المسيحُ يُصلب من جديد والسوريّ كذلك!

2019.10.08 | 16:31 دمشق

hqdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

في روايته الشهيرة "المسيحُ يُصلبُ من جديد" يتحدّث نيكوس كازانتزاكي عن تقليدٍ درجَ على العمل به سكّانُ إحدى القرى اليونانيّة، من خلال إعادة محاكاة سيرة عيسى ابن مريم، بحيث يختارُ وجهاءُ القرية من أبنائها شخصيّاتٍ لتمثيل الأدوار المختلفة، ويكون الاختيار بناءً على مواصفات شكليّة بغضّ النظر عن الجوهر، فيتمُّ اختيارُ ممثل شخصيّة المسيح من بين الفتيان الوسيمين، بينما يُنتقى ممثلُ شخصيّة يهوذا الإسخريوطي من بين ذميمي الخِلقة قبيحي الشكل.

تدور أحداث المسرحيّة الواقعيّة على مدى عامٍ كامل، يلتزمُ خلاله الممثلون بتقمّص الشخصيّات الحقيقيّة ولعب أدوارها وتقليد سلوكياتها وتصرّفاتها، فيبذلُ ممثلُ شخصيّة المسيح كل جهده لمساعدة المحتاجين والفقراء، بينما يسلكُ يهوذا كل السبل المؤدية إلى صلب المسيح، فيما يأخذ الوجهاء أدوار المتنفّذين وأصحاب رؤوس الأموال والتجار.

جرّاء الحرب التركيّة اليونانيّة، وخلال فترة تمثيل فصول المسرحيّة، ينزح أهالي قرية أخرى مع قسّيسهم طالبين الملجأ والمعونة من أهالي القرية المذكورة. هنا يبدأ الصراع بين الخير ممثّلاً بأولئك الذين يبذلون قصارى جهدهم لرعاية اللاجئين ومساعدتهم، وبين الشر ممثلاً بالتجار والوجهاء الذين يحجمون عن ذلك، بعد أن يتبيّن لهم عدم إمكانية الاستفادة من هؤلاء الفقراء. يلخّصُ ذلك الصراعَ مقطعٌ حواريٌّ يدورُ بين القسّيس اللاجئ مع أبناء قريته والقسّيسِ المُستضيف. تناقشُ الروايةُ حالة البشر عبر الأزمان والعصور وتجسّدُ الصراع بين القيم والأخلاق وبين المصالح والشهوات، من خلال سردٍ رفيع المستوى يُظهر مكنونات كلّ شخصيّات الرواية.

تحضرُ الروايةُ بمعانيها وشخوصها، كلّما ألمّت نائبة بشعب من شعوب هذه الأمّة

لقد أصبحنا معضلة للعالم أجمع، لقد صرنا كُرة تتقاذفها الأرجل، أو مركباً في عرض المحيط تتلاطمه الأمواج الهوجاء وتأخذه يمنة ويسرى

المترامية من الماء إلى الماء. لم يقف التوحّشُ – ويكاد القلب يتفطّر لوسم الوحوش بسمات ليست فيهم – عند هذا، بل إنّه يتصاعد ليملأ الزمان والمكان، وتكادُ تتكرّر المشاهد يومياً في حالات جماعية وأخرى فردية، من لبنان إلى تركيا والعراق، إلى الخليج ودول المغرب العربي.

لقد أصبحنا معضلة للعالم أجمع، لقد صرنا كُرة تتقاذفها الأرجل، أو مركباً في عرض المحيط تتلاطمه الأمواج الهوجاء وتأخذه يمنة ويسرى. نحن المهمّشين في الأرض، شاهدٌ لا يموت على ضمير العالم المتيبّس، أمثولة يضربها الطغاة لشعوبهم عند كلّ نَفَسٍ، وألعوبة يلهو بها العنصريون والجهلةُ وأصحاب خطابات الكراهية. بتنا أوراق ضغط في يد الساسة من حكّام ومعارضين، ممن هم في السلطة وممن يسعون للوصول إليها، هكذا كُتب علينا، أو اخترنا لأنفسنا طريقاً شاقّاً وطويلاً، قد يوصلنا إلى أيّ مكان قبل أن يوصلنا إلى الوطن المُشتهى والمأمول.

هكذا كان علينا أن نتحمّل الصلبَ وأن نحمل الصليب كل يوم وكلّ ساعة، كفّارة عن ذنب عظيم لا يُغتفر. لقد راودتنا الحريّة عن أنفسنا، وغرّرت بنا الكرامة أن نكسر قيود الذلّ والمهانة، وساقتنا أحلامنا نحو دروب ومتاهات لا رجعة منها.

قبل أيام انتحر الطفل السوري وائل السعود في ولاية كوجالي في تركيا. كان وائل ابن التسعة أعوام من الطلاب المتفوقين في مدرسته، لكن بسبب التنمّر والاضطهاد وصل به الأمر لأن يعلّق نفسه على باب مقبرة المدينة التي يقطن فيها وأهله. لم يسلم أطفالنا من أذيّة زملائهم ومعلميهم في المدارس، ولا من أذيّة أقرانهم في الأحياء وفي كل المجتمعات المضيفة على العموم. الأنكى من ذلك أنّ تعامل المجتمع التركي والأحزاب والإعلام ومؤسسات الدولة وأجهزتها مع هذه القضيّة لم يرقَ إلى المستوى الإنساني والحقوقي المطلوب، الذي يسمح لنا القول بوجود نيّة حقيقية لمعالجة هذه الظاهرة العنصرية المتنامية ضدّ اللجوء السوري في تركيا. بكلّ الأحوال تبقى مقاومة هذا الإجحاف مسؤوليتنا نحن السوريين بالدرجة الأولى، وعلينا أن نحارب للوصول إلى حقوقنا.

ضمن أحد ردود الفعل على حادثة انتحار الطفل وائل، والقصور الواضح في فهم طبيعة المركز القانوني للاجئين، كتب القاضي الأستاذ أنور مجنّي على صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي Facebook ما يلي:

"العنصرية جريمة، ولا تعالج بالاستجداء والدعاء.. وإنما باللجوء إلى القضاء إضافة إلى الشكاوى الإدارية عبر الطرق الرسمية، ويضاف إلى ذلك حملات الحشد والمناصرة.. مع التركيز على دور الإعلام. ويجب أن يعلم السوري قبل غيره، أنّ وجوده في أي بلد بصفة لاجئ أو أي تسمية أخرى، تعني أنه لا يتمتع بالحقوق السياسية (الترشح والانتخاب).. لكنه يتمتع بكل الحقوق التي تحفظ كرامته وحياته وعيشه الكريم، والتي تقرّها القوانين الوطنية والدولية، وأنّ تفريطه بحقوقه سيؤدي إلى مزيد من العنصرية."

في حالة ثانية في بلد عربي كان جزءاً من سوريا في يوم من الأيام، طفلٌ سوريّ يحملُ اسماً لن أذكره كي لا ألحق الضرر بأهله، له أب وأمٌ وأخوةٌ وأخوات يسكنون بلدة لبنانيّة منذ خمسة عشر عاماً، يُتوفّى إلى بارئه قضاءً وقدراً، فيدفنه والده في مقبرة البلدة. يقضُّ جسدهُ الغضُّ مضجعَ الأموات في المقبرة، فيستنفرُ أحدُ حُراس الأرز لطرد الجثمان منها، مُجبراً أهلهُ على القيام بذلك قبل أخذ العزاء بابنهم.

أثار الحادث الأليم بعض ردود الفعل، وتحدّثت به بعض الصحف ووسائل التواصل من باب السبق الصحفي، ونددت به بعض منظمات حقوق الإنسان، لكن وبكلّ أسف، لن يغير هذا كلّه شيئاً في واقع الأمر، لن يفيدنا اجتماع القائم مقام والمجلس البلدي، ولن يبدّل المآلَ شجبُ المشايخ وأهالي القرية للفعل وإدانة فاعله أخلاقيّاً، ولن تُعيدَ للأهل كرامتَهم إحالةُ المتهم بهذا الفعل على القضاء وتوقيفه، لن يُلغي فعلُ الخيرِ الذي قام به الدكتور خالد عبد القادر، بشراء قطعة أرض وتخصيصها كمقبرة لأموات السوريين، آثارَ هذا الجرمِ، ولن يخفف من مفاعيل الألم الناتج عن هذه العنصرية المزرية والمقيتة.

يستحضرُ الألمُ والوجعُ المرُّ قصيدةَ الشاعر العراقي مظفّر النواب "عروسُ السفائن" وفيها يجوحُ الشاعر مع روح الطفل الفلسطيني ودموع جدّه وانكسار أمه، على جسدٍ رفضوا للتراب أن يضمّه، وها هم إخوته السوريّون يبكون بذات المقبرة بحثاً عن سكينة وراحة في الممات، ولا يجدونها.

"...وكان نسيمُ الطفولة ينضحُ مما شقوقُ الجنازة بين المخيم والشام تنصتُ أين اللقاءُ؟ ... جنازةُ من هذه، ولماذا بلا وطن، وكلابُ الخليفة تنبحُ من حولها، والمخيّمُ يحملها راكضاً والشوارع تعرقُ... أليست هي الأرض ملكٌ لربّ العبادِ؟ وهذي الجنازة أصغر من إصبعي فادفنوها... وأمُّ الجنازة يكسرُها الانحناءُ... وجدُّ الجنازة أعمى يتأتئُ والعينُ يرشحُ منها على الصمت ماءُ... هنا دفن الطفلُ في آخر الأمرِ.. يا أرض غزّة فاسترجعيه لئلّا مقابرُهم تستفزُّ..."

يا أرضَ سوريا فاسترجعيهم لئلّا مقابرهم تُستفزُّ، يا بحرُ الفظ أجسادهم لئلّا تتنجّس، يا هواءُ اقطع أنفاسهم لئلّا تتلوّث، يا فضاءُ أوصد أبوابك أمام أرواحهم – الصاعدة إلى حتفها – لئلّا تتوجّس، يا مجرّات يا كونُ...يا الله، أما لهذا الألم من نهاية؟

أمس واليوم وغداً، يُصلبُ المسيحُ من جديد، والسوريّ كذلك.