icon
التغطية الحية

"النهش" | قصة

2023.06.12 | 13:12 دمشق

قصة
+A
حجم الخط
-A

"النهش"

 

-1-

"النهش" هو النهر الذي يتشكل من عيون ماء حيث لا يوجد ممر يسير فيه، فينهش التراب الذي يعترض طريقه حتى يحفر لنفسه حوضاً يحتضنه ويوصله إلى نهر أو ساقية أكبر.

هذا ما توصلت إليه وأنا جالس على كتف النهش، معتمداً على المعلومات الممتعة التي أعطانا إياها اليوم الأستاذ عبد السلام في درس النحو عن النحت اللغوي.

كنت أسقي من مياه النهش  الخضروات التي زرعتها أمي في حصتها من الأرض التي ورثتها مؤخراً عن أبيها. صحيح أن جدي توفي منذ عشرين عاماً، وأن أمي تنازلت مع أخواتها عن ميراثهن لأخوتهن بناء على طلبهم، خجلاً فقط. لكنّ سبباً ما جعل أخوالي يعيدون لأخواتهم جزءاً من ميراثهن، مع مرور الوقت سأقتنع أنه كبرهم، واقتراب بعضهم من هزيع العمر، حيث قد تنتهي الحياة فجأة لتبدأ حياة أخرى فيها حساب وجزاء.

زرعت أمي مسكبة واحدة من كل من الباذنجان والبامياء والبندورة والبصل، واليوم موعد سقايتها نصف الأسبوعي. كنت أدير الماء إلى المسكبة، وأنتظر بلوغه نهايتها على كتف النهش حيث أضع رجليّ في مياهه الباردة، وأتصفح كتاب النحو مستمتعاً بقراءة الأبيات الشعرية المستشهد بها كأمثلة، ومحاولاً حفظ بعضها لاستخدامها في المباريات الشعرية مع أخواتي في البيت أو زملائي في المدرسة خاصة صديقي عصام الذي يبدو أنه ورث حب الأدب العربي عن أبيه الأستاذ عبد السلام.

خالاتي أيضاً زرعن في حصصهن المجاورة الخضروات، وهن مثل أمي، يصررن على أن يسمّين هذه الأرض التي حصلن عليها باسمها القديم، البستان، لأنها كانت مزروعة بمعظم أشجار الفواكه من تفاح وبرتقال ودراق ومشمس وخوخ وعنب، وبأكثر من نوع، وذلك عندما كان النهش يفيض عن ضفتيه. أما الآن فلم يتبق من البستان إلا عدة أشجار تين أتجه إليها أحياناً لالتقاط بضع طابات ناضجة. أشجار التين متاخمة للقطعة العسكرية التي تنبع من أرضها عيون النهش، والبستان محاصر كمثلث بين القطعة والنهش والطريق.. لقد كانت أرض القطعة العسكرية فيما مضى امتداداً لأرض البستان، ولكن جدي اضطر إلى بيعها بثمن رخيص للحكومة التي وضعت يدها عليها.   

 -2-

ها هي الشام بعد فرقة دهر      أنهر سبعة وحور عين

كنت قرب النهش أقرأ قصيدة نزار قباني التي أخذناها اليوم في درس النصوص، وأتذكر عينيّ الأستاذ عبد السلام وهو يشرحها لنا. كانت النشوة فيهما تنير الصف وهو يحدثنا عن دمشق التي درس في جامعتها الأدب العربي. أخبرنا أنه زار الغوطتين، وشرب من مياه كل نهر من الأنهار السبعة التي ترفد نهر بردى، ومن عيون الكثيرات من الحور العين اللاتي يجعلن لهواء الشام عبقاً أطيب من سواه. أخذت نفساً عميقاً ملأت به صدري، ثم زفرته وأنا متفاجئ بنفس العينين المنتشيتين وقد حضرتا أمامي. كان صديقي عصام قد جاء من دون أن يعلمني عن رغبته بالقدوم عندما كنا  في المدرسة. جاء ليخبرني عن قراره الذي اختاره فيما يخصّ مستقبله، إذ قرر أن يدرس الأدب العربي في جامعة دمشق، كما قرر أن يصبح شاعراً، وبالفعل: أراني دفتراً صغيراً مختلفاً عن الدفاتر المدرسية، دوّن في صفحته الأولى بخطه الجميل أول أربعة أبيات نظمها، وفي الصفحة الثانية قرأت تعليق الأستاذ عبد السلام الذي اعتبره ثلاثة أرباع شاعر لأنه كسر الوزن في أحد الأبيات. فرحت كثيراً، ونويت أن أشتري دفتراً مثله لأكتب عليه. وبينما كنا نضحك، ناداني أحد الجيران كي أدير الماء إلى مسكبة أخرى لأنه وصل الطريق.

-3-

صار عصام يلحقني إلى البستان في كل موعد سقاية، وأحياناً يسبقني. كان يقرأ لي ما يكتبه من شعر. أو نتبارى شعرياً بأن يقول أحدنا بيتاً، ثم يتوجب على الثاني قول بيت آخر يبدأ بنفس الحرف الذي انتهى به البيت الأول، وهكذا يتم التبادل بيننا إلى أن يعجز أحدنا عن قول البيت المطلوب فيخسر. كان الواحد منا يحاول أن يقول بيتاً صعب القافية كي يعجز الثاني. في البداية كنت الفائز غالباً، وفيما بعد صار عصام دائم الفوز لأنه صار حين تفشل ذاكرته في استحضار بيت،  يرتجل واحداً. وفي إحدى المرات التقط عصام ورقة جريدة مما يصل إلى البستان متطايراً من القطعة العسكرية حتى يعلق بإحدى شجيرات الخضار. تصفح عصام الورقة بنهم حتى كاد يأكلها بعينيه ثم أخبرني أن هذه الصفحة مخصصة لأدب الشباب، وأنه قرر أن يرسل إليها قصيدة.  

-4-

السرطان هو مجموعة من الخلايا التي تخرج عن نظام الجسم، فتبدأ التكاثر بطريقة عشوائية وفوضوية تؤذي العضو الذي تنشأ منه أولاً قبل أن تنهش الأعضاء المجاورة، وإذا لم تستأصل في موضعها فقد تنتقل بالدم إلى أعضاء أخرى أبعد لتعطل وظائفها.  

هذا ما استنتجته من قراءتي في الكتب الطبية التي سأدرسها في السنوات القادمة من كلية الطب التي دخلتها منذ سنتين. دفعني إلى القراءة حول الموضوع ما أخبرتني به أمي اليوم قبيل قدومي إلى البستان. قالت لي: إن الأستاذ عبد السلام مصاب بذاك المرض. وقد كان الجميع –بمن فيهم طبيبا القرية- مقتنعين بأن سبب نحول الأستاذ عبد السلام وشحوبه هو اعتقال ابنه وصديقي عصام بسبب قصيدته "بردى شهيد الماء" التي  نشرتها له إحدى المجلات الصادرة خارج البلد، والتي يعارض عنوانها عنوان قصيدة "بردى نبيّ الماء" للشاعر جوزيف حرب. يرثي عصام في قصيدته نهر بردى، لكن أحد فروع الأمن قرأ فيها اتهاماً للحكومة بقتل النهر خاصة والبلد عامة، فاعتقله. تذكرت أول عودة لعصام من دمشق بعد أن سجل في كلية الآداب. لم يذهب إلى بيته بل جاء إلى بيتي أولاً، وعندما علم أني في البستان تبعني، وحقيبته الممتلئة على كتفه. عيناه كانتا ممتلئتين أيضاً بالدموع. ظننته الشوق فحضنته. لكنه أخبرني عن صدمته بما آل إليه النهر الذي قرأنا عنه. لقد اضطروا أن يبلّطوا أرضه كي يستطيع بعض الماء القذر الحركة. نظرت إلى النهش الذي جف بعد أن جفت عيونه، ما اضطر أهلي إلى استجرار الماء من الساقية التي كان يصب فيها، والتي ما زال يسيل فيها ماء ، لكنه ماء أسود وسخ كريه الرائحة، بفضل الصرف الصحي للقرى والمعامل المجاورة لها. انتبهت لصياح أحد الجيران  وهو يعلمني أن الماء وصل الطريق، فأدرته لمسكبة ثانية من فول الصويا الذي صرنا نزرعه بدل الخضروات. التفتُّ إلى مكان أشجار التين التي أزالتها القطعة العسكرية عندما بدلت الأسلاك الشائكة إلى جدار إسمنتي عال، لكنه لا يمنع أوراق الجرائد من التطاير خارج القطعة، أمسكت واحدة تتحدث عن آخر إنجازات الحكومة. شعرت بألم ينهش صدري، وكانت تلك المرة الأولى.  

****

كلمات مفتاحية