النسوية.. القضية والحركة من منظور تنموي

2023.05.01 | 06:58 دمشق

النسوية
+A
حجم الخط
-A

لا يكفي التعامل مع قضايا تحرير النساء وتعزيز مشاركتهن في الحياة العامة، ومحاربة العقلية والممارسات الأبوية، على أنها موضوعات للجدل الاجتماعي والصالونات الثقافية، أو أنها مسائل تعني بعض النساء فقط. لا بد من نقل تلك القضايا لتصبح بنوداً مركزية في برامج التحديث الاقتصادي والسياسي وخطط التنمية البشرية الشاملة من جهة، ودمجها ضمن أهداف الحركات التحررية، خارج إطار الحركة النسوية بشكلها التقليدي. لكن ذلك يفرض إجراء مراجعة للتعاطي الحالي مع القضية النسوية ولأداء النسويين والنسويات في المنطقة العربية.

  • القضية النسوية

من الناحية النظرية، يبدو أن هناك قناعة متزايدة عالمياً بأنّ تحرير المرأة وضمان مساواتها مع الرجل بموجب القانون مسألة ضرورية للنهوض والتطور والازدهار. نتيجة الواقع الاجتماعي والسياسي الحالي، تُحرم المرأة من كثير من حقوقها، ويُحرَم المجتمع من مشاركتها في الحياة العامة. ولا شك أن تغيير الوضع الحالي سيترتب عليه خسارة البعض شيئًا من امتيازاتهم، وهو ما يفسّر حجم المقاومة والرفض للتغيير والتشويه الذي تتعرض له القضية النسوية.

القضية النسوية هي في صلبها قضية الجميع، أقصد جميعَ من يؤمن بضرورة التغيير نحو مجتمع أكثر عدالة وسلماً ورفاهية. وينبغي أن يكون تحرير المرأة وحماية حقوقها قضية كلّ من يسعى للتغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والرفاه

القضية النسوية هي في صلبها قضية الجميع، أقصد جميعَ من يؤمن بضرورة التغيير نحو مجتمع أكثر عدالة وسلماً ورفاهية. وينبغي أن يكون تحرير المرأة وحماية حقوقها قضية كلّ من يسعى للتغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والرفاه، سواء كان ليبرالياً يعلي من شأن الفرد ويسعى لصون حقوق الإنسان، أو يسارياً يرى أن مصلحة المجتمع أولاً.

فالعائد من تحرير المرأة ومساواتها بالرجل يصبّ في التقدم الاقتصادي والثقافي والتغيير السياسي. والمستفيد من ذلك هو المجتمع ككل، وليس النساء فقط. وإذا اقتنعنا بذلك، بات تحرير المرأة وتمكينها قضية الجميع، وبندًا أساسيًا في أيّ مشروع تنموي.

تحرير النساء واستعادتهن لحقوقهن، قضية كل التحرريّين المؤمنين بمساواة الجميع بلا استثناء، بموجب القانون، وكل من كانت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان مرجعيتهم. وإضافة إلى ذلك، هناك أسباب عملية تنبع من أن أسلوب الإدارة المجتمعية والسياسية الحالي يحتاج إلى رفده بطاقة نسائية أكثر وضوحاً وفاعلية. فمشاركة المزيد من النساء في السياسة حاجة ملحّة، وليست مجرد هدية أو مكرمة تُعطى للنساء كجائزة ترضية أو كمظهر تحديثي شكلي.

التركيز على مسألة توسيع تمثيل النساء ومشاركتهن في الإدارة وصنع القرار ليس مدفوعاً باعتقاد أن النساء مختلفات فِطريًّا بطريقة إدارتهن للقضايا العامة، أو أن عالمًا تديره نساء سيكون أفضل حكمًا، وإنما لأنّ النساء بقين بعيدات ومستبعَدات عن دوائر صنع السياسات وشبكات المصالح والعلاقات العامة، عبر جملة عوائق بنيوية مؤسسية زادت كلفة وصول المرأة إلى مناصب قيادية، وأدوات ثقافية عززت صورًا نمطية سلبية عن القدرات الإدارية والسياسية للمرأة. ونتيجة لذلك الاستبعاد، هنّ، بغالبيتهن، غير متمسّكات بقواعد اللعبة السياسية وأساليب الإدارة التي استقر عليها العرف السياسي وتقاليد الإدارة والخطاب والسلوك.

في رحلة السعي لنيل المرأة حقوقها، لا بدّ من التركيز على رفع الوصاية عن جسدها. ولن يحصل تقدّم على هذه الجبهة ما لم تُمنع الجماعات والتيارات المتطرفة، الآتية من مختلف المشارب الأيديولوجية، من استخدام المرأة في حروبهم مع بعض وحملاتهم الدعائية. إن جسد المرأة وزيّها وسلوكها ليست قضايا شأن عام، ولا هي مسائل ينظمها دستور أو قانون أو شريعة. فمظهر وسلوك أي إنسان هو مسألة اختيار وتقدير شخصي، محكومة بضوابط عامة، تشمل الجميع، ذكورًا وإناثًا، غايتها الأساسية حماية الحقوق ومنع التعدي على حريات الآخرين.

  • الحركة النسوية

الحركة النسوية بِنت الواقع، تعاني مما تعانيه أغلب الحركات والمنظمات والأحزاب في منطقتنا. ومن جملة مشكلات الحركة النسوية نزعتها الانعزالية المبنية على فهم قاصر لواقع المرأة في منطقتنا. المقابلة بين رجال مضطهِدين ونساء مضطهَدات، مهما اقتربت من الصحة، تُسهم في ترسيخ الانقسام وتشتيت جهد الحركة النسوية، بوصفها أساساً حركة اجتماعية سياسية قضيتها قضية التحرريين، رجالًا ونساء.

وإذا كانت الراديكالية النسوية مُحقّة في غضبها واندفاعها، فإنها خطيرة من حيث نتائجها، ولن تخدم القضيةَ النسوية، باستثناء بعض النتائج المحدودة في المدى القصير. ومع ذلك، لا يبدو التيّار النسوي ذو الصوت الاحتجاجي العالي معنيًّا ببناء تحالفات أو توضيح أهدافه وتوعية المجتمع بحقوق النساء وتثقيف الأفراد بجوانب الخلل في النظرة السائدة للمرأة ولمشاركتها في الحيز العام (السوق، المركز الثقافي، الجامع، البرلمان).

بالحديث عن الراديكاليات من النسويات، تنحو بعضهن منحى التقليديين الذين يؤمنون بأن الحل هو تفعيل الرابطة العصبية (الأختية) لتجاوز قلة حيلة النساء. ولأن الذكورية متغلغلة في كل جوانب حياتنا، حتى في القوانين والمحاكم، يتم تبرير "أخذ الحق باليد"، وهو نفس تبرير عادةِ الأخذ بالثأر، حيث لا ينتظر أهل المغدور حتى تأخذ الدولة حقهم، فلا ثقة بعدالتها ولا وقت للانتظار.

المخرَج الآمن هو بربط الحركة النسوية بغيرها من الحركات التحررية التحديثية، ودفع الآخرين لتبني الأجندة النسوية والدفاع عن مطالبها ودمجها بخططهم وأهدافهم. النقطة الأخرى شكلية، بمعنى تقديم الحركة النسوية كما يجب، أي قوة بناءة لديها مشروع وتصوّر واضح لغاياتها وأدواتها وموقعها على المسرح السياسي، وليست مجرد ردة فعل غاضبة أو قوة هدم فقط.

وضع القضية النسوية ضمن سياق نضالي تحرّري أوسع منها لا ينفي خصوصيتها، وليس فيه حرف للقضية عن محورها. لكن هناك حقائق لا يمكن تجاوزها، منها أن الدعوة لاحترام اختيار المرأة لا تتعارض مع السعي لتمكينها وإتاحة الفرصة لتعرف حقوقها والفرص المتوفرة لها. فلا معنى لحرية الاختيار في بيئة مصبوغة بالجهل المعرفي والحرمان المادي.

ومن تلك الحقائق أيضاً أنّ تحصين حقوق المرأة وتعزيز مشاركتها لن يتحقق في بيئة اجتماعية منغلقة تجتر سرديات الأجداد. والعنف ضد المرأة لن ينتهي ما دام الضرب مستمراً كلغة تواصل بين الأهل وأبنائهم، والمدرسين وتلاميذهم. وتحرير المرأة لن يتحقق ما دامت الكلمة العليا في المجتمع هي لشيخ القبيلة وشيخ الجامع والخوري.

إنّ التغيير الشامل يحتاج إلى مسارات إصلاح متوازية تتقدّم فيها القضايا معاً. فالقضايا في الواقع متصلة ومتشابكة بحيث إن أي نتيجة إيجابية تتحقق في أحد القطاعات ستبقى مؤقتة ومهددة بالتلاشي، إن بقيت أوضاع الجبهات الأخرى على حالها. فلا مناص من إبقاء يد الحركة النسوية ممدودة للتحالف مع الآخرين والتشبيك معهم لتشكيل جبهة أوسع. فالانعزالية تصيب الحركات الاجتماعية بمقتل، والحركة النسوية ليست استثناء.

لكن لا بد هنا من إيضاح بعض الإشكاليات العملية، إذ يبدو من الجدالات التي يشهدها الفضاء العام أن هناك تفاوتًا معرفيًا صارخًا في كل ما يتعلق بجوهر القضية وأهدافها وأدواتها وتفاعلاتها السابقة ومساراتها الفكرية والحركية، في منطقتنا وخارجها. هذا التفاوت يجعل أغلب النقاشات العامة حول النسوية عقيمةً، لأنها غالبًا ما تبدأ بكثير من الافتراضات، ولما يتخلّلها من شكوك وسوء نية وقلّة تفهّم للسياق الفكري والتاريخي للموقف المقابل. ولا تتحمّل الحركة النسوية هنا سوى جزء من المسؤولية، والباقي هو انعكاس لسيادة جهل معرفي عام ورهاب التغيير، وكلاهما يغذيهما تيار ديني واجتماعي محافظ قوي الحضور.

حالمٌ مَن يظن أن تحرير المرأة يمكن أن يتم بسلاسة، حاله حال أي تغيير في منطقة راكدة فكريًا ومتخلفة عن غيرها في مضامير التحديث. هناك دائمًا ثمن للتغيير..

أضيف هنا إشكالية أخرى يمكن توصيفها بالنزعة الوصائية في الخطاب النسوي السائد، ما يخلق عداوات ومقاومة من نساء هن بالأصل المعنيات بالتغيير. لكن حل تلك المشكلة لا يكون بالاستسلام لمزاعم الخصوصية الثقافية والصدام الحضاري، بل بالتحرك باتجاهين: أولًا، ببذل جهد تواصلي للتشبيك مع النخب من كل التيارات والمواقع، وثانيًا، بنشاط توعوي لتوسيع القاعدة الشعبية الداعمة.

ختامًا، حالمٌ مَن يظن أن تحرير المرأة يمكن أن يتم بسلاسة، حاله حال أي تغيير في منطقة راكدة فكريًا ومتخلفة عن غيرها في مضامير التحديث. هناك دائمًا ثمن للتغيير، وكما أسلفت، هناك حقوق ستستعاد وبعض الامتيازات ستنتقل من يد ليد، لكن العائد من تلك التحولات سينتفع به المجموع، بصورة أكثر عدالة مما لدينا اليوم. والأصل أن تشمل حرية القرار والاختيار والفكر والتعبير الجميعَ، نساءً ورجالًا، وأن تقوم جميع العلاقات الإنسانية والمبادلات التجارية على أساس من حرية الاختيار والحقوق المتساوية. يشمل ذلك مؤسسة العائلة، لكنه لا يقتصر عليها، بل يمتد ليكون قاعدة ناظمة في كل زوايا الفضاء العام. وحينها فليحدث الاصطفاف والفرز وتوزيع الأدوار وفق معيارين وحيدين: الرغبة والكفاءة.