذا البلد، في رسالة ردٍّ على الأميركي بانتهاجه سياسات جديدة في الشرق الأوسط، وهذا أيضاً ينسحب على حرب اليمن وصولاً إلى أزمات العراق وسوريا والصراع النهائي وتسويته مع إسرائيل.